سدرة الجيران

ذاكرة المكان

 

سدرة الجيران

 

حسين الجاف

 

 

اليوم قادتني قدماي .. نحو ذلك الزقاق القديم .. حيث كنا نسكن ونحن صغار كنت ذاهبا لقضاء بعض شؤوني .. غير ان الذي مضيت في طلبه .. لم يتوفر لي لحظتها .. فانحدرت رجلاي . ربما بدون ان ادري صوب تلك المحلة العتيقة الضاربة جذورها في تاريخ الاصالة والقدم .. كانت هي .. هي .. وبعد مرور اكثر من ثلاثة عقود .. بدكاكينها الصغيرة وبناسها الطيبين وبتقاليدهم العريقة .. وكأن لا زمن مر ولا تاريخ انصرم ولا ناس منها قضوا او رحلوا .. كل شيء كائن كما كان بالامس .. ناسي ومكاني وقلبي .. ناس جبلت طباعهم على الطيبة المفرطة .. ناس مطبوعة على صفحات جباههم الوضاءة ما تعتمل به نفوسهم الطيبة وقلوبهم النقية. فلا عقد ولا عدوات ولا احقاد.. يلحظ المرءعلى وجوههم ذلك الالق المتأصل .. ناس يجدون في المكان شرفهم وتطلعاتهم وماضيهم .. لايعكر صفو بالهم المطمئن شيء ولا يكدر نقاوة امزجتهم مكدر . واما انت ياسدرة الجيران .. فكنت كما كنت ابدا .. شجرة خضراء باسقة ظليلة .. قوية الجذور .. متشابكة الاغصان نستطل بك من حر الهاجرة ونتفيأ بها من لفحة الشمس.. تضوعين اجواءنا بعبق سني من  رائحة عطر لانظير لها بين كل بني الشجر.. في اواخر الربيع واوائل الخريف.

 

وعلى الرغم من ان امي وجارتنا ( ام علي) .. كانتا تشكوان دوما من سرعة نفضها وكثرة تساقط اوراقها مما كان يضطرهما لكنس البيتين اكثر من مرة يوميا غير انها بقيت بالنسبة للجميع تلك الصديقة الحميمة الحنون والصدوق .. الفاتحة اذرعها واغصانها لمعانقة الكل واحتضانهم في قلبها الدافيء في ود ومحبة . كانت هذه الشجرة بالنهار غيرها بالليل.. اذ كانت نهارا واحة للخضرة والنضارة والالفة والبهجة .. اما في الليل فكانت تمثل عوالم مسحورة لنا نحن الصغار على الاقل.. تفيض بالرهبة والحبور والغموض ولربما بالالغاز ايضا.. فهي صديقتنا جميعا بالنهار .. اليفة بحضرتها الاسرة .. ودودة بجذورها وفروعها .. تمثل جزءا مهما من حياتنا وتاريخنا لكنها .. تنقلب الى سواد داكن بالليل .. وجوفها الدافئ يستحيل الى كهوف مظلمة وخمة ورطبة .. كان يتهيأ لنا باننا نسمع لها شهيقا هادئا .. يخلق في نفوسنا – ايامها – جوا من التوجس والتهيؤات الغريبة ولربما الهلع ايضا حيث كانت اغصانها تتوقف عن الحركة تقريبا .. يلفها صمت عميق مخيف وكانت الروايات تتعدد في نشوء هذه السدرة وفي تاريخ غرسها وفي سكانها الخرافيين الذين كان جارنا ( العم حمزة) يزعم واحيانا يحلف على زعمه باغلظ الايمان بانه راى .. في احدى الليالي الشتائية الباردة .. في اثناء عودته من العمل في ساعة متأخرة من الليل.. مجموعة من الرجال طوال القامة متشحين بالسواد .. يتراوح عددهم بين خمسة الى سبعة اشخاص .. يرتدون الاقنعة يحمل كل واحد منهم عصا سوداء.. ربما كانت بلاستيكية .. ويتخذ لنفسه ركنا من اركان الشجرة وبمجرد ان رأوا العم حمزة .. حتى بداوا يلوحون له بعصيهم السوداء .. التي كانت تنفث من رؤوسها المدببة وميضا وهاجا .. فاضطر ان يعود ادراجه وهو لايلوي على شيء.. دون ان يتمكن من دخول بيته فتوجه الى الحضرة الكيلانية طارقا بوابتها الذهبية الفخمة .. كي يدخلها ويمضي فيها سحابة ليلته.. غير ان حارس البوابة الهندي الضخم الجثة وذي الحاجبين الشبيهين بعش اللقالق ..  فتحها له .. ثم اشاح بوجهه  عنه  وهو يوصدها بكل قوة  مرطنا بالهندية : ( جلاو) اي اغرب عن وجهي مضمرا في نفسه ان بيوت الله لايمكن ان تكون ملاذا او فنادق مجانية لمتسكعي اخر اللليل.

