الخطاب التداولي في أقول الحرف وأعني أصابعي (1-2)
شعرية الإنجاز لدى كمال الدين – نصوص – هاني صبري آل يونس
الملخص
إنّ الخطاب التداولي، بوصفه – تقانة أدائية توصل المتكلم بالمتلقي على نحو يحتمل أو يحتاج إلى كثير من وسائل الانسجام كيما تتحقق فرادة هذه التقانة في أداء موضوعاتها الخطابية لأن الاختلاف بين التركيب والدلالة من جهة والتداولية من جهة أخرى إنما هو كالتقابل بين النظام أو اللسان واستعمال هذا النظام ، ولأن الأمر يحتاج إلى ممهدات نفسية واجتماعية وعرفية كثيرة لابد من تحققها قبل التفكير أصلا في تحقيق الذهن لتقبل تمثلات الدلالة الواردة عند المتكلم أو لدى المتكلم له ، و لا يغيب عن ذهننا، جميعا، أن أي مفهوم للخطاب أو لنقل ذلك الذي يمكن أن يتجاوز مفهومه الإخباري لينتقل إلى بؤرة المقابلة في مباشرة الإنجاز ، نقول : إن ذلك ينبغي أن يتجاوز وسائط العرف المعتادة كي يكسب المتلقي إيماضات شعرية كثيرة لأن لكلمة أو لكل عبارة عدة معاني مستعملة فهي ليست نتيجة تنظيم النظام المعجمي بل نتيجة مبدأ تداولي مطبق على القول يسهل عليه سرعة الاندماج في كشف السياق الخطابي الذي تحتملها الرسالة اللغوية، بوصفها انجازا فكريا ومعرفيا ضابطا.
القول ..
المتكلم والمتكلم له :
ولأنّ كثيرا من الأفعال القولية المشاركة في صناعة متوالية (الكفاءة والإنجاز) أو المتداولة بين اللسان والاستعمال لا يكشف تلقيه ، بحسب صياغته للمعنى أو بتبنيه الانطلاق من معادلات السياق ، وإنما من استجلاب بؤر ذاتية لواقعة القول ليس إلا، لذلك فأن المبادئ التداولية لا تعنى بالكفاءة اللسانية أي معرفة المتكلم باشتغال لغته بل تعنى بنظرية في الإنجاز تقول: إن التداولية هي العلم بمجموعة من المعارف أو القدرات على استعمال اللغة في مقامها معناه ، إن الإنجازية التداولية ليس انقلابا فكريا بعيدا ينغرز في صلب نظرية التواصل التي تحتم إزالة أي معرقل بناء أو دلالي تعترض عملية إيصال الرسالة فحسب بل هي فكرة إفصاحية تعنى بوجه الاستعمال الظاهري لدلالة اللغة إنها ذاتية معلنة لمتكلم محتقن يحاول التنفيس عن غائيته ومن ثم المشاركة في صناعة خطابها التداولي، لذا فلابد للمتلقي أن يسهم بشكل فاعل في إثارة المتكلم أو قراءته على نحو إيجابي كي يستولد في لسانه تداعيات لاستعمال هذه اللغة وعلى نحو خاص يؤشر على انزياحه عن النظام في تراتبه الإنشائي ، أو لنقل ان هذا التفاعل ينبغي أن يكون أولا إذا أردنا إنشاء علاقة تواصل فاعلة بين المتلقي والمتكلم ، لذا أراد الشاعر أديب كمال الدين أن يشهر ثيمة الحروف بوصفها قصائد دالة على واقعة لسانية والغائية في ذلك عنده شعرية معلنة، يقول أديب كمال الدين :
(وبدأت الحروفُ عاريةً تماماً
ترقصُ وترقصُ وترقص
رقصةً وحشيّة
وأنا لا أعرف مَن أنا:
أأنا المصلوب في أورشليم الذي وشى به يهوذا؟
أم أنا المصلوب على جسرِ الكوفة .
