طيّب جبّار.. أضواء على تجربة شاعر كردي معاصر

طيّب جبّار.. أضواء على تجربة شاعر كردي معاصر
ذيول الغيم على سفوح الجبل
فريد أمعضشـو
وُلد الشاعر طيب جبار من أبوين عراقييْن كردييْن، في إحدى قرى كركوك، عامَ 1954، وتخرّج مهندساً من جامعة السليمانية عام 1976. بدأ كتابة الأشعار منذ 1973، ونشرَها في جملة من المنابر الصِّحافية المحلية والقومية، قبل أن يتوقف عن ذلك مدةً فاقت العقدين من الزمن. إن الرجل، إذاً، فنّان رهيفُ الحِسّ ضرب بسهم في فن الشعر، وبآخرَ في فن الهندسة المعمارية. وقد أفاده الجانبان معاً في حياته الفنية والعمَلية على نحو واضح؛ إذ استفاد من خبرته الهندسية في نظْم قصيده ورَصْف أجزائه، ومن موهبته الشعرية في تصميم خططه وفي مجال اشتغاله المِهْنيّ بصفة عامة. وقد أكّد طيب جبار نفسُه هذا الأمر، في حوارٍ أجْرته معه سهى شامية لصالح جريدة القبَس ، قائلاً هناك علاقة قوية جدّا بين الشعر والهندسة. فكلاهُما فنٌّ.. أداة الشعر هي الكلمات والجمل والصّور.. أداة الهندسة هي المواد الإنشائية، كالتراب والحصى والرمْل والماء والجَصّ والحجر والحديد والخشب والزجاج والأصباغ… أنا حسّاس ودقيق جدّا في اختيار الكلمات، ووضْعها في موقعها المناسب في الجملة والصورة الشعرية، لئلاّ يحْدث خللٌ لدى المتلقي، لكي تكون الصورة سهلة التصوُّر لديه، رغم عدم واقعية الصورة. الشيءُ نفسُه أمارسه في الهندسة من جهة الدقة في اختيار الموادّ، وكيفية استعمالها، وضبْط الأبعاد والمَناسيب، وتوزيع الأشكال، واختيار الكوادر البشرية الماهرة، واستخدام الآليات المناسبة في المشروع الهندسي، من دون إلحاق الأذى بحواسّ الإنسان أو إعاقة حركته كيْ يتمتع بالراحة والجَمال. 1
جماعة كفري كركوك
وقد انطلق بعض الدارسين من التاريخ المذكور آنفاً، الذي أبدع فيه طيب جبار أولى قصائده، لتصنيف الشاعر ضمن جيل السبعينيات في الشعر الكردي الحديث، أو الجيل الثاني، وهو الجيل الذي أعقب جيل الرواد. ولعل أبرز ما وَسَمَ شعر أكراد العراق في أوائل سبعينيات القرن الماضي طابَعه الحداثي، ونزوعه إلى التحرر من قيود القصيدة الكردية الكلاسيكية التي كانت شديدة التأثر بأشعار الأمم المُجاورة، وإلى الخروج على تقاليدها في المضامين والأشكال معاً. وقد حمل مشْعلَ التجديد، وقتئذٍ، لفيفٌ من الشعراء الأكراد الشباب الذين أصدروا، في أبريل 1970، بياناً أدبياً باسم روانكه المرصد ، دعوا فيه، بصريح العبارة، إلى تطوير الشعر الكردي وتحديثه وربْطه بمحيطه وعصره. وممّا جاء فيه قولهم نريد أن تساير نَتاجاتنا روحَ العصر وتياراته الجديدة.. نريد أن نكون مرآةً لمجتمعنا الكُردي وللمجتمع الإنساني معاً… . وتعزّزت الدعوة إلى تجديد القصيدة الكردية مع إصدار جماعة أخرى من شعرائها السبعينيّين، سُميت جماعة كفري كركوك ، بياناً آخر، عام 1971، ألحّ، من بين ما ألحّ عليه، على ضرورة كسْر الجُمود، والقيام بثورة على المقاييس الشعرية المتوارَثة، وإحداث تغيير جذري في الشعر الكردي… . والواقع أنه كان لمثل هذه الدعوات» البيانات تأثير أشبهُ بمفعول السحر؛ لأنه سَرْعان ما ظهرت، عَقِبَها، في الساحة الإبداعية الكردية جملة دواوين ضاربة في أغوار الحداثة لغةً وتقنيةً وأسلوباً؛ منها الله ومدينتنا الصغيرة لِلَطيف هلمت، و مشروع