شوكت الربيعي .. لا أقوى على قولها: وداعاً – رياض شابا
العراق لم يقل عن حب الحياة.. يعشق جباله وأهواره ومدنه
نجده بيننا فجاة .. !
لم يكن عندنا « استعلامات « ، و لا نسمع طرقا على باب مفتوح يلجه اي داخل الى تلك الشقة الصغيرة التي تحتل الطابق العلوي من عمارة شغلتها سابقا و حتى مطلع السبعينيات وكالة الانباء العراقية في الصالحية ، على يسارها ساحة الملك فيصل الاول « مود « ، و على اليمين شركة النقليات الكبيرة ، و مطعم « ابن سمينة « المتميز برائحة الدهن الحر الذائب بالرز العنبر .. سريعة الانتشار ..!
فما ان يحل في بغداد حتى تكون « مجلة الاذاعة والتلفزيون « ، المحطة الاولى لزيارته ، و التي غالبا ما تكون قصيرة ، لكنها مليئة بالكثير مما يسعى اليه « شوكت الربيعي « « العمارتلي « الجميل الاتي من البصرة على متن قطار سبعيني ساهر ، او حافلة تطوي الطريق الى العاصمة في نحو ساعات ست .. ليقدم مساهماته التي لا غنى عنها في المجلة التي صار اسمها « فنون « في وقت لاحق.
ننهض جمبعا بصرخات مرحبة و عناق ينتهي بتعليق مني :
« دا اكول شنو ها المدفعيات اللي سمعناها الصبح ؟ ا ثاري حضرتك مشرفنا ..! «..
ليرد علي بمزحة من عيار ثقيل ، يصنعها ظل شوكت الخفيف ، ثم لنتسابق في تقديم مقعد له ، داخل مكتب قليل المقاعد ، كثير البشر ، ثم ياتي السؤال عن وقته و ارتباطاته ..
غداء ..؟ يليه عشاء .. ؟ نعبر اليه مشيا ، فوق جسر الصالحية الهرم ، معنا زهير الدجيلي ، عارف علوان ، حسين حسن ، رياض قاسم .. و اخرون من محرري المجلة ، و هو لا ينفك عن التوقف كل عشر خطوات متلفتا في كل الاتجاهات ، متاملا الجسر و النهر و الاضواء السابحة على صفحته مثل موسيقى هادئة ، او لوحة يود ان يصب تاملاته في قماشها .. لينضم الى مائدتنا الكبيرة خالد الحلي و عباس البدري بصحبة « شيركو بي كه س « الذي صادف وجوده في بغداد مع حسين عارف في تلك الايام الصيفية من زمن بغداد ، ثم يلتحق بنا رياض عبد الكريم الذي سيحل محل عارف علوان بعد سفر الاخير خارج العراق ، زيد الفلاحي و نزار عباس و عصام الخطاط والمصور جاسم الزبيدي و غيرهم من الوسط الصحفي و الثقافي .
و الذين يعرفون شوكت الربيعي ، يدركون كم ان حبه للعراق ، لم يكن يقل عن حبه للحياة ، فانه يعشق جباله ، عشقه لانهاره و بحره و اهواره .. و كل قرية ومدينة فيه ، و يريد لهذا الوطن ان يصبح مثل بلدان جميلة تعيش في مخيلته .
مقابلة صحفية
جلسنا متجاورين في تلك السهرة ، تكلم عن الجمال و الرسم و النحت و الموسيقى ، و قد اصغيت اليه بعمق ، ليس لكوني اصغره بسبعة اعوام فقط ، بل لاحساسي بانني اجري مقابلة صحفية من طرف واحد ، « يرتشف « المتحدث فيها نفسا عميقا من سيجارته ، لياتي دور الكلام و بتان شديد عن الطعام و الشراب : « لكل فقرة طقس ، و لكل مادة تقليد «
( لا رياض « ال ر و ف ي ن و « تاخذه من باب الثلاجة..)
( يجب والحالة هذه ، ان ارفع غلاف « الخوص « عنه ..؟)
( بالضبط .. ..)
نضحك .. ثم نضحك .. بينما استغرق انا في تصوير احلامه .. و بعدها ينصرف هو الى مشاركة الاخرين احاديثهم ، في مكان رحيب اسمه نادي « العدلية « ترتاده وجوه مالوفة لنا ، و اعتدنا على ترحيل همومنا داخله ، الى اجل يساعدنا في تحديده الظريفان الطيبان مسعود و داود « ابو كتو « .
و خلال سنوات ، و في بعض زياراتي الى البصرة التي اعتدت التردد اليها باستمرار ، خلال عقد السبعينيات خصوصا في مهام صحفية عدة ، و ببرامج مكثفة غالبا ، كان يبادرني بالقول : « هل استمعت الى صافرات بواخر شط العرب و الخليج و هي تزغرد ترحيبا بمقدمك ..؟ «
« نعم صديقي .. استمعت .. و لم اكن اعرف انها المرة الاخيرة التي سافعل فيها ذلك بحضورك .. «
ففي تلك الاونة و بعدها ، انقطعت اخبار شوكت الربيعي ، لم اعد اراه في المجلة كما في السابق ، و لم اعثر عليه في البصرة .. ربما لان كل شيء بدا يتغير ! العراق !! ايقاع المدن !! اسلوب الحياة و ما طرأ عليها! .. فمنذ اواخر العام الاول من الثمانينيات لم نعد نسمع الا اصوات المدافع ..
« اصوات كنت تمقتها يا شوكت .. فابتعدت عنها ، و ها انت ترحل في عالم الغربة ، لكن شعاع توهجك باق .. ساطع .. لم و لن ينطفئ في قلوبنا .. «
فهل اقول : وداعا ..؟
لست ادري ..
□ في الوقت الذي اتمنى الصحة والسلامة للاحياء الذين اوردتهم في استذكاري هذا ، فانني اسال الرحمة والراحة والسكينة لارواح الراحلين عن دنيانا ، ان ذكراهم ستبقى متجذرة في اعماقي ما حييت .