أن تبليغية التناص / أنا : المصلوب // أم أنا ألمصلوب / كانت ترسخ لنوع من الربط يجمع بين مكانين بينهما كثير من التوحش : أورشليم = جسر الكوفة ، حدث كل ذلك نتيجة تواصل لساني حدثته واسطة الإنكار في الاستفهام المغيب ، لذلك يكون هو الأساس أو الفيصل في التقسيم بين وعيين مختلفين ، الاول ناف : أنا لا أعرف من أنا ، والآخر ممنهج فكري يستدعي التواصل القرآني مشهدا يلقي بظلاله على قصة يوسف عليه السلام : لماذا تركتهم وهو محول دلالي يحقق الربط على نحو فعال مع خطاب الإنجاز في متواليات السرد الجانبي لقصة يوسف : يلقونني في البئر// يمزّقون قميصي قبل التمكن من الإبلاغ عن فكرته المعرفية الكبرى : وأنتَ تعرفُ أنّهم يكذبون :
لماذا تركتهم يلقونني في البئر؟
لماذا تركتهم يمزّقون قميصي؟
لماذا تركتهم يكذبون،
وأنتَ تعرفُ أنّهم يكذبون؟
أعرفُ أنكَ كنتَ شيخاً جليلاً
وأنهم – وا خجلتاه- استغلّوا
ضعفكَ البشريّ
هذا مهم جدا إذ إن التواصل ، لا يحقق هذا الشيء إلا بتهيئة المتلقي والإشادة بأهمية المرآة (الذئب) في عملية صناعة الذروة : إن الذئب كان أرحم من أراجيفهم ، لذلك كان الإنجاز عنده منهجا فكريا ذاتيا يظهر كثيرا من الإنشاء: لم أقاوم + سحر لثغتها// ولم لا أنوثتها الطاغية ، أو لنقل إنه أظهر انسجاما أدائيا فاعلا يشكل البؤرة في غالبية تحريره لمهمة الإنجاز: فسقطتُ في البئر// وصحتُ انتشلني، إذ تأتي لاحقة النداء المغرق في تنكيريتها الواضحة = يا مَن كُتِبَ عليه ما قد كُتب ، لتفصح عن صمت الحكي :
وأنّ الذئبَ كان أرحم من أراجيفهم.
لكنني كنتُ ضعيفاً.
أصدقكَ القول
لم أستطعْ أنْ أقاوم سحرَ لثغتها
ولا أنوثتها الطاغية
فسقطتُ في البئر
وصحتُ: انتشلْني
يا مَن كُتِبَ عليه ما قد كُتِب
من عذابٍ عجيب
إنه تشكيل شعري أو بناء أنموذج لوعي تداولي مقتدر بإمكانه أن ينحرف بسهولة في ذاتية المتلقي ومن ثم سحبه اختيارا إلى بؤرة الاستعمال في الصناعة الكلامية كيما ينسجم مع الغاية الدلالية لرؤية النص.
شعرية الاستعارة
مفهوم الاستعارة لا يبدو غريبا على التداول، لأن الخطاب التداولي يعتكفه كثير من خيال النشاط الإنساني في إنتاجه وفي تكرار الاستعمال العرفي لهذا الإنتاج وهو يتميز بفيض من الإيحاء و تراكم الدلالة فضلا عن طاقة في الإخبار مهيمنة ، لذلك فهي تجتاح خطاطات الإيصال فتحرفها عن وجهتها أوعن جبهتها الدلالية نحو وجهة شعرية طافحة بالبلاغة حيث استمكنت الاستعارة بواسطة لازمة العين بوصفها جارحة إنسانية مستفحلة نسبت إلى غير العاقل في مركب الإضافة: بؤبؤ الحزن، لذلك رفدت صورة الاستفهام المغيب عن وعي الظاهر لاستعمال اللغة: هل// سقطت دمعتك = من بؤبؤ الحزن // حتى تراني ، بطاقة تعبيرية لا يستولدها إلا شاعر زاد عنده دفق الحرف رقراقا حتى صار مرآة نفسية شاخصة تعكس ذات الشاعر ورؤيته نحو الحياة والموت :
إنني أهوي إلى القاع.
فهل سقطتْ دمعتُك
من بؤبؤ الحزنِ حتّى تراني؟
أصدقكَ القول
إنني لم أعدْ بعد.