انقلاب سرّي لأنور شاكلي، و باللهيب يرتوي عطَشي لشيركو بيكه س. وبدأت تعرف تلك الساحة أعداداً متزايدة من الشعراء الحَداثيين الجُدُد، واغتنت بأسماء أخرى خلال الثمانينيات وما بعدها. إلا أن مصدر هذه الحداثة الملحوظة، بصورة أجْلى، في شعر أكراد العراق وغيرهم، كما يؤكّد دارسُو هذا الشعر، يكمُن في تأثرهم بشعراء الحداثة في الثقافات المُجاوِرَة لإقليمهم العربية والفارسية والتركية ؛ من مثل أدونيس والماغوط وبُلند الحيدري وناظم حكمت، وفي الثقافات الأجنبية الأخرى أيضاً مثل أراغون ونيرودا . ويُعزى ذلك إلى أن المجتمع الكردي كان، ولا يزال، يفتقر إلى الحدّ الأدنى من المصادر التثقيفية التي تزوّده بما يلزم من المخزون الثقافي الخاصّ. وليس بإمكان الشاعر الكردي أن ينجوَ بكتاباته من تأثيرات الآداب والثقافات المجاورة المختزَنة في ذاكرته. غير أن ذلك لا يعني أنه ليس للشعر الكردي المعاصر مكانته المُميّزة، وخصوصياته التي يتفرّد بها ضمن خارطة الشعر العالمي ؛ كما يقول أحد النقاد الكرْد المعاصرين2.
ويضيف مَنْ جعلوا طيب جبار سَبْعينيّاً أنه واحد من جيل الحداثة الشعرية في الأدب الكردي الحديث. ولعل أبرز دارسٍ دافعَ عن هذا التصنيف الأديب الكردي عبد الله طاهر البرزنجي الذي جايَل الشاعر، واختصّ بترجمة أشعاره إلى اللغة العربية، وإنْ كان طيب نفسُه قد رفض أنْ يُجْعَل من جيل السبعينيات، بل رفض أن يُصَنَّف، أصلاً، ضمن أيٍّ من الأجيال الشعرية، مؤكِّداً أنه لا جيلَ محدّد له، أو أنه من جيل يخصُّه وَحْدَه فقد صرّح، في حوار أجْراه معه الكاتب الكردي لقمان محمود، جواباً عن سؤال متصل بهُوية الجيل الذي ينتسب إليه، قائلاً أنا لا أنتمي إلى أي جيل ولا أوافق صديقي الناقد عبد الله البرزنجي بأني من جيل السبعينيات؛ لأنني لم أواكبْهم نشْراً. صحيحٌ أنني قد نشرتُ قصيدتي الأولى في عام 1973… لكن، رغم ذلك، لم أكن معروفاً كشاعر إلا في أواسط سنة 2008، وبالتحديد مع صدور مجموعتي الشعرية الأولى مرثية الرماد . فأنا، يا صديقي يَقصد البرزنجي ، الشاعرُ الوحيد الذي بدون جيل محدد؛ لذلك أغرّد خارج السِّرْب باعتباري من جيل 2008، وهذا الجيل يخُصّني وحدي فقط، ولا يشمل أي شاعر أو كاتب آخر. 3
وأيّاً كان الأمر، فإن سنة 2008 تمثل نقطة انطلاق فعلية لمسيرة طيب جبار الشعرية، بصدور ديوانه المذكور باللغة الكردية. وتلتْه أعمال شعرية أخرى سواء بلغته الأمّ أو باللغة العربية، وهي يوم أموت ، و ذات زمان… الظلامُ كان أبيضَ ، و قصائد تلتفت إلى الأمام . ونَشر طيب عدداً من نصوصه الشعرية في صُحُف كردية وعربية؛ منها جريدة برايه تي التآخي ، ومجلتا الغاوون و أبابيل المتخصِّصتان في الشعر إبداعاً ونقداً. وله دراستان نقديتان مهمّتان؛ أولاهما بعنوان البحث عن إيقاع الكلمة 2009 ، والثانية عبارة عن مجموع مقالات، مدعومة بخرائط وتخطيطات وصور وجداول، في مجال النقد الفني المعماري، كتبها باللغة الكردية، واختار عَنْوَنَتها بـ مشاريع لتخريب أخلاق الماء 2010 . ويجْدُر بنا التنويه، ها هنا، بالجهد الذي بذله المبدع والناقد عبد الله البرزنجي؛ صاحب أرواح في العراء أنطولوجيا الشعر الكردي 2007 ، في سبيل نقْل أعمال طيب جبار وإنتاجاته الفكرية بالكردية إلى اللغة العربية. ولا مناص من الإشارة، كذلك، إلى