هذه قصة قصيرة فازت كاتبتها دلال بشار ، الطالبة في الجامعة الامريكية في كردستان العراق، بالجائزة الثانية في المسابقة الادبية- روانجا
وفازت بالجائزة الاولى اسماء مهدي من البصرة وبالمركز الثالث على اكبر من البصرة ايضا.
دلال بشار

ليس من السهل أن نختار طريق الحياة الذي نريد المشي فيه. خاصة في مدينة تمشي بنا ولا تسمح لنا بنبش الذكريات.
في الماضي كانت الحياة اكثر هدوءاً، حيث الأيام تتوالى بشكل سلس، حتى ليظن الإنسان أنها فلم يعاد عرضهُ، ولكن الحرب جعلت من المدينة مكاناً للتراكض، هرباً من العدو، وبحثاً عن الحرية وحفاظاً على ما تبقى من افكار.
منذ سبع سنوات أصبح للحياةِ لونٌ واحد.. إنهُ الأسود ثمرة حصاد ما بعد الحرب.
– حياة: صباح الخير.. سأخرج إلى الشارع أتمشى مع ماثيوس. لدي رحلةٌ جديدة إلى مكانٍ لم يصله إنسان بعد!
– زينب: انتبهي لنفسك. بعد ساعتين يكون الطعام جاهزاً
– إلى اللقاء
زينب أختي الكبرى التي تولت أمور المنزل بعد وفاة والدتي ووالدي اثر طلق ناري أستهدفهما بدلاً من العدو.. نعيش في منزلٍ أصبح كبيرا علينا. نتنفس فيه عبق الماضي ونشهق الذكريات التي لا تزال عالقة في كل زاوية من زواياه.
وماثيوس هو صديقي الذي بدأ يرافقني منذ سبع سنوات أصبح العين التي تقودني في الشارع
في صيف 2014 خرجت مع مجموعة من صديقاتي لشراء اقلام ودفاتر ترحيباً بعودة المدرسة. كانت الشوارع على غير عادتها كما لو أنها شعرت أن شيئاً سيحدث.
كان دجلة وجهتنا الأولى لإلتقاط صورٍ وإطعام طيورٍ ومن ثم جولةٍ نهريةٍ في اليخت.
دقائق فصلت بين نزولنا من السيارة والتفجير الذي راح ضحيته خمسةُ شباب، وطفلتان فضلا عن فقداني البصر.
لفترة أعتقدت أنها فترة أطول من حقيقتها وشعرت أنها الفاصل بين الحياة والموت إلى أن جائني صوتٌ خفيف همس في أذني فعرفت حينها أنني لا زلتُ أتنفس لكنني فقدتُ القدرة على رؤية ما تبقى من حياتي.
بدأت مرحلة جديدة داخل محيط أسود. كانت أياماً رتيبةً لا حياة فيها.
تركت المدرسة التي لا ترغب بفتاة عبء، تعرقل سير السنة الدراسية. وأصبحت أقضي أوقاتي في البيت وأنا أقلب صوراً عالقة في رفوف الذاكرة، انتقالاً من دجلة إلى رحلات المدرسة الأكبر من كل أحلامنا و أيامنا، وما بين تناول الطعام والخروج لإستنشاق هواءٍ مليء بالتراب والهروب من الواقع عن طريق النوم.
أعتدت الخروج مع ماثيوس والوقوف على الجسر الفاصل بين الكرخ والرصافة، لتأمل دجلة أحياناً حيث صورته لا تزال مطبوعةً في ثنيات الذاكرة.
كنت أبحث عن شيء ينتشلني من حياةٍ أصبحت مملة، أردت رؤية أشياء جديدة وإن كانت بطريقةً مختلفة.
عندما خرجت في ذلك اليوم بجولتي المعتادة حاولت المشي في إتجاه جديد، رغبة في الوصول إلى جهة جديدة لربما تعيد تلوين السواد الذي طغى داخل الإطار.
ذهبتُ في الإتجاه المعاكس من جهة الشرق، مشيت قرابة الساعة، كان الجو بارداً فشهر شباط على وشك الوصول، وبدأت الأمطار تهطل بشكل جنوني وبدأ ماثيوس ينبح ضجراً ورغبةً بالعودة إلى المنزل.
لم أعرهُ اهتماماً كبيراً وأكملتُ المشي.
إزداد المطر أكثر وأصبح المشي خطراً، حيث السيول تتراكض والسواقي تزداد.
سمعت صوتاً يشير إلى محلٍ قريب، حاولتُ تتبع الصوت من أجل الدخول وقضاء بعض الوقت.
أصبحتُ قريبةً أكثر من المكان، ازداد نباح ماثيوس وبدأ بالدوران حول قدمي، هذه عادتهُ عندما يريد أن يقول شيئاً، ثم جرني نحو الباب، دفعتهُ ودخلنا.