إنني أحلمُ أنْ أعودَ إليك
لأبكي على صدرِكَ الطيّب
فعندما يغلب شوق الإنسان حنين إلى أب يصارع تيه المسافات ، نرى نفس الشاعر الذاهبة إلى الحزن سرعان ما تتأرجح بين بعدين كلاهما واحد لدى المتلقي : أبي يا أبي // )أيها البعيد // أيها القريب : كهلال العيد (، أو غالبا ما يكون منصرفا عنه في ايدولوجيات التشيبه إلى سيمياء التمثيل البليغ في علامة (هلال العيد) بطرفيه المتعادلين القريب والبعيد :
وأصيحُ : أبي يا أبي
أيّها البعيد كهلالِ العيد
والقريب كهلالِ العيد
أريدُ أنْ أراك
لآخر مرّة .
هذا أولا. أما ثانيا : فهذه كلها مؤسسات لبؤر الاتصال لدى المتلقي، أوفي ذاكرته اللغوية بوصفه معادلا عدديا لا يتكرر سوى مرة واحدة : أريد أن أراك = لآخرة مرّة فإن المتكلم يمكن أن يظهر وعيا مخالفا إزاء المتلقي إذا ما استطاع أن يهيئ تقانات بلاغية معينة لإشهاره اللساني .
فالأعراض اللسانية من سبّ وشتم قد تعتور بضاعة المتكلم عنده : لكنهم / رابط استدراكي+ جملة / تفسير + يجيدون فن الكذب /جملة السب والشتم ومن ثمّ غرائبية في الصناعة المنطقية عنده : لم ـــــــ يسلم +حتى الذئب / رابط سببي تصعيدي + جملة التجاوز أو عقادة البناء أو ربما الخوض في التجاوز على إمكانات المتلقي الفكرية في الاتصال إلى حد بعيد يولد إنجازية من نوع خاص :
لكنّهم– كما تعرف- يجيدون فنَّ الكذب
ولم يسلمْ حتّى الذئب من أكاذيبهم.
لكنّهم صدقوا هذه المرّة
فأنتَ متّ بين يديّ .
هذه كلها تنويعات لخطاب واحد ، قد تضافرت فيه الفروق والوجوه على نحو ملبس: )لم + تـقل ( + ) لم + أقل( + ) لم + نقل ( و خطاطات تعبيرية بإمكانها أن تحدث انفراجا في أية علاقة يكون التواصل اللساني فيه باردا، ولعل تكرار الروابط التداولية في (لم ولماذا ولكن) فضلا عن قوة التوكيد الناتجة من تظافر توزيع المورفيمات المباشرة للقول على ألفوناتها المتنوعة وعلى أساس سياقات قولية جاذبة تجعل المتلقي يكمن في سمت الخطاب، كي يدفعه إلى أن يسهم بقراءة جديدة للرسالة اللغوية في زمان ومكان محددين، وليست ببعيدة عن ذلك ، استجابة المتلقي لبوادر الانفعال الذي يظهره النص :
لم تقلْ شيئاً.
لم تقلْ أيَّ شيء.
لماذا لم تقلْ أيَّ شيء؟
لم أقلْ لكَ أيَّ شيء.
لماذا لم أقلْ لكَ أيَّ شيء؟
لم نقلْ أيَّ شيء.
لماذا لم نقلْ أيَّ شيء؟ .
ولا ريب فإن المتلقي في : أقول الحرف وأعني أصابعي ، يمتلك هنا إمكانات ذاتية متفوقة جدا في تقبل أو رفض المتكلم ، لما له من قدرة في توجيه دلالات الكلام ، نحو قوله: كنت // طيّبا // ضعيفا أو إنه قد يصرف الدلالة إلى جهة واحدة فيها تشكيل جمالي راق هذه الجمالية تكمن في استحداث متوالية خطابية للتشبيه تقرن الكل بجزئه : ) ك+ طيبتك (أنت) كلية = طيبة دمعتك (هي ) جزئية ( ، وهذه واحدة من قراءاته المتميزة على مستوى الإفهام والمفاهمة، أو ربما لأن رسالة الخطاب الواردة إليه لا تتمحور إلا على الجمالي في اشتغال ألفاظ تستوفز النفس الإنسانية وتعمل على إثارة النوازع الفاعلة في ذلك ، او لعل اعتماد الطيبة وجها للشبه حسيا لا يقبله العرف هو السبب فيما ذهبنا إليه للمبادلة ، وقد يكون متأتيا من الضم الحاصل بين رابطي الإنكار والتعجب 🙂 لماذا+ كنت طيّبا (، إذ إن العنصر الاستخباري أعني الاستفهامي : ( لماذا ) بما فيه من تعجب يسكت المسكوت عنه في النسق ، ويحيل المتوالية الخطابية للنداء المقصود : يا أبي ، إلى نص تداولي فاعل يكاد يتشظّى في نسقه إذا تسنّى لنا أن نرجعه إلى واقعة الأبوة بوصفها واحدة من مرجعياته الاجتماعية :
إذنْ، لماذا تركتَهم هكذا
يرقصون طرباً من لذّةِ الحقدِ والانتقام؟
لماذا كنتَ ضعيفاً إلى درجةِ الوهم؟
لماذا كنتَ طيّباً
كطيبةِ دمعتِكَ الطاهرة؟
ولماذا أورثتني دمعتَكَ الطاهرة
يا أبي؟ .