أن الشاعر لم يُعرف على نطاق واسع داخل كردستان العراق وخارج بلده إلاّ بعد أن نشرت له دار الغاوون ، بلبنان، سبْعاً من قصائده في ديوان عَنْوَنه بعبارة تحمل أكثر من دلالة وإيحاء، هي ذات زمان… الظلام كان أبيض . ولذلك قصةٌ ملخّصُها أن الشاعر كان قد أرسل قصيدة إلى مجلة الغاوون البَيْروتيّة الشهرية قصْد نشْرها، فلاقت استحسان هيأة تحريرها، التي بادرت بمُراسلة طيب جبار طلباً لإرسال نصوص أخرى، بعد تعريبها، لطباعتها ضمن مجموعة شعرية تتكفّل المجلة نفسُها بنفقاتها. فرحّب الشاعر بالاقتراح، وأمَدّ زميلَه البرزنجي بسبْعٍ من قصائده لترجمتها إلى العربية، والتقديم لها، وموافاة المجلة بها. وحين صدرت له المجموعة، في طبعة أنيقة 64 ص ، تلقّاها القارئ اللبناني والعربي عموماً بالاستحسان، ودبّج من حولها الدارسون مقالات تعريفاً وتحليلاً وتأويلاً ونقداً. ويسجّل متتبِّعو تجربة طيب الشعرية أن قصائده المنظومة في السنوات الأربع الأخيرة تختلف اختلافاً عميقاً عن نصوصه السابقة من حيث اللغة والأساليب والرؤية والمضمون الدلالي جميعاً. ذلك بأنها تتوسَّل بتقنيات وأدوات فنية مُغايرة في الكتابة، وترتاد آفاقاً أخرى أرْحَب تساوُقاً مع اتجاه شعر الحداثة وانفتاحه على شتى العوالم. كما تنطوي على جملةِ خُصوصيات تميّزها من وجهة، وتجعلها عاملَ غنىً للمكتبة الإبداعية الشعرية الكردية اليومَ من وجهة ثانية. وعليه، فإنها تزدان بأشعار سِمتُها الأساسية المُراهَنةُ على المغامرة والتجديد والانزياح عن المألوف والسائد الشعرييْن. زِدْ على ذلك أنها تعكس، بوضوح، حُلماً شعرياً يمتلكه طيب جبار، يتوافق مع الحسّاسية الجديدة، القادرة على استيعاب أشكال تجريبية حديثة تَنِمُّ عن عُمق فكري ووَعْي جماليّ مجدّديْن في أفق الشعرية الكردية. 4
يتبدّى لمُتصفّح أشعار طيب جبار أن ثمة بُنىً وتيماتٍ محوريةً تحكمها، وتنشر ظلالها عبرها، وأن ثمة خيطاً رفيعاً يُلمْلم أكثر قصائده ليصْهَرَها في بُوتَقة رُؤيا شعرية تنطلق من التعبير عن مَواجد الذات المُبدعة واغترابها وآلامها وآمالها في ظلّ واقع مَعيش يُعَنْصِرُه السواد والقتامة واليأس واللامساواة وغير ذلك من مظاهر الاختلال الباعثة على الأسى والتألم واللاانسجام. وسنكتفي، تدليلاً على ما قلناه، بالإتيان ببعض الشواهد من أشعار طيب المعرَّبة بقلم صديقه البرزنجي.
يقول طيِّب في قصيدته السليمانية 1987 ؛ هذه المدينة التي عانت الأمَرَّيْن أيامَ حكم صدّام حسين، الذي أعطى أوامره في أواسط الثمانينيات، بقصْف مناطق عدة من كردستان العراق ودَكِّها، وبمُلاحقة كثير من أبنائها بدعوى تمردهم وسَعْيهم إلى إسْقاط نظامه
في مدينة المذاق الطيب
اليأسُ كالدّود
يزحف بهُدوء
نحو خيمة قلبي..
اليأسُ كالضّباب
يأتي ويغطّي جميعَ أجزاء جسَدي
فالسُّليْمانية لم تعُدْ مدينة أمْن وطيب وهناءة، بل استحالت فضاءً يَلفّه البؤس والحزن والياس المُقيم الثقيل؛ الأمر الذي يبعث على الإحساس بالقلق الوُجوديّ والاستياء العارم والاكتئاب الحادّ. ولم يجدِ الشاعرُ مطيّة أسلوبية، لنقْل واقع المدينة وشُعور الذات تُجاهَه، أجْدى من توظيف آليتي التشبيه والاستعارة المتسمتين بصفاء تركيبهما، بوصفه أحد أبرز ملامح الأسلوب الشعري الذي يتميز به الشاعر العراقي الكردي طيب جبار 5.