 

ولكنه استمر دون يأس .. في الطرق على البوابة الضخمة .. حتى فتحها الحارس الهندي مرة اخرى .. ليفلح بعد تفاوض مضني في الدخول الى الحضرة والمبيت فيها حتى مطلع الفجر.

 

 ومن قائل .. ان هذه السدرة هي مهد لحورية صغيرة اسمها بلقيس هي صغرى بنات ملك الجن ..

 

 نزورها في الربيع والصيف فتغمر المكان بالخير وتضفي عليه جوا من البهجة والالفة والسعادة وانها تطل على الاطفال وهم نائمون او متمددون في فراشهم .. فتبتسم لهم .. فينهمر اثر ذلك على ذويهم سيل من الرزق المبارك. ومن قائل .. ان طيرا كاسرا اسود ذا منقار احمر مدبب الرأس بطول قدم ..

 

يتخذ من حضن الشجرة ملاذا يدخله في صمت ويخرج منه في صمت، ولهذا الطائر الخرافي رجلان طويلتان تنتهيان بمخالب قوية جدا تكفي لاختطاف رجل، .. يختلف الى المكان مرة او مرتين كل عام في ساعة متأخرة من هزيع الليل.. ويخرج منها قبل انبلاج نور الصباح .. يزعم اهل المحلة بانهم شاهدوه غير مرة .. الا ان اهل الدار لم يكترثوا لكل ما يشاع عن سدرتهم الخضراء.. اذ كانت تمثل بالنسبة لهم .. خضرة دائمة ودوحة ظليلة وثمرا ذهبي اللون .. حلو الطعم زكي الرائحة.. لكني مع ذلك سمعت والدتي .. وانا بين النوم واليقظة في صبيحة احد الايام قائلة لابي وهو يتناول فطوره قبل الخروج للعمل .. بعد ان اتسعت دائرة الكلام المريب والتهويلات المرعبة عن السدرة : وكي ندرا عنا وعن اولادنا .. شر السكان المزعومين لسدرتنا .. فانا ساوقد شمعة واشعل بعض اعواد البخور واهيا ابريقا من الماء للوضوء ليلة كل جمعة .. كي يحسوا باننا لانضمر لهم شرا وبالمقابل فلا نريد ان يمسونا بسوء .. لم ينبس ابي ببنت شفة وقتها غير انني احسست به يغادر المنزل على عجل وهو يقول : اعتقد ان الوقت ادركني للذهاب الى العمل .. في امان الله.

 

ويبدو ان الامر تعقد كثيرا .. اذ صارت مسألة السدرة وسكانها الموهومين قضية تقلق بال الاهل والجيران سواء بسواء .. مع انني لم يكن يهمني من امرها سوى كونها جزء من حياتي انا وليس من حياة غيري.