كان المكان هادئاً، له رائحة مميزة لم أعتد عليها، حاولتُ استكشافهُ من رائحتهِ لكنه كان غريباً
– صباح الخير أنستي
– صباح النور.. دخلتُ للإحتماءِ من زخات المطر
– أهلا بكِ دخلتِ عالماً لا يموت
– عذراً
– تفضلي سأجلب قدح ماءٍ ولصديقك يبدو أنه عطشان.
مرت دقائق قليلة عاد بعدها وبيدهِ كأس ماء ووضعه على الأرض.
كان في الثلاثين من عمرهِ. هذا ما حاولت معرفته من نبرة صوته
– ما اسم صديقكِ
– ماثيوس
– جميل
– لم تقل لي ماذا يوجد في محلكم
– قلت لكِ إنه العالم الذي لا يموت
– لم افهم
– أنتِ داخل محل لبيع الكتب.. فلسفة تاريخ ادب
– وهل المكتبة عالم لا يموت؟
– هذه الكتب التي على الرفوف مات أصحابها منذ سنين وبعضهم تجاوز مئات السنين إلا أن كتبهم لا تزال حية بيننا تجدد الفكر وتغير الطريق الذي اعتادت الحياة أن تسلكهُ وربما لها القدرة على إيقاف حرب أو تكون السبب في بدءِ حربٍ جديدة.
– لم أفهم كيف يمكن لكتاب أن يوقف حرباً أو يبدأ أخرى
– الشعب يا أنستي إن كان قارئاً متعلما يصبح من الصعب على الأجنبي أن يتحكم به لأن العقل يحارب وليس السلاح، وكذلك كان الكتاب ولا يزال مصدر تهديد للمحتل، لأن الجهل يسهل عليهم السيطرة على العقول وتشكيلها بالشكل الذي يريدون، لذلك كان أول ما فعلهُ المغول عند إحتلال بغداد هو رمي الكتب في دجلة للتخلص من قوة تخيفهم وتشكل لوحةً مرعبة تنافس بقوتها قوتهم البسيطة.
– نعم.. فهمت
– هل ترغبين بتأشيرة دخول لعالمٍ لا يتوقف السفر فيه
– لا أعلم، لكنني لم أقرأ، ربما سيكون الموضوع مملاً إضافةً إلى أنني لا أستطيع القراءة
– هذا ليس مشكلة، من الممكن أن أقرأ لكِ كل يوم لمدة ساعة، وبإمكانكِ سماع كتبٍ مسجلة فقد أصبحت متوفرة على المواقع الالكترونية وبإمكان القارئ أن يستمع للكتاب الذي يريد. جربي لمدة أسبوع ومن ثم قرري إن أعجبك ذلك، سنكمل او نتوقف.
– أرغب بتجربة كتاب صغير تكون قصتهُ شيقه تجعلني أرى العالم بأزمان مختلفة وأتعلمُ أشياء جديدة
– رائع سنبدأ بعالم صوفي، كتاب سيأخذكِ إلى عصور إنتهت قبل أن تولدي وستلتقين بفلاسفة لا تزال أفكارهم قائمةً حتى هذه اللحظة.
بدأ بقراءةِ الكتاب. كان أول ما رأيتهُ أثينا. شعرتُ أنني أسير في شارع من شوارعها بثيابٍ تعود للزمن المذكور داخل الرواية. كانت صوفي ببساطتها تبدو صديقةً أعرفها على الرغم من فارق العمر بيني وبينها. بعد اسبوع انتهينا من الكتاب وبدأنا نناقشهُ. أصبحت المكتبة هي المطار الذي يأخذني لدول أراها بعقلي وإن كان النظر معدوما. توالت الأيام سريعةً جميلة وانا أسافر من مكانٍ لأخر.
إزدادت ساعات خروجي من المنزل برفقة ماثيوس وصديقي الذي يقرأ الكتب. بعدها بدأتُ بالتعرف على كتبٍ في مجالاتٍ مختلفة كانت كلها عالماً مختلفاً، إستطاع أن يحتل عقلي ويسحبني من يدي إلى طريقٍ جديد، وكأنهُ نورٌ لحياتي وفرشاةٌ لونت المحيط المعتم الذي كنتُ عالقةً فيه.
مضت سنتان على دخولي العالم الذي لا يموت كما قال صاحب المكتبة.
بدأتُ أشعر أن شيئاً ما تغير داخلي وغيرني بطريقةٍ يصعب شرحها. أصبح الكتاب عالماً مختلفاً يحلق بي بعيداً عن رتابة الأيام. وأصبح في الطريق مستقبلاً مضيئاً كأن شمسهُ لا تغرب.. اليوم اكتب هذه القصة لتكون جزءاً من كتاب قد يرى النور بعد فترةٍ قد لا تكون طويلة..
لو لم أغير وجهتي لما تغيرت حياتي.
كان طريقاً عادياً حتى أصبح طريقاً إلى الشمس!