ويتعاظم تبرُّم الذات من واقعها الكئيب، ومن الحياة المَعيشة، حين يطول ليل محنتها، ولا يَلوح في الأفق المَدى الذي يبشّر بارتفاع الألم والجَوْر، ليحُلّ محلَّهما العدل والسعادة. يقول في قصيدته كيف يجوز؟
واصَرْختاه
لا الحياة تعتقني
ولا أنا أنفلتُ من الترنُّح
لا أحدَ
يعرفُ متى يسود العدل،
واللاّعدالة متى تنتهي؟
ومع اعترافه بقتامة حياة المدينة وقساوتها عليه، وعلى أضْرابه، والتي عبّر عنها، مثلاً، بقوله في قصيدته يوم أموت
يومَ أموت
عَدَا بناتي
لا تبكي عليّ… في هذه المدينة
أيّ فتاة.
إلا أنه يصرّ على البقاء، صامداً، داخلها، أو على الأوْبَة إليها إنْ كان قد فارقها، مُحاولاً خلْقَ تواؤم وانسجام مع وجهها المُؤلم، ما دامت مدينتَه التي تظل وإنْ قسَتْ عليه عزيزة. يقول جبار في قصيدته شعر قليلُ المُلوحة ، التي أهْداها إلى الشاعر الكردي الحديث لطيف هلمت، الذي قرأ أشعاره؛ فتأثر بجملة وافرة منها
أنا عائد إليك..
عائد إلى ظلال سقيفة وَميض القمر
أتصالحُ مع رَنين الضباب
مع ظمإ المِياه
مع جُوع الأرْغِفة
مع سُكون الغَدير
ولكن الواقع القاسي حين ينوء بكلْكَله على الذات الشاعرة، إلى درجةٍ قصوى، يدفعها دفعاً إلى التعلق بكل ما قد ترى فيه سبيلاً إلى الخلاص، أو إلى التنفيس عن أزمتها النفسية الخانقة على الأقلّ، بما في ذلك الارتحال الزمني، ذهنياً، إلى الزمن الأول.. زمنِ البدايات.. زمن الصفاء والسكينة.. زمن الطفولة التي قضاها الشاعر بمسْقط رأسه الذي دمّره النظام البائد، سنة 1985، وحوّله إلى خرائبَ مُخيفةٍ وللشاعر قصيدة رائعة في هذا السياق، مُعَنْوَنَة بـ ذات زمان… الظلام كان أبيض ، وبها سمّى أحد دواوينه كما ذكرْنا من ذي قبل. فهي كما يقول طيب نفسُه “قصيدة تربط مرحلة الطفولة بالحاضر؛ الطفولة البَريئة التي نُفطر فيها صباحاً على إناء من السقسقة مع الشاي، وظُهراً نتغذّى مرْقة الفرَح، ومساءً نتعشّى البيض المَقلي بوَميض القمر. أما الآنَ، فنحن كالدود نأكل ثلاثَ وَجبات من الطين، نتناوله ولا نعرف طعْمه أو لونه أو رائحته.. هي قصيدة تقارن بين فترة الطفولة، التي ضاعت من دون رجْعة، والحاضر التعيس 6. ومما قاله في هذه القصيدة الرقيقة نورد الأسطر الآتية
ذات زمان… الحياة كانت حُلوة
الشجر برفيف ظلاله
كان يَهِفّ الريح.
الماءُ بضحْكته
يُدغدغ أرْجُل الناس.
الشمس تمسح وجْهها بسَحابة.
البدرُ مرّاتٍ كان يغفو في ظل ذؤابةِ الغيوم.
الكائنات بوخزة الشعاع
تنهض من النوم.
أمّي برُؤى العُشب
كانت ترشّ العتبة.