 

وفي جزيرة ماركريت التقيت بك مرة .. في مهد الخضرة ذاك حيث الدانوب الازرق يلتف حولنا على شكل حذوة حصان افترشت السندس الاخضر .. مع امليدا الشقراء وكأن شعرها الحريري سنابل من ذهب مضفور .. انطلقت روحي تحدثك .. ناسية اميلدا وهمساتها الحالمة .. وسويعات الهناء بقربها .. همست في اذني قائلة: انك وان ابتعدت عني الاف الكيلو مترات .. غير ان مئواك لايزال في صدري انا واغصاني الضاربة في اعماق روحك لاتزال تظلك من هجير الساعات القلقة ولحظات غياب راحة البال ان (سوزان) صديق الطفولة وحبيبة الصبا والشباب .. عقدت على فرع صغير من اغصاني قطعة قماش صغيرة .. للقاء بك عن قريب .. نسيتها انت فذكرتك هي ونأيت عنها فاقتربت منك .. انت مع اميلدا اما  هي فمع طيفك الذي تناجيه صباح .. مساء وانت تناجين  روحي سقطت حبة سدرذهبية كبيرة فواحة الرائحة .. على وجهي .. فاعادتني الى دنيا الواقع .. حيث الضيعة الجميلة الساحرة وقارورة العسل (اميلدا) اعرفكم جميعا .. سقيمكم وسليمكم .. وسيمكم ودميمكم عشت معكم دهرا لكني مانطقت كفرا قط .. تكلمتم وسكتت .. اساتم واصفحت .. اطلعت على عوراتكم فسترت .. اعرف دقائق اموركم وعلى الرغم من ان دخائل النفوس لايعلم بها غير الله.. غير انني استطيع الزعم بالعلم .. بالكثير من خفاياكم .. اطل على ناموسياتكم وارى كل ما يجري بداخلها شباك وعناق وهمسات و…) اضحك عندما تكثر الثرثرة عن سكاني الخرافيين وابكي عندما لااجد ظلا للحقيقة فيما تتفوهون وتتخيلون .. المس الظلم في الكثير من مواقفكم لكني لم اتبذل قيد شعرة ولم اتغير قدر انمله .. اظلكم جميعا غير ان ازدواجية مواقفكم تهد كياني وتنقص ادعاءاتكم مضجعي وتنغص علي طمانيتي وراحة بالي ذلك الميل الجلي عند الكثير منكم لالحاق الاذى بالاخرين .. وذلك الاستعداد الكامن الممقوت عند البعض منكم للاجهاز على متبقيات الفضيلة عند الناس الخيرين الذين لايزال الموقف والسلوك عندهم واحدا لكني مع ذلك مازلت على ودي القديم تجاهكم .. تحدثت بالسنتكم جميعا ونقلت ما في نفوسكم من افكار واهواء .. غير انني في الاخير لم اكن اتحدث الا عن نفسي ولم اصرح الا عن لواعجي انا .. بعضكم او كلكم يريد ان يحتفل بذكرى ميلادي على الرغم من انكم لاتعرفون متى ولدتم انتم لان نصف تاريخكم كذب والمتبقي محرف .. مطر وغيوم وصقيع ورياح وعواصف وصحو وشروق جديد .. ومرة اخرى .. فانت با سدرة الجيران  تبقين لنا تلك الام الرؤوم الرائفة.

 

تتحدثون عني كما يحلو لكم وتنشرون الاقاويل وتروون الكثير من حكايا زواري المزعومين ليلا لكن لااحد منكم يتحدث عن ظهور الشيخين         ( محمد الكمبار وابراهيم الكمبار) اللذين ارتوت جذوري من رميم غطامها في اول يوم خميس من بداية الشهر العربي لينزلا بروحيهما الى سماء الدنيا بدشاديشهما البيضاء وخترتيهما الحليبيتين .. كي يتوضأ من ماء الابريق الذي هيأته لهما امك لينسلا بعد ذلك الى الحضرة الكيلانية مع ارتفاع نداء الله اكبر وتعالى اصوات ذاكراي الرحمن في الغدو والاتصال وفي جوف الليل من الشيوخ والدراويش الوافدين من كردستان ضيوفا على حضرة الشيخ العارف بالله.. بالله…هو ليلتقي مع شباب الحلقة القادرية وشيوخها الاجلاء حيث كان قارئ المقامات الحاج عباس كنبير .. يشنف الاسماع مع شواغيل المولد النبوي .. بصوته الشجي الرخيم وهو يتلو المدائح النبوية وقصائد ابن الفارض بصحبة قارئ الكتاب المبين الحافظ ( خماس) ومؤذن الحضرة الكيلانية ( هوبي الشيخلي) فيدخلون البهجة في النفوس بخشوع وحبور ماخوذين بسحر التراتيل وسمو المعاني .. عند انصرافنا من العصاري.. من ايام الخميس.

