شامة ـ نادية بنمسعود
تطل الشمس دافئة في يوم ربيعي، ترسل أشعتها على الوادي والندى يتساقط من أوراق الأشجار اليانعة على الأرض القاحلة.
هناك في ذلك البيت المبني من روث البقر وبعض بقايا الآجر، تسكن شامة، ذات الخدود الموردة كحبة الطماطم عند أول موسم الجني، والضفيرتين المفحمتين كالليل حينما يرخي سدوله في ليلة قمرية بامتياز، والقامة الطويلة الرشيقة كأنها مهرة تركض وتركض دون توقف، والثغر الشبيه بفاكهة حب الملوك وهي تمشي تتمختر في موكب الملكة، وأحلام العودة للمدرسة في غياب مسؤولية رعي الغنم، وقضاء أكبر وقت في اللعب مع رفيقاتها في جانب الوادي حتى مغيب الشمس.
حيث الروح تعانق الجسد، ضاربان معا موعدا على تحقيق الجمال.
وكأنها لحظة اكتمال القمر وأنت تطرزين برقصات قدميك، أرض آل سريف، بقممها الجبلية العالية وهي تطل على مدينة القصر الكبير.
في ليلة عرس جبلي بامتياز، عروسته امرأة جبلية تحكي كل ليلة لنساء الكون، عن نساء يقتلعن الفرح من رحم الألم.
تستيقظ شامة كل يوم عند نفس هذه اللحظة، تغير عبائتها الوردية بجلباب معتم اللون، تلف ضفيرتيها حول رأسها، تحزمه بقطعة ثوب مهترئة، ثم تلف على خصرها المنديل المزين بالخيوط الحمراء والبيضاء، وتلبس الصندل. تخرج من الغرفة الرطبة وقد زين جدرانها بلحايطي المزركش باللونين الأبيض والأسود، كل ما تبقى من جهاز عرسها داخل هذا البيت،
تتقدم نحو سطل الماء البارد، لتغسل ما تبقى من آثار كحل عينيها وأحمر الشفاه.
تخرج لتقطع مسافات طويلة لجلب بعض من الماء وكومة حطب وقد خدشت يديها الصلبتين، وعند العودة تفترش الأرض للغسيل والكنس والطهي وإطعام الدواجن والماشية، وفي المساء تلتحق به ليعودا معا، هو يمتطي دابته وهي من ورائه تجر قدميها المتعبتين تتبع خطى الدابة.
وعند الليل يكون التعب والألم قد أخذا منها كل قوتها، فتغط في نوم عميق، وقد نسيت وضع الكحل وأحمر الشفاه وتغيير جلبابها المعتم …
ودام الحال لأكثر من عشرين سنة ….
هرمت شامة، اصفر وجهها وتقوس ظهرها , مزق شعرها، واختفى اللون الأسود ليحتل مكانه اللون الأبيض القاتم.
رحل الجميع عنها، بما في ذلك الحايطي المزين لغرفتها، تمزق ونهشته القطط المتسكعة في بيتها.
ومضى الربيع تلو الربيع، وشامة تصر أن تستيقظ عند نفس تلك الساعة من الفجر للخروج لقضاء نفس حاجياتها منذ ذلك الزمن البعيد…
لكن…. هذه المرة لا أثر للكحل وأحمر الشفاه، ولاحاجة لتغيير الملابس، هي نفسها ملابس النوم والعمل والجلوس رفقة رفيقاتها ممن لازلن على قيد الحياة أمام الخباز….
حشد غفير من الناس يحومون حول جثة شامة وقد سقطت من على ظهرها المقوس كومة الحطب وسطل المياه اللذي لم يمتلأ بعد…
رحلت تاركة ورائها أشياء تسكنها، وأشياء هرمت ثم غابت عنها وأخرى تمسك بذاكرتها تأبى الرحيل
أشياء تبعث لها برسائل الحب
وأخرى تبتعد عنها الى ما لا نهاية
أشياء تود لو كشفت عن سرها
لكنها كلما احتضنتها
غرست في لب فؤادها خنجرا
فسقطت قتيلة
قطعة قماش جافة
بكل هدوء كانت تنتقل عائشة بين الطاولات وهي تحمل سطل الماء وقطعة قماش جافة ،كانت تقوم بعملية التنظيف بحرص وإتقان كي تزيل الوحل العالق بها ، فجأة تقدم نحوها وطلب منها أن تكنس ساحة المدرسة من كم المياه المتراكمة نتيجة تساقط الأمطار الغزيرة هذا الصباح.
بعدها، أمرها بتغيير مكان الطاولات، أحست بعدم القدرة على حمل الطاولات لوحدها.
طلبت منه مساعدة صديقات أخريات.
نظر إليها بتمعن وقال عجبك الحال هو هذاك معجبكشي لباب
انحنت عائشة على ركبتيها فأجهشت بالبكاء إلى حد النواح.
عاود النظر إليها قائلا استغلي وقتك في التنظيف الجيد، فبعد قليل سنشرع في الإحتفال باليوم العالمي للمرأة….
ها أنت تستسلم
الساعة تشير إلى الثالثة صباحا.. جرس الهاتف يرن.. لا وجود لآثار المتصل.. أخيرا ها هو يخرج من صمته..
كنت أعلم انه لن يستطيع البقاء بعيدا عني.. إنه أكثر من متعجرف في حبه..
ها أنت تستسلم بعد أن فقدت القدرة على المقاومة..
في صباح الغد يعود نفس الرنين… ربما كان نفسه. هو يختلط عندي بالرنين..
ألو صباح الخير، أتمنى أن لا أكون قد أزعجتك البارحة. الأمر يتعلق فقط بخطأ تقني طال تركيب الأرقام لا غير.
كم كان هروبيا
AZP09


















