صباح بطعم الرصاص لجبار المشداني
إفطاري المفضل قيمر طائفي وعسل مفخخ
قراءة: حسين سرمك حسن
حينما تتأمل نصوص مجموعة الشاعر جبار المشهداني الأولي هذه : “صباح بطعم الرصاص” «منشورات مكتبة عدنان/ بغداد/ 2012»، ستمسك – فنّياً وجمالياً ونفسياً – بمجموعة من المحاور المركزية التي سنحلّل هنا الأساسي منها والذي يتمثل في ثلاثة بؤر دلالية وفنية تاركين المحاور الأخري لمناسبات قادمة:
يوماً بعد آخر “تتغرّب” قصيدة النثر خصوصا علي أيدي الشباب الذين أساءوا فهم أطروحات الحداثة وما بعد الحداثة الغربية في الشعر. تتغرّب عن ذاتها، وعن ناسها ومجتمعها، حتي صرنا نقرأ مطوّلات عن النحاس الذي يتأطر في جوف السماء وعن إسقاطات المربع الأزرق وغيرها من الألعاب “الشعرية”، في حين أن بغداد تحترق. بخلاف هذا تشتمل مجموعة جبار هذه علي أكثر من خمسة عشرة نصّاً تكشف عمق انهمامه بشدائد وطنه الفاجعة، وبخيبات شعبه، والتمزقات الرهيبة التي عصفت بجسد وطنه، هذا الوطن المسبوك من خلطة عجيبة عصية علي الفهم، وطن تتعايش فيه أشد المتناقضات فداحة وغرابة:
اله الخمر/ خاصم اصغر ابنائه/ وأجملهم/ كان اسمه العرق/ اسقطه/ من غرة جبينه
الي بقعة من الارض/ يتوسطها نهران/ ونخيل بعدد الملائكة. «قصيدة: حين زعل إله الخمر».
أرض الفردوس الدامية هذه منذ فجر تاريخها، أرض السواد السواد التي خلق الله الإنسان فيها وهو يبكي، كُتب عليها الخراب الأزلي.. خراب أوصله المحتلون الخنازير الغزاة إلي أقصي مدياته الجحيمية الماحقة، مديات مزقت بمخالبها العدوانية الباشطة كل بقايا الجمال في حياتنا حدّ أن جعلوا صباحاتنا معتمة تُفزع أرواحنا بطعم الرصاص بعد أن كانت تشرق علينا بطعم فيروز. هذا ما لخصّه الشاعر في قصيدته «صباح بطعم الرصاص»:
«كل صباح/ وانا استمع الي فيروز الدوريات/ وصوت رصاصها الطائش/ تأتيني زوجتي بافطاري المفضل/ قيمر طائفي/ وعسل مفخخ/ اشرب شاي المحاصصة مع سكر متعدد الجنسيات/ ثم ادخن سيكاراً كوبياً/ لف علي أفخاذ الخوف المرسوم/ علي وجوه العذراوات».
ولكن تبقي القصيدة الأنموذج في تكثيف أبعاد محنة العراق المدوّية هي قصيدة «حصّة تموينية»، التي يستهلها عبر “مجانسة” بين رأس الشهر الزماني المجرد، ورأس الشارع المكاني المحسوب والقريب، وحيث مفردات جديدة للحصة التموينية تخالف مفرداتها الغذائية المعروفة، المفردات الجديدة هي عبارة عن أوزان من الحزن الأصلي والقهر المستورد والضيم المحلي.. وأعداد من الأصدقاء المفقودين ورز بطعم الجثث المجهولة الهويّة. هكذا قلب الغزاة حصة الفرد العراقي جذرياً من حصة معاونة علي البقاء بوجه الموت المصنّع أمريكياً، إلي جرعات من زقوم المُثكل:
«عندما يهل «راس الشهر»/ أذهب «لراس الشارع»/ لاستلام حصتي التموينية/ 10 كيلو غرام حزن اصلي/ 8 كيلو غرام قهر مستورد/ 13 كيلو غرام ضيم محلي/ 10 اصدقاء مفقودين».