لذلك لابد من إقامة أود علاقة تواصلية بين المتلقي أو المتكلم في انجاز صورة شعرية لنوع من الخطاب خاص فيه شئ كبير من ذاتية المتلقي وخصوصية المتكلم في ايماضات لسانية تداولية، تظهر عقلانية التشكل اللساني إزاء اضطراب وفوضى الاستعمال لإمكانات اللغة في التقبل والشيوع.
المنوال النحوي
ما نعنيه: إن العبرة ليست في اختلاف الألفاظ، أو محاولة إكساب هذه الألفاظ وظائف جديدة ، أو لنقل دلالات تعبير جديدة ، إنما الأساس في توجيه هذه الألفاظ وتحميلها إمكانات أداء نحوية خاصة ، منها ما تتمثل في المقابلة بين وجهي الإضافة في الاستعمال النصي : ناري // نار قلبي ، أو في المضاهاة بين مجارير أفعال القول وحركة الضمير العائد ومن ثم مَعادات الإحالة النصية فيها ، من نحو قوله : ) دمها + لوعتها + ضوضائها ( أو ربما الموازنة بين أساليب الطلب ذات الضجيج العالي : )النهي = لا تقترب// الأمر= كن على حذر(:
لا تقتربْ من ناري!
من نارِ قلبي وسرّي،
فإنّي أخافُ عليكَ من النار:
من دمِها ولوعتِها وضوضائها،
فكنْ على حذرٍ
أيّهذا المُعذّب بالشوقِ والليلِ والأهلّة .
وهذه طرائق تعبير لا يحسن استخدامها إلا إذا أردنا تحقيق كسر شامل لأفق التعبير الشعري وأظن أن ما أراده أديب كمال الدين كان قريبا من هذا حين وثّق بناءه الشعري على هذا النحو، وكان قد صاغ أنماطه النحوية بوحدات دلالية بنائية إن كانت أولية لكن في حملها الوظيفي كانت ثنائيات كلية نصية: )في كل فجر// في كل ليلة : الصلب // وما بعد الصلب : مما ترى // مما لا ترى( هذه الثنائيات لأنها اقترنت بدلالة المضارع المستمر : أخاف عليك ، والخوف هنا معادل نصي جامع لكل هذه الثنائيات فهي لأجل ذلك يمكن في أية لحظة أن تفجّر السكون إلى مناورة ومواربة ومن ثم فاعلية تشويقة تخترق بسهولة ذاتية المتلقي أو لنقل تخترق ذاكرة المتبقي عنده ، فالمتكلم والمتكلم له ،عنصران خطابيان ، لا يظهر تحقيقهما انسجاما إلا إذا استدعى خلوص أحدهما للآخر تهيئة ذهنية سابقة :
أيّهذا الغريب الذي يجددُ غربته
بدمعتين اثنتين
في كلِّ فجرٍ
وفي كلِّ ليلة.
لا تقتربْ!
أخافُ عليكَ من الصلب
وما بعد الصلب.
أخافُ عليكَ ممّا ترى
ولا أخافُ عليكَ ممّا لا ترى .
