سكارى وماهم بسكارى

فاتح عبدالسلام

لغة‭ ‬المبادرات‭ ‬التي‭ ‬نسمع‭ ‬عنها‭ ‬رسمياً‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يتم‭ ‬تسريبه‭ ‬منها،‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬الشلل‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬السياسي،‭ ‬هي‭ ‬لغة‭ ‬التراضي‭ ‬والتوافق‭ ‬في‭ ‬أبسط‭ ‬توصيف‭. ‬ولأنَّ‭ ‬جميع‭ ‬الأطراف‭ ‬تعرف‭ ‬حدود‭ ‬المسافة‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬تتجاوز‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مسار‭ ‬تمضي‭ ‬فيه،‭ ‬فإننا‭ ‬نرى‭ ‬الجميع‭ ‬ينطلقون‭ ‬من‭ ‬النقطة‭ ‬صفر‭ ‬الى‭ ‬النقطة‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المسار،‭ ‬ويعودون‭ ‬منها‭ ‬جيئة‭ ‬وذهاباً‭ ‬مثل‭ ‬المكوك‭ ‬كأنّهم‭ ‬سكارى‭ ‬وماهم‭ ‬بسكارى،‭ ‬ولكن‭ ‬عذاب‭ ‬ما‭ ‬صنعت‭ ‬ايديهم‭ ‬في‭ ‬تسع‭ ‬عشرة‭ ‬سنة‭ ‬ضاعت‭ ‬هباءً،‭ ‬هو‭ ‬أمر‭ ‬شديد‭ ‬الوطأة‭ ‬عليهم‭ ‬جميعاً‭.‬

‭ ‬التوافقية‭ ‬الاضطرارية‭ ‬حين‭ ‬قامت‭ ‬الحكومات‭ ‬الأولى‭ ‬تحت‭ ‬جناح‭ ‬الحاكم‭ ‬الأمريكي‭ ‬بول‭ ‬بريمر،‭ ‬انتهى‭ ‬مفعولها،‭ ‬وكانت‭ ‬هناك‭ ‬فرصة‭ ‬كبيرة‭ ‬للشروع‭ ‬بتجاوزها‭ ‬التدريجي‭ ‬بعد‭ ‬الانسحاب‭ ‬الأمريكي،‭ ‬لكن‭ ‬أحداً‭ ‬من‭ ‬القوى‭ ‬لم‭ ‬يتحرك،‭ ‬بل‭ ‬لم‭ ‬يفكر‭ ‬أصلاً‭ ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬انّ‭ ‬العملية‭ ‬السياسية‭ ‬هي‭ ‬نتاج‭ ‬أولي‭ ‬لمؤتمر‭ ‬المعارضة‭ ‬الهش‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬قبل‭ ‬سقوط‭ ‬النظام‭ ‬السابق،‭ ‬وتعزّزت‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬الاحتلال‭ ‬الأمريكي‭ ‬ودور‭ ‬دول‭ ‬الجوار،‭ ‬وانَّ‭ ‬تلك‭ ‬العملية‭ ‬السياسية‭ ‬السارية‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭ ‬ليست‭ ‬أبدية‭ ‬في‭ ‬مرتكزاتها‭ ‬الأساسية‭ ‬لاسيما‭ ‬التوافقية،‭ ‬وانّ‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الإرادة‭ ‬العراقية‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬الهوية‭ ‬الحقيقية‭ ‬للبلد‭ ‬هو‭ ‬استحقاق‭ ‬واجب‭ ‬الشروع‭ ‬به،‭ ‬وانَّ‭ ‬التأخر‭ ‬عنه‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يقودنا‭ ‬الى‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬المستعصي‭ ‬اليوم‭.‬

‭ ‬الأقطاب‭ ‬السياسية‭ ‬اعتادت‭ ‬على‭ ‬مسارات‭ ‬التراضي‭ ‬خوفا‭ ‬من‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭ ‬الاخر،‭ ‬ولعدم‭ ‬نمو‭ ‬جو‭ ‬من‭ ‬الثقة‭ ‬السياسية‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالتداولية‭ ‬الصحيحة‭ ‬للسلطة‭ ‬البعيدة‭ ‬عن‭ ‬المؤثرات‭ ‬المبالغ‭ ‬فيها‭.‬

لا‭ ‬يمكن‭ ‬لأي‭ ‬مراقب‭ ‬أن‭ ‬يفصل‭ ‬هذا‭ ‬الانسداد‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬انتاج‭ ‬حكومة‭ ‬جديدة،‭ ‬عن‭ ‬انسداد‭ ‬ذاتي‭ ‬وداخلي‭ ‬أكبر‭ ‬تعاني‭ ‬منه‭ ‬جميع‭ ‬القوى‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬آلياتها‭ ‬ودهاليزها‭ ‬العميقة‭ ‬وطرق‭ ‬انتاج‭ ‬زعاماتها‭ ‬وهيمنة‭ ‬مراكز‭ ‬قوى‭ ‬غير‭ ‬مستحقة‭ ‬الاستمرارية‭ ‬عليها‭. ‬فمن‭ ‬اين‭ ‬نحصل‭ ‬على‭ ‬سياسي‭ ‬منفتح‭ ‬الآفاق‭ ‬بسعة‭ ‬الوطن‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬بالكاد‭ ‬يتلمس‭ ‬طريقه‭ ‬بين‭ ‬جدران‭ ‬حزبه‭ ‬العالية‭ ‬المنغلقة‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬نافذة؟

حتى‭ ‬لو‭ ‬جرى‭ ‬تجاوز‭ ‬العقبات‭ ‬اليوم،‭ ‬والذهاب‭ ‬الى‭ ‬حكومة‭ ‬تحت‭ ‬اغطية‭ ‬مبادرات‭ ‬حفظ‭ ‬ماء‭ ‬الوجه،‭ ‬فإنّ‭ ‬المضي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المسار‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬طويلاً،‭ ‬لأنه‭ ‬لايزال‭ ‬ملتوياً‭ ‬ومتعرجاً،‭ ‬ويخبيء‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬منعطف‭ ‬مفاجأة،‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬سعة‭ ‬المسار‭ ‬ذاته،‭ ‬وهنا‭ ‬تكون‭ ‬احتمالية‭ ‬التصدع‭ ‬غير‭ ‬مستبعدة‭ ‬أبدا‭.

رئيس التحرير- الطبعة الدولية

fatihabdulsalam@hotmail.com

مشاركة