شهرزاد ـ سعيد جومال
يمكنك أن تحكي، ولكنك لاتعرف عما يسفر هذا ألحكي حين يلتقي الآخر
1
في قلب ليلة ممحوقة قلت لليل من أنت لتجعلني أصغي لما يستعصي علي سماعه نهارا؟. أأكثر انضباطا أنت، أم جيوش النهار تهدنا، فنستكين إليك، أم جبروتك أقوى وسرك أعظم.
أنا الآخر ينادونني لكحل أيها الليل، لم أعرف لماذا، ألخيبتي أم لفحمية بشرتي؟
أضعف وتنفضح أسراري في ظلامك الدامس، يحيرني سكونك كثيرا، يجبرني على التنصت لنفسي، وعد دقات قلبي. وما أود استبعاده من تفكير، تجره إلي جرا، من أنت؟
تتناثر الصيحات»الصامتة في أدني، فأحضن أحزان أيامي، وهي تنعقد خيوطا من عناكبك. أذبل، في دواخلي، تتقلص أعضائي، فألوذ بالفرار لأخمد منكمشا كقط أعمش داهمته كلاب الحي فانزوى في ركن، يرتعد، يدخل في بعضه، يلمم كدماته ويضمد خدوشه. تتقاذفني أرجلك إلى فوهات الصبح، أودع آخر أنفاسك وأحس أني صرت قشة تلوح بها الريح وترميها المياه، فتلتصق بزبد متناثر على الشط.
2
على مائدة خشبية، إبريق شاي وصحن صغير من زيت زيتون وقطعة خبز يابس، تجرعت ما بالكوب وانحنيت على الحذاء أشد خيطه، تراءت لي بين مربعات الزليج المتآكلة، صور ملائكة وشياطين ترقص في شبه عراك، لما لاحظوا عيوني تبحلق فيهم، كفوا عن الحراك ثم اختفوا.
ـ الثلاجة خاوية، وفاتورة الماء والكهرباء مرعليها أسبوعان، وو..
ـ ضع النقود قرب البراد قبل أن تخرج، قالت زبيدة وهي لازالت تتقلب في فراشها.
تذكرت شهرزاد الكاتبة الخاصة لمدير الوكالة واحدة تأمر بالبيت وأخرى بالعمل. أفرغت جيبي عند حافة الصينية وانسللت في صمت.
3
بين شفتين محترقتين تنتصب سيجارة الصباح مرة وجافة، أمج منها نفسا عميقا وأرمي الخطو في ارتجال. يقولون أننا كلنا أبناء تسعة،لا تفرق بيننا إلا الأسماء، ولكنني أرى العالم ملونا وأغلب ألوانه باهتة.
فاجأني سعال حاد، دارت له رأسي، رميت بعقب السيجارة وقرفصت حاضنا إياها بين كفين مرتعشتين، حتى إذا ما خف السعال، وهدأت أنفاسي، بصقت في الأرض وتابعت السير.
الشارع لازال نائما وحركة محطة البنزين شبه راكدة، مع بروز خيوط الضوء الأولى بدأت تظهر بعض حافلات المدينة وسيارات الأجرة، بين الفينة والأخرى، كانت إحداها تخفض سرعتها حين تقربني، وتستشيط غضبا عندما لا أبدي رغبة في الركوب.
وصلت مهدودا، أول من يدخل الوكالة وآخر من يخرج منها، باستثناء الحارس بالطبع.
ـ اليوم ماكاين خدمة..
يوم خصص للاحتفال بتعيين المدير الجديد
ـ من قال ذلك؟
ـ هذا ما حكت شهرزاد البارحة، كانت تنط من الفرح لرحيل المدير السابق
ـ لماذا؟
ـ لأن القادم لا يعرف عنها شيئا
ـ ألا يقرأ؟
ـ مدير أوماقريش، لعجب
ـ يعني، ألم يقرأ عنها؟
ـ عن من؟
ـ عن الدنيا وأحوالها، أعود بالله من فهمك
لا أخفيكم سرا، أنا مولع بسكون الليل وبالحكي عن شهرزاد، عن مفاتن شهرزاد وذكائها، كانت تأكل أمخاخ محدثيها لتنال ما تشاء، لم يكن يهمني معرفة اسمها الحقيقي، أنا الذي أطلقت عليها هذا الاسم، لما أتيت الوكالة ورأيتها لأول مرة، مند ذاك أصبح الكل يناديها شهرزاد. كنت أستوحي صورة شهرزاد تلك من هيأة شهرزاد الوكالة هاته، كانت تحكي عن أحوال الخلق، وكنت أحكي عن عجائبها وأشهِر بلياليها وعن تسلط زبيدة أحيانا، كنت أحكي عنهما لكل من هب ودب عبر أرجاء الوكالة.
لو اجتمعت عليك زبيدة وشهرزاد وهواجس الليل، ما طلع نهارك ولا سطعت شمسك قط.
رتبت ما يمكن ترتيبه، أركنت الكرسي في زاوية على مقربة من باب الإدارة، وقبعت فوقه، أتردد بين إشعال سيجارة من عدمه، مخافة اندلاع أزمة السعال الفاتكة التي تعقب نشوة التدخين، قررت أخيرا أن أقاوم ولو لساعات.
4
خرجت من بيت زبيدة ككل صباح منفوش الحواس..
تدخل شهرزاد، كعب حذاءها العالي وجسمها المكتنز يحدثان دويا فوق الرخام، يتبعها أينما تحركت عبر المكاتب وبين الممرات. تتماها في خيلاء وعظمة.. جمالها ملعون، ليس بالجمال الحار ولكن لها بهاء وقوام فاتنان.