ولابأس حينها من اعتماد روابط حالية أو أدوات استفهام تفسيرية عارضة مسندة إلى أفعال غلبتها صفات زمانية محددة ، مثلا هنا تحيل الحدث من الحاضر إلى المستقبل ) كيف + سيسمّونك // كيف + يسمّون // كيف + سيقترحون( وهو صيرورة نحوية تابعية رابطة وهذه واحدة أخرى من قوانين التداول متطلبة هنا لتدعيم المعنى بتماسك نصي يولده تكرار الأداة كيف وبأنساقها النحوية، فالمعاني النحوية مطروقة والمنوال موثوقة جهاته لذلك لا يمكن للشاعر الا أن يلج قريبا في المجابهة مع أفعال القول وتحميل تابعية أدوات الربط تراتبا سياقيا من اجل إشاعة قولته التداولية :
فكيف سيُسمّونكَ حين تموت؟
كيف سيُسمّون حرفَكَ الإلهي:
أعني معجزةَ نونكَ وأسطورةّ نقطتك؟
وكيف سيقترحون تاريخَكَ الأرضي
وجغرافيتَكَ السماويّة؟
هل سيقيسونكَ بمساطرهم الغبيّة
وبمقولاتهم الجاحدة .
التراتب الإنشائي :
يقتضي تحقق الاستجابة الإنجازية في الشعر إغراقا شبه تام لمركبات التعبير في هيمنة سياقية سادرة يبني عليها التداوليون إنشائيتهم المفرطة ، هذه الإنشائية هي استعمال للغة في غير بابها المعجمي إنها سرد ذاتي إفصاحي أساسه شفاهي مغلب على سرعة الإقناع ، لننظر إلى قوله : تضيع كما ضعتُ من قبلك ؟ ولعل القراءة المستوية ما نعنيه القراءة العادية لا تفصح عن شيء ولكن لو استطعنا أن نتوسّل قابلية التنغيم في أداء هذا المقطع لكنا قد قلنا أن الهمزة مغيبة ، ولاريب فإن تغييب الهمزة يمكن ان يعطي لإعجاز الدلالة قالبا إيقاعيا مبهرا نتصوره سلسا في قولنا : (أ + تضيع ) والجميل في استدراك السياق تنصيص المنوال النحوي على الإضراب في فحوى فاعلية أم المعادلة ، ومن ثم الوقوف على حراك المطابقة بين : )تضيع + كما + ضعت // يقيسونك + بمحبتهم + القاسية ( للتدليل على مناورة الوجه المنطقي أو السببي في فحوى خطاب التعليل : لتضيع ثانية + كما + ضعت :
تضيع كما ضعتُ من قبلك؟
أم سيقيسونكَ بمحبّتهم القاسية
وبعشقهم المُزيّف
لتضيع ثانيةً كما ضعتُ من قبلك؟
لا تقتربْ!
أيّهذا الحُروفيّ الذي يقترحُ الحرفَ اسماً
لكلِّ شيء .
ولا ننسى، أن إيقاع المعنى يستدعي تماهيا من نوع خاص وهو ما جعل الشاعر يستعين بقوة الترابط في الأداة ( ثمّ + متعلقها ) التي تمنح المركب حيزا من تفاؤل ،هذا النسق التعليقي بحاجة إلى سلسلة أخرى من روابط معرفية توجه مرجعية النسق: من + النهر ـــــــــــــ إلى + الصحراء // من + الصحراء ـــــــــــــ إلى البحر// من + البحرــــــــــــــ إلى + الموت ، إذن هذه هي الدائرة الدلالية المغلقة فمنها ينبثق الماء ومنها يتجلى البحر إلى موت قرانه النار، وعندما ينتهي كل هذا الاضطراب إلى نهي دلالي صارم بقرينة المتوالية : (لا) الناهية + تقترب وهي مرحلة بناء أسلوبية أعلى بقليل من مرحلة الأمر بوصفه مرحلة وسطى من مراحل تكون البنية العمقية والأمر ينشأ في أصله من مرحلة ما بعد الإخبار التي تهيمن عليها الإنشائيات التداولية تكون الخواطر قد اهتاجت واجتاحت النفس نوبة حسرة قاتلة وواسطتها في التضام خالفة ( اللام + قد ) اللتان تسبغان على الفعل الماضي المسند إلى ضميره المتكلم : )لقد + احترقت+ قبلك + ألف مرّة ( دلالتي التحقيق والتوكيد، إن مفعول القول : قبلك + متعلقه التفسيري // ألف مرّة ، يمنحان المتواليد التداولية قدرة خارقة في تجاوز المعتاد السهل في الوصول إلى مران سياقي وابتكار دلالي ينشط عناصر التداعي اللاواعية :
ثمّ يمضي من النهرِ إلى الصحراء
ومن الصحراء إلى البحر
ومن البحرِ إلى الموت،
أعني إلى النار
وهو يحملُ جثّته فوق ظهره.