.. لكن جبار يدرك أن الشاعر – رغم روحه الشيطانية الخلّاقة – هو رسول أمل ونماء.. هو زعقة الحياة المهدّدة ضد قبضة الموت الخانقة.. هو المؤهل لأن يودع نخيل وتراب وطنه/ العراق الطهور وصيّة البقاء والمقاومة بعيداً عن وصايا آكلي أثداء أمهاتهم من محتلين وسياسيين أدلاء:
«سأرحل/ بعيدا عنكم/ دون ان اتمني لكم/ طيب الاقامة في بلدي/ سأرحل/ تاركاً خلفي/ دعوات الامهات الثكالي/ دموع الارامل واليتامي/ شاهراً سيف اللعنات
غارزاً إياه في مؤخرات «همراتكم الشاذة»/ سأرحل/ حاملاً معي/ الفرات / كي لا تشربوا منه/ أو حتي تنظروا اليه».
وقد قلت كثيرا ومراراً إن الشعر العراقي، في جانب حاسم منه، هو عبرة عن مرثية طويلة جداً، يصلنا عبرها أنين العراقي الموجع من عصور هذه البلاد السحيقة، بدءاً من درّة تاج أساطير البشرية : ملحمة جلجامش. ولأن جبار وريث، وما أضني أن تكون وريثاً حسب تعبير ” غوته “، فإن الثيمة الأساسية لهذ الملحمة ممثلة في رفض الفناء، وإنكار رحيل المرثي النهائي، تتجسد في ثلاثة نصوص رئيسية هي: آخر حرّاس الجمال، وكاشي الروح ناجي، وبرقية لدرويش طائر. النص الأول مهدي للراحل ” كامل شياع ” وفي رثائه حيث يستثمر جبار – بذكاء – اسم الفقيد ويوظفه في حركة خلودية عبر نقلة آسية “تشيع الكمال”:
« بموتك شيعنا الكمال/ من قال إنك مت؟ نكاية بالقتلة/ من يجرؤ علي قتل الصباح؟» « قصيدة آخر حرّاس الجمال ».
أما في قصيدته التي يرثي بها صديقه الفنان ” ناجي كاشي ” فتتجلي بأتم صورة أطروحة ” معلّم فيينا ” عن إنكار لاشعورنا الشخصي لفنائنا المقرر سبقياً وبقسوة.. وعدم إقراره بهذه الحقيقة الصادمة إلا عندما يفقد عزيزاً ” استدخله – internalized ” وصار جزءاً من أناه الشخصي، برحيل ناجي انخلع جزء عزيز من أنا الشاعر الشخصي، فشعر أن هو أيضا قابل للإنجراح ووجوده ليس عصيّاً علي الفناء، لذلك نجده يمرّ بالمراحل الإنكارية نفسها التي مرّ بها جلجامش حينما فقد ” أنكيدو ” خلّه وصاحبه، ليذعن أخيرا مقرّاً بحتمية الموت، الحي الذي لا يموت :
« يا حريمة… يا ناجي يا… حريمة…لم اباغت من قبل/ بأحد مثلك/ وانا الشاهد علي كل شيء».
ويتمتع النص الرثائي الثالث « برقية لدرويش طائر » بفرادة خاصة تتجلي بدءا من إغفال جبار المتعمّد ذكر الشخص المرثي، إدراكاً منه أنه أوسع من أن ” يُعرّف “، فهو فتي الزعتر والزيتون، وسرير الغريبة، وحصار مدائح البحر، وأسي حصان الكرمل الذي تُرك وحيداً، وخبز الأم المقدس الذي نحن إليه، وعصافير الجليل التي تموت كسيرة القلب والجناح. إنه “ولد زهر اللوز أو أبعد ” : محمود درويش. وقد ذكرت عناوين بعض مجموعات محمود درويش لأن احترافية جبار تتجلي في توظيفه المستتر لبعض تلك العناوين، مثلما تتجلي – أي تلك الاحترافية في الصنعة الشعرية – في البيت الأول من القصيدة الذي استعاد فيه اسم ” ريتا ” تلك الأنثي الشعرية االتي جعلها درويش رمزاً للحب والحياة والقضية :
« لن اعزي ” ريتا “/ ولن ابعث برقية للسياب وللماغوط/ ولن ابلغ القباني فيقطع اجازته الصيفية/ ولن اعزي القدس ورام الله/ ولن اقرأ الفاتحة في مجلس/ تقيمه البندقية المصابة بالانفصام.
/2/2012 Issue 4116 – Date 7- Azzaman International Newspape
جريدة «الزمان» الدولية – العدد 4116 – التاريخ 7/2/2012
AZP09