شكر من الملكة عالية بعد عملية في النجف

شكر من الملكة عالية بعد عملية في النجف
شاكر العاني
الملكة هي جلالة الملكة عالية والدة آخر ملوك العراق الملك فيصل الثاني رحمهما الله.
أما الموكب فكان يتكون من سيارتين ودليلهما وحارس الموكب هو العبد لله انا المفوض شاكر العاني مأمور مركز شرطة النجف وكان ذلك حسبما بقي في ذاكرتي عام 1950 وقبل وفاتها باشهر عدة من تلك السنة.
كنت حينها استعد للذهاب الى بغداد بعد نهاية دوام يوم خميس لألتقي بأمي التي عادت الى بغداد بعد ان ضاقت عليها الغربة بعيدا عن ابنتها واحفادها. ولألتقي ببعض زملاء المسلك الذين انتسبوا للدراسة في كلية الحقوق لاستلم منهم نصيبي من ملازم الدروس التي ليس لها كتب مقررة، ولكن نداء تلفوني وصلني من مدير شرطة كربلاء حسين الملّي متجاوزا رئيسي المباشر معاونه المرحوم مردان السعد وطلب مني الحضور الى كربلاء بمفردي وأن أصل الساعة الرابعة وقبل الخامسة في كل الاحوال من نفسي ذلك اليوم.
امتثلت للامر وركبت سيارة الجيب الحكومية التي عشقت سياقتها رغم المحاذير الرسمية التي تمنعنا من سياقة مثل تلك السيارات الحكومية واصطحبت الى جانبي سائقها في هذا الواجب المجهول الذي لم ابلغ بشكله وحدوده.
وصلت الى مسكن مدير الشرطة في كربلاء بعيد الساعة الرابعة وطلب مني الذهاب الى مقر مديرية الشرطة والانتظار بالقرب من تلفون ضابط الخفر.
نفذت ذلك الامر وقبيل الساعة الخامسة دق جرس ذلك التلفون وكان الامر الجديد ان اذهب الى دار المتصرف. وجدت سيارة مدير الشرطة الخاصة وفي تلك السنين لم يكن للمتصرفين المحافظين ولا مدراء الشرطة سيارات رسمية خاصة بهم ولا حراسات وإن كانت لهم حراسة فلا تتجاوز شرطي مسلح بمسدس يمشي وراء المسؤول الذي بتلك الدرجة، وهذا يعني بالنسبة لي ان مدير الشرطة موجود في مسكن المتصرف وعليّ ان اقابلهما وفي خاطري رقة وابوية مدير الشرطة المومى اليه وحزم وشدة المتصرف المحافظ مكي الجميل رحمهم الله.
باب المسكن
ادخلني من كان ينتظرني في باب المسكن الذي يقع على الشارع مباشرة حيث لم يكن في تلك السنين بيوت فخمة لها حدائق وعليها حراسات مثل مساكن المسؤولين فيما بعد تلك السنين ولا اقصد هذه السنين فقط، وارجو من القارئ ان يعذرني ان وقعت في خطأ في تحديد التواريخ والسنين لأني اكتب من الذاكرة، وقد امتد بي الاجل الى هذه السنين وربما تخرجني امراض الشيخوخة عن السياق الذي اكتب فيه ومعذرة وقد وصف الله جلت قدرته من يصل الى ماوصلت اليه بقوله بسم الله الرحمن الرحيم وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا صدق الله العظيم.
وجدت المتصرف ومدير الشرطة واقفين في غرفة جانبية وأديت التحية لهما رد عليّ مدير الشرطة بما يشبه التأكد من وصولي أما المتصرف فقد كان مشدود الوجدان والنظر الى شباك يطل على الشارع.
وبعد ان شعر المتصرف بوجودي التفت نحوي وقال اسمع شاكر، اعتمد عليك في هذا الواجب بعد ان رشحك مديرك واشار الى مدير الشرطة الواقف الى جانبه.
قلت حاضر سيدي.