مرت من أمامي ترمقني بطرفي عينيها اللامعتين، تابعت خطواتها بجفنين متورمين، لا زالت تثيرني أردافها المرتجة المرتعدة، والتي تزداد اهتزازا كلما أدبرتني، ربما لتغيضني وتستفز لهفتي، على هذا الحال قد تكون تعرفني أم مجرد إحساس؟ تساءلت وآثرت ألا أفتح خزانة الذكريات الخوالي، يكفي الآن ما أجرجر ورائي من آلام..
ـ لكحل
ـ سيدتي
ـ الكل على ما يرام؟
ـ في أمان الله سيدتي
ريحها استحضرني بيت طفيل بن كعب الغنوي
إن النساء كأشجار نبتن معا »» منها المرار وبعض النبت مأكول
تذكرت زبيدة في البيت..
5
سددت شهرزاد لكل موظفي وأعوان الوكالة مستحقاتهم وعلاواتهم التحفيزية، اعترافا لما بذلوه من جهد فعال طوال ولاية المدير السابق.
صفق الجميع بعد ختم لائحة المستفيدين وتسلم الايتاوات. انشرحت الوجوه، وانفرجت الملامح عن فرحة بددت عبوسا دام شهورا طويلة. تفاءل الكل خيرا بقدوم السيد المدير الجديد، وازدادت شهرزاد أناقة وبهاء.
مكثت في مكاني، كعصفور جريح، أو صورة باهتة علقت منذ زمن بعيد في غرفة قديمة، منسية، لم يعد يأبه لها أحد بعدما فقدت معناها. مقعد، أرقب الوضع في ذهول، جلبة وجدالات ومجاملات تملأ القاعة التي تلوث هواءها ولم يعد يسعفني على التنفس بانتظام.
استعصى علي فتح النافذة التي فوق رأسي، وبدون أن يكف عن الكلام مع زميله أو ينتبه إلي، فتحها أحد الموظفين، حينما لاحظ عجزي عن إدارة المقبض. حاولت النهوض لأثير انتباه شهرزاد، لكني لم أقوى لعلها تريد أن توفي لي الكيل، لمعرفتها بوضعي المالي المحرج، لذلك لم تود تسليمي علاوتي أمام الآخرين، إنها بنت ناس، رغم أني.. حاولت طمأنة نفسي ولكن لماذا لم تلمح لي بذلك حتى أستريح؟ ومن أكون حتى تفعل معي كل ذلك؟ . كثرت وساوسي، أدركت أن تبريراتي أصبحت جد واهية.
صفعتني كف هواء بارد، تسرب من النافذة دفعة واحدة، تسببت في سعلة جافة ومقيتة، اضطررت معها جلب ورقة كلينيكس، خبأت بصقة جافة داخلها، طويتها بسرعة وأودعتها جيب معطفي الكاكي، نشفت جبيني بورقة أخرى. فجأة شلت يدي على حافة ناصيتي، قبض قلبي وقطع خوف مفاجئ كبدي، تهت ثم عدت. هل فعلها النيكوتين الخبيث؟ هل فعلا؟.ّ أم خيل لي ؟
تلمست ورقة كلينيكس الأولى، أخرجتها مبللة من الجيب، نقطة حمراء فاتحة اللون رسمت على الورقة البيضاء عدة علامات استفهام؟
6
ـ لابد من العملية، والراحة التامة.
ـ لكن؟.
ـ ليس هناك وقت، عجل في الأمر
عدت إلى زبيدة، كان ليلها طويلا وباردا، لم أحس دفئ جسدها، لم يعد بيدها شيء تفعله، لقد فات الأوان.
قبل أن تكمل الشمس إشراقتها، سابقت الوقت إلى الوكالة، ليس في مخيلتي غير شهرزاد وما ستفعله شهرزاد. لم يستقر لي حال حتى وصلت الوكالة ولسان حالي يرسم في لافتة على محياي حروفا سوداء غليظة وأنا وأنا؟
ـ ستنال كامل مستحقاتك مع الترقية إن شاء الله
ـ ولكن؟
ـ إني سأتولى الأمر بنفسي لا تقلق، سأملأ استمارة طلب ترقيتك وأسلمها لك، لتحملها إلى السيد المدير بنفسك.
لم أجد ما أعلق به، مثل زبيدة في البيت، لا تترك لي مجال الرد أو التعليق، فاكتفيت بطأطأة رأسي، موافقا وشاكرا لها ما ستقوم به من أجلي. وهمت قاصدة مكتبها تبرم ساقيها، المفتولتين
ـ ولكن.. سيدتي.. الأمر..
ـ خلال هذا الشهر على الأكثر سيسوى الأمر، ويكون كل شيء على ما يرام.
استدارت وراحت مواصلة طريقها إلى مكتبها. تابعت خطواتها بعينين متعبتين، هذه المرة لم يثرني اهتزاز ردفيها المملوءين، لأن الصداع كان في الرأس أقوى من الإثارة. دخلت واصطفق الباب خلفها. غيرت مكان الكرسي بعيدا عن النافذة، وهويت عليه مذهولا.
7
مر شهر، شهران، ثلاثة أشهر،اتسعت النقطة الحمراء الفاتحة إلى بقعة داكنة، رحلت زبيدة إلى بيت أهلها وأصبحت العلاوة والترقية وهما تسليني به شهرزاد، كلما صادفتني في رحاب الوكالة.
AZP09



















