قصة قصيرة
سيدة الضوء أمي فاما – رشيد سكري
تنزُّ برجل عرجاءَ مرقاتين … مرقاتين .
في سكونها المعهود ، وهدوئها الدائم ، تصعد ” أمي فاما” ، بمكنستها الصفراء الشاحبة ، وسطلها الأخضر ، درجا لولبيا نحتته أقدام زبناء عابرين من زمن عابر . متشبثة بدرابزين صدئة ، تساعدها على المضي قدما ، دافعة جسدا مترهلا إلى الأمام . بتنهيدات متواصلة ، ووراء صفير مرض قديم ، كان نزل القنيطرة يستقبل هذا الجسد المهيض واهن الجناحين . ترتدي ذلك الوشاح المزنر الأبيض المشدود إلى خاصرتها ، كي تقي نفسها من سقوط أو انجراف وشيك ، وراء فقاعات التنظيف ، التي تذوب … وتذوب … كالحلم ، كالألم والأمل .
في ذات المكان ، الذي يقف عليه علوان خلف مصطبة قديمة ، موشحا بقطرات الفرح الداجي ، وهو يحكي عن ليلة الدخلة على العروس ، كانت ” أمي فاما ” تصيخ السمع ، وهي لاهية وراء تعرجات فسيفساء وتربيعات تنامش عليها درن العابرين . مر أمامها القنيطري ، وقال :
ـ كيف وجدت العروس يا با علوان ؟
ـ جميلة ، والأجمل ما فيها فستانها الأبيض الصافي كالثلج ، وبكارة يطيش منها الأحمر القاني . لم تكن هذه الجمل الطائشة سوى أجراسا موسيقية ، ألفتها ” أمي فاما ” منذ أن أفل ، في حرب أكتوبر ، نجم زوجها ” البشير” .
في صعود لاهث ، ومشي خبيب بأقدام حافية ، إلى ” لكار” كان المنبه الصوتي يحمل لها أخبارا لاكتها نساءُ الحارة . لم تدر كيف قطعت ذات المسافة لتجد نفسها تطل ، من على الحجرة الملساء ، على قادمين وعائدين يحملون متاع حرب بئيس ، يجرون خلفهم ذيول حسرة وألم وهزيمة وخيبة . تسارعت أمامها وجوه معفرة بالحزن و الأسى ، فعاد إليها شريط أحداث ماضية جمعتها بزوج ، سقط عليها من عنان سماء كتميمة معلقة .
لحظات فرح و حبور ، ودهشة عند الصفصافة الزاهرة في بطن الوادي .
كان اللقاء الأول عبارة عن اطلالة ، من عل ، على عالم من أسرار. يقول البشير :
ـ جبهة القتال … تنتظرني يا فاما الحبيبة . قبـَّلها على صحن وجه طهور.
الجد الأكبر ، في البيت الأزرق ذي الطاقات الصغيرة الطينية … لا يريدني أن أغادر إلى جبهة النزال .
كان ينظر إليها ، ويتأمل وجها مدورا من الكريستال الصافي ، وقد هاجمته الحيرة والأسى ، فقال :
ـ إنني أتذكر سفري الأول ، عندما غطتني أقدام على حافلة العسكر و الجنود من أهل القبيلة ، وكاد هذا الثقل أن يزهق روحي ، حتى يمر الجد الأكبر ، ويرمي طرفة عين على شبان القبيلة ، وهم يساقون إلى الجبهة للدفاع عن وطن جريح .
بعد حرب اليومين ، جاء الخبر … قاسما ظهر ” أمي فاما ” ، خنوعة كما كانت . وبقسمات صبوح استقبلت جسدا كاد أن يكون هامدا ، إلا من نفس مهيضة تتحشرج بداخله ؛ أسيرة ، منفلتة من عقال الروح . جسد ملفوف في ثوب قطني ، تنامشت عليه قطرات من دم حار … ذاك الجسد المسجى فوق سرير العمر عبر به ” البشير” تنجداد وتشكا إلى حدود وادي الذهب ، الذي يقطع أوصال جبال الأطلس الوعرة ، مارا بغابات المعمورة الخبيئة تحت ظلال أشجار الزيزفون …
هذا الجسد المهيض ، بعد حصار دام أسبوعين ، شرب ماء مستنقعات ذابلة … وسط غابات الصنوبر والبلوط ، مقتفيا أثر وحشها ؛ ليشرب من دمها ، ويتلحف وبرها الساخن . كان الرذاذ ، الذي يملأ التربة الرملية الباردة من تحت أقدامه الحافية ، يجعل منه عصفورا بلله القطر ، فيصبح كومة من عظام يجمع بينها أمل في الخلاص من هذا الحصار .
عاد ” البشير” كما يعود المساءُ إلى بطاحه ، منفلتا من عقال و أسر ، وهزيز رصاص يشق سكون الوادي ، فمن خلف الحجر الأملس والأصم على طول الحزام المشئوم ، والذي جعلها ” البشير” جُنة واقية من هزيز يشق عنان الموت في السماء ، جاء الإغماء المدرج ، من فرط الجوع والعطش ، بالتلاشي وانعدام الشعور و الإحساس . فحُمّل على وجه السرعة عبر تيزي نتشكا ، ليجد نفسه مستلق فوق سرير بارد . ومن حوله ظلال وجوه ، بل أشباح نساء يطللن على صحن وجهه الذابل ، وأصوت كالغمغمات تنتهي إلى سمعه الغائم ؛ ما يميز منها إلا نحيب سيدة الضوء ” أمي فاما ” .