إن النّفَس الرومانسي غالبٌ على هذا المقطع الذي يستعيد فيه طيب جبار لحظات هاربة من ماضيه الطفولي الجميل والسّعيد بين أحضان قريته الهادئة في كركوك قبل أن تتعرّض إلى قصْف قوات النظام الحاكم إبّانئذٍ. ويؤكّد الشاعر، مراراً، أن الظلام في قريته كان أبيض وهو يريد بذلك أنها لم تكن تعرف الأشجان والقلاقل والمآسي، بل كانت تنعم بالهدوء والأمان وبجمال طبيعتها الخلاّبة الآسِرَة، التي كانت تؤثّثها سهول وهضاب لا جبال عالية؛ ولذا، تجد الشاعر مُحبّاً أكثرَ لتلك التضاريس بالذات. ويسهُل على قارئ أشعار جبّار أنْ يَلْمَس ذلك. ويلاحَظ فيها، كذلك، مدى الانسجام الذي كان حاصلاً بين عناصر الطبيعة، ومدى اندماج الإنسان وذوبانه فيها.
وممّا آلَمَ الشاعر وغيرَه بقاؤهم، مدة من الزمن، ممنوعين من زيارة خرائب تلك القرية المقصوفة، ومن دفن موتاهم في مقبرتها. الأمرُ الذي زاد من إذكاء شُعلة الحنين لدى الشاعر؛ كما هو ظاهر من قصيدته البرقية الأخيرة لنالي ، التي ركن فيها إلى استدْعاء أحد رموز الشعر الكردي الكلاسيكي لتشخيص الواقع المأساوي، الذي باتت تعيشُه قريته بعد تخريبها، وهو شخصية الشاعر نالي ق19 ، الذي اضطرّه بطش العثمانيّين إلى مغادرة مدينته الأثيرة السليمانية في اتجاه بلاد الشام، ليكْتوي، هناك، بلَظى الغربة والألم والبعاد عن الوطن والأهل والخِلاّن؛ فكتب إلى أحد رفاقه بكردستان العراق رسالة مؤثرة مشهورة يستفسر فيها عن أحوال مدينته وأهله وأبنائها. يقول طيب موجِّهاً كلامَه إلى مخاطَب متخيَّل
فِداكَ،
إنْ تسنّى لك
زُرْ خراب الديار
لتعرف هل ذيول الغيم باقية
على سُفوح الجبل
أم الجدْب يُرقّص
الأفاعي والنّمال
من حنايا الأرض الطاهرة؟
فالشاعرُ، كما هو بادٍ، يستلهم طرفاً من قصة نالي ، ومن رسالته، للسؤال عن حال قريته المنكوبة بغير قليل من الأسى والتأسف والتألم.
وعلى الرغم من هذه المِحَن والإِحَن كلِّها، وممّا قاساه في واقعه من ألوان الشقاء والتضييق والقمع، إلا أننا نجد الشاعر، في عددٍ من قصائده، يُعلن عَزْمَه الراسخ على مواصلة الصمود والتحدّي والتعبئة ونشْر قيم الخير والفضيلة إلى حين انقشاع ليل الآلام والمآسي ليَعْقبه نور السعادة والبهجة والعيش الكريم بكل ما يستلزمه من معاني الحرية والازدهار والعدالة الاجتماعية ونحْوها. يقول في مقطعٍ من قصيدته المطوّلة الانتظار أيضاً يطول ويخدّر
لا تقلق..
لا تقلق
لن أسمَح بانطفاء الريح
لن أسمح بإسْكات صَدى الارتياح.
لن أسمح
بأنْ تميلَ مَنارة الغلال.
لا تقلق، الليلُ بقدميْه،
يأتي إليّ،
ويحلّ ضيفاً
ألْبسه صدْرية الهلاك،
وأصيبه بالصَّرْع.
لا تقلق، في الجحيم،
أدرّب رحم الخَطايا،
وأرشّ رائحة البسْمة
على جسَد الانهيار.
لا تقلق، سوف أعلن
حركة الحَراك الجِدّي
وبروح فُولاذية
أفاوضُ جبلَ الدّخان.
جماعُ القول أن تجربة الشاعر طيب جبار متميّزة، ضمن خارطة الأدب الكردي المعاصر، بعدد من المِيزات مضموناً وشكلاً وصياغةً فنيةً، وغنيّةٌ على أكثر من صَعيد؛ الأمرُ الذي يجعل تناولَها، بشُمولية، في مقالة مركزة غيرَ ممكن، بل إن ذلك يحتاج إلى دراسات أطول وأغْزر وأعمق. وقد تأكّد لنا، بالملموس، مدى جمْعها الموفّق بين التعبير عن هموم الواقع ومظاهره واختلالاته، وبين التعبير عن مواقف الذات وإحساساتها وتطلعاتها، جَمْعاً أمْلته العلاقة الجَدَليّة بين الذات والموضوع» الواقع في أغلب أشعار الأكراد المعاصرين، بل وفي أشعار غيرهم في مختلِف الآداب والثقافات شرقاً وغرْباً.
AZP09