لا تقتربْ!
فلقد احترقتُ قبلكَ ألفَ مرّة
وما ارعويت.
لا تقتربْ !
من خلال تكرير دواعي الطلب : أرجوك وتمرين الذهن على الاندماج معها وتنمية المشاهد في الصورة على نحو إيقاعي متزن : أيها النار )لا تبقي ولا تذر (يوفر كثيرا من قواعد الاتساق والتوازي في إنشاء القصيدة : )فلا تقتربْ // منها // أيّهذا البشر(، وهو أيضا، يمرن الذهن على تقبل المشهد المتطور :
أرجوك
إنّها النار التي لا تُبقي ولا تذر
فلا تقتربْ منها أيّهذا البشر! .
لنقل أنه يموسق المعنى بحسب مَعاداته نفسية أوربما من تداخل أنموذجاته المثال عنده ، فضلا عن أنظمة تعاقب عرفية تجعل قابلية اللغة في الإنجاز أمرا واردا حينها يكون المعنى والوظيفة في هذه الحالة شيئا واحدا .
الانغمار في الوقائع الهامشية :
لا ريب أن القصيدة عند أديب كمال الدين نص دلالي مهلهل، توزيعاته الفعلية متباعدة وأسلوبه يشتمل على قدر كبير من تداعيات الاختلاف في استلزامه لتجلّيات المغايرة والعرفانية الرافضتين للمهادنة : إنّي + أنا الحلّاج ، ويقوي بناء هذا المنزع النفسي عنده تشكيل هامش لغوي يجمع بين توكيدي المتكلم ونفسه : اسمك // اسمي// إلى أن يندرج غائرا في عرفان صوفي يبجلّ لديه فرادة الوعي المعرفي الذي بات يحكم قصيدته الحروفية: وهمك// وهمي : صليبك // صليبي ، وهو ما يجرّ المتكلم أحيانا إلى وسائل إقناع قد تبدو للوهلة الأولى خارجة عن المألوف :
إنّي أنا الحلاج
اسمُكَ اسمي
ولوعتُكَ لوعتي
ودمعتُكَ دمعتي
ووهمُكَ وهمي
وصليبُكَ صليبي .
أو خارقة لأفق التوقع ، أو أن الذهن ربما لم يكن قد اعتاد عليها ،ففي كل ذلك ، رياضة فكرية ، أو لنقل مراجعة لقوى النفس من نوع خاص يحفز الذاكرة أو أن إمكانات المشاكلة أو المشابهة لدى المتلقي.
سترقصُ، إذن، يا صديقي.
سيجتاحكَ الوهمُ أو الموج.
(حسناً الموجُ أجمل) .
وسترفعُ قدمكَ إلى الأعلى.
ستبتسم
ابتسامتكَ الجميلة بالشهوةِ والسخرية وستضحكُ حقاً .
وهو ما يحدد دوره الشعوري في الإفادة من خاصتي التداول : الاتساق والانسجام التي تناور بينهما قوة التصديق والتكذيب بين الأداتين ( كيف + هل ) وفيها إحالة إلى يقينية مقصودة غالبا ما يتسرب إليها الشك . ( كيف + السبيل / متعلق + تفسير) وهي صغرى قياسا إلى كبراه : هل + جملتها + تفسير: أن تروض البحر، ولا ريب فإن تشكل الإثارة الهامشية بدت لديه واقعة : ربّما + تذكّرت + قُبْلة + من عسل لاسيما في تنويعه لاستعارة العسل ، فقد كانت مبتكرة ولأنها جاءت في سياقها قائمة على الحكاية وغير راهنة بقرينة (ربما) المائلة إلى التقليل والتشكيك إلا أنها بدت فاعلة على مستوى الفعل الجانبي المحايث :
سترى أنكَ قد رأيتَ فجراً
وربّما تذكّرتَ قُبْلةً من عسل
وربّما صعدتَ إلى الماضي.
ستنظرُ إلى البحر:
إنّه هائلٌ وغامضٌ ومخادع.
فكيف السبيل إلى ترويضه؟
هل يمكنُ لرقصةٍ ساحرة
أنْ تروّضَ البحر؟ .



