قال المتصرف ان جلالة الملكة الوالدة الان في كربلاء ولم يذكر المكان الذي توجد فيه وخطر في بالي لابد وانها في زيارة مرقدي جديها الشهيدين الحسين والعباس رضي الله عنهما. وتابعت بانتباه شديد أوامر المتصرف وكان موجزها ان جلالة الملكة متوجهة الى النجف الاشرف وعليّ ان أرافق موكبها وأبقى معها أنفذ اي أمر او تعليمات تصدرها لي الست ملوك » ولم اكن اعرف قبل ذلك من هي الست ملوك ولكني في هذا الواجب علمت انها هي زوجة معالي ضياء جعفر وزير المالية المستديم ومن المقربات الى الملكة والى اميرات القصر الملكي، والست ملوك من اسرة بغدادية عريقة هي أسرة النواب من أصول هندية لهم منزلة الامراء في بلادهم وكانت الاسرة تسكن جانب الكرخ الى جوار جسر الشهداء على نهر دجلة مباشرة ومن هذه الاسرة علاء النواب العراقي الذي عبر مضيق دوفر قبل ان يعبره المصري الذي اطلق عليه لقب التمساح وان حظى علاء صديقي وزميل دراستي بتقدير من الامير عبد الاله إلا انه لم يأخذ ذلك الاهتمام في الاعلام العراقي كما اخذه التمساح المصري وامتهن علاء فيما بعد القضاء وظل مستمسكا بوطنه العراق بالرغم من رحيل جميع افراد اسرته بعد انقلاب عام 1958، وبعد هذا الفاصل اعود الى مسير موكب الملكة.
وصلت سيارتان ووقفتا على باب مسكن المتصرف، وكان المتصرف قد خرج الى باب مسكنه بعد ان وصلته إشارة من شخص يقف وسط الشارع بانتظار الموكب، انحنى المتصرف ويده على صدره لمن في السيارة الاولى وادى التحية العسكرية مدير الشرطة وانا معه لنفس من كان في تلك السيارة ولم يكن معلوما ان الملكة في اي من السيارتين لان نوافذ السيارتين مسدل عليها الستائر وحتى النسوة كن يضعن على وجوههن برقع ويسمى في ذلك الوقت بوشي وأجسامهن ملفوفة بعباءات سود، إلا انني ادركت ان من كان في السيارة الاولى كانتا وصيفتين ملونتين لأني اقتربت من سائق تلك السيارة واعطيته تعليمات ان يسير خلفي ولا يترك مسافة كبيرة لكي لا يؤثر الغبار على ركاب تلك السيارتين لأن الطريق مابين كربلاء والنجف الذي يبلغ طوله 100 كم غير معبد ولا يقتصر على مسلك واحد وانما له مسالك متعددة يتجنبها سواق السيارات لكثرة مافيها من الحفر وكثيرا ما تنقلب السيارات لاسيما في موسم الزيارات عندما يركب الزوار على سقوف الباصات الخشبية المتهالكة.
سوق كبير
سلكت بالموكب طريقا لم يكن مطروقا ولكنه اطول متجنبا تلك الحفر الطسات ولأن الاوامر التي صدرت لي ان أصل بالموكب الى مرقد الامام أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب رضي الله عنه متجنبا الزحام ودون ان يتعرض الموكب الى ما يؤخر وصوله. وقبيل غروب الشمس بوقت لا بأس به تمكنت من إيصال الموكب بسلام الى باب الطوسي الذي يقع الى الشمال من الصحن الحيدري الشريف لأن سالكيه قليلون وخاصة في هذا الوقت الذي يكون فيه عموم الزوار قد عادوا الى مساكنهم والى مدنهم وهذه الايام لم تكن موسما لزيارة يكثر فيها الزحام. وجدت السيد حسن ابن سادن كليدار الروضة الحيدرية يقف داخل الصحن وكأنه ينتظر قدوم هذا الموكب، ابتسم بوجهي وعرفت انه مكلف بأن يكون في استقبال جلالتها، تقدمت امرأة بحجابها نحو السيد وهمست له بقول وقدرت ان من كان خلفها من بقية أولئك النسوة هي جلالة الملكة على وجه التحديد لان خطاها كانت بطيئة واهنة وأما الاخريات وكن خلفها ووجدت ان السيد حسن قد اغلق باب المرقد الحيدري الشريف بعذر او بحجة تنظيفه ووقفت انا خارج الرواق المؤدي الى باب المرقد الشريف وتركت سائق سيارة الجيب في حراسة السيارتين الملكيتين مع سائقهما اللذان كانت الاوامر تقتضي ان لا يتركا سيارتيهما. تمت الزيارة بيسر ولم يشعر احد بوجود الملكة.
في هذه المرة خاطرت وتقدمت الموكب وسرت به داخل السوق الكبير باتجاه الميدان مباشرة دون الالتفاف على طريق السور الذي قدمت عليه وسط استغراب وتعجب من شاهد ذلك الموكب، سيارة الجيب العائدة للشرطة وخلفها سيارتين متشابهتين لا احد يعرف من في داخلها، وكان المتبع ان لا تدخل اية سيارة السوق لضيقه وكثرة رواده مهما علا مقام راكبها، حتى ان جلالة الملك عبدالله ملك الاردن رغب ان ينزل في ساحة الميدان ويدخل السوق ثم الصحن الشريف مشيا على قدميه وأظنه بل وأنه امر مؤكد بانه كان يريد اجلال صاحب المرقد. وحسب الاوامر التي بلغت بها وصلت بالموكب الى دار الاستراحة الملكية بالكوفة وكأن خدم وعمال القصر مبلغين بقدوم ضيف لأن المدخل الرئيسي كان مفتوحا والقصر مهيأ للاستقبال.
اتخذت لي مجلسا غرفة آمر مخفر الشرطة الذي في باب القصر بانتظار مايصدر لي من اوامر، بعد حوالي ساعة تقريبا جاء من اخبرني بأن الست ملوك تنتظرني، تبعت من اوصلني الى الغرفة التي كانت تقف بها تلك الست ولم تكن بتلك التحفظات التي سبق ذكرها مع حشمة في الملبس ودبلوماسية في الكلام غير مألوفة لنا نحن عامة الناس. قالت لي ان جلالة الملكة تشكرك على الجهد الذي بذلته وبدأت تفتح حقيبة صغيرة بيدها واخرجت ورقة من العملة النقدية لا اعرف والله حتى الان مقدارها، وقبل ان تنطق الست ملوك بكلمة قلت لها انها فرصة عظيمة ان اكون في خدمة جلالة الملكة الوالدة وسوف لن اقبل اجورا مهما بلغت عن هذه الواجب الجليل.
ورقة عملة
إستجابت لطلبي واعادت ورقة العملة الى حقيبتها، واستأذنت وانصرفت. تملكني الفضول لمشاهدة الملكة لأنه كان مشاعا انها مريضة وانها كما شاهدتها في مشيتها اثناء تأدية مراسم الزيارة واهنة وتكاد تتكئ على الست ملوك وملوك ملتصقة بها ولكني في الحقيقة لم أوفق لمشاهدتها إلا بتلك الهيئة لان ذلك يتطلب مني العودة الى ممرات القصر وهذا يعني تلصص لم امارسه في حياتي في امور اعتيادية فكيف وانا في هذا الواجب الملكي الجليل. نعم كان للملك فيصل الاول وابنائه واسرته منزلة تكاد تكون مقدسة في نفوس عموم الشعب العراقي، أذكر ذلك لأن ذلك الشعور كان يتملكني ولايزال. اخذت قسطا من الراحة على سرير في المخفر المذكور، وفي الساعة التاسعة جاء من أيقضني لكي ادخل القصر واتناول عشائي وفعلا ذهبت خلف من دعاني ووجدت مائدة عليها الكثير من الطعام واستأذنت ذلك الرجل باستدعاء السائق الذي كان معي لانه سيكون جائعا مثلي تماما، اما بقية افراد شرطة المخفر فالعادة ان يأتيهم الخدم أو الطباخون بنصيبهم حيث يكون تواجدهم على باب القصر في مثل تلك المناسبات. في الصباح الباكر هيأت نفسي للقيام بآخر مرحلة من ذلك الواجب حسب الاوامر الصادرة لي، ركبت النسوة في السيارتين وتقدمتهما بالسيارة الجيب ولكن هذه المرة عبر الفرات على جسر خشبي واتجهت بهم نحو مدينة الحلة وقبل ان أصل مشارفها وجدت جمعا كبيرا من الرجال يقفون على جانب الطريق وقدرت أن لا بد وأن يكون هم المكلفون باستقبال جلالة الملكة لأن الاوامر التي بلغت لي ليلا ان أصل بالموكب حيث أسلمه الى متصرف لواء الحلة ولأني لا أعرف الرجل فقد توجهت الى مدير الشرطة مستدلا عليه من هيئته الرسمية وبعد أن اديت له التحية تركني وانشغل مع المتصرف بمراسيم الاستقبال، وفي تلك الايام لا توجد مكائد تنصب ولا سيارات ملغمة تفجر، اديت التحية الى مدير الشرطة، وقلت سيدي هل انتهت مهمتي قال نعم ورجعت الى الكوفة ومنها الى النجف ولم اذهب الى بغداد لاداء الواجب الاسري الخاص الذي كنت اعددت نفسي له، ولم اشاهد الملكة كما كنت ارغب وقد توفيت بعد اشهر من ذلك اليوم ولم يكن لموتها ذلك الوقع الاليم الذي صاحب وفاة عمها الملك المؤسس فيصل الاول ولا لما كان لزوجها الملك غازي حبيب الشعب ولا لمقتل ابنها الملك فيصل الثاني في ذلك الانقلاب العسكري الاهوج. ومن حزن وتألم لمقتله مارس ذلك سرا إلا ضابط شرطة اسمه لطفي مظهور من ابناء بلدتي أقام له مأتما في الكوت اثناء عمله في شرطتها وتلك حكاية ربما جاءت مناسبة وعدت إليها.
/4/2012 Issue 4171 – Date 11 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4171 التاريخ 11»4»2012
AZP07