 

وفي اول الليل . يرتفع صوت يالفة الكثير من ابناء الحارة وهو ينادي (المال .. مال الله والسخي .. حبيب الله) و( عطايا قليلة تدفع بلايا كثيرة ) فيسرع بعض الاولاد الى (المسايل) وهي ( لفظة تادب بالغ في مخاطبة الفقير عندهم) بكسرة خبز او فضلة من لبن او قطعة نقود معدنية فيأخذ المسايل وهو يدعو لهم بالخير ثم يختفي بهدوء في ثنايا احدى الدرابين الضيقة قليلة الاضاءة.

 

هذه الصورة وتلك الاحداث والمواقف وهؤلاء الاشخاص مروا في ذاكرتي بتفاصيل غاية في الدقة بصورة خاطفة كشريط  سيمي وانا اعود الى محلتي القديمة مستعيدا دفء وحيوية وجمال كل تلك السنين الغابرة الحلوة وكل تفاصيل ذلك التاريخ الجميل البعيد .

 

 

هوامش على دفتر السدرة.

 

   1. هناك اكثر من سدرة في محلتنا القديمة ( باب الشيخ) وكل وجه له اربع سدرات كبيرة اولاهم لال عنجر والثانية لال نشعة والثالثة لال ابي خمرة والرابعة لال ( صالح البناء) ولاادري اي منها المقصود هنا وان كان الترجيح عندي هو لصالح ( سدرة ال عنجر) علاوة على ذلك فقد كانت هناك سدرتان على الاقل في المقبرة الملاصقة لضريح الشيخ عبد القادر الكيلاني المسماة بالبقجة.

 

2. ترعرع في كنف السدرة المشجع الرياضي القديم المرحوم لطيف عنجر واسم عبد اللطيف رشيد جودي  (1936- 1982) وكذلك الروائي المرحوم عادل عبد الجبار (1940- 1991) واخوه فالح المفكر المعروف.

 

3. كان الناس ينظرون الى السدرة .. بعين الاجلال وكانوا  يقولون بانه حتى طور الخياط (ارزوقي ابو سجودة) والتي كانت تربوا على الاربعمائة طير شتى الاصناف كالكمرلي والزاجل والعنبرلي والاوروفلي والاشعل والمسكي والالاج والهنداوي حين كان يحط البعض منها على السدرة .. كانوا لايتركون اية فضلات وحسب قناعة اهل الحارة ومنهم امي بان ذلك كان ناجما كونها شجرة تتميز بالقداسة.

 

4. قص العم ( حمزة) روايته عن الزوار المزعومين بحضور العم ( اشكير) العطار وابنه (احمد) والعم ( وهابي  الجرخجي) ابو ( كامل) وكان عطارا ايضا والشيخ ( اسماعيل بنية) مؤلف الهوسات الشعبية الشهير والمختار (ابراهيم الحمد) وابنه ( حميد) غير انهم لم يكذبوه لما كانوا يعهدون فيه من حسن السيرة وصدق القول ويقال ان ( عيسى الاقجم) ابو الفشافيش واسماعيل الاعرج وعبد الاخرس وشمسي السائق والسيد لقمان البناء رأوا الشيء ذاته في احدى الليالي او سمعوا به .. وروى لنا العم حمزة بانه ( انهبط) اي ( ارتعب) وعليه فقد ارسلت زوجته في طلب وصفة جاهزة من طب العرب من ( ورد ماوي) او ( ورد لسان الثور) من عند ابن عطار (محمد الهندي) لتهدئة اعصابه.

 

5.  ومن شيوخ الحلقة القادرية المعروفين المرحومين الشيخ محمد نجيب وولده عبد الباقي ( 1929- 1985) والشيخ عبد الكريم شيخ الحلقة واولاده عبد الجليل وعبد الستار وعبد الوهاب وابن عمهم السيد نوري القادري وولده الشيخ صبيح وكلهم الان في ذمة الله وكانوا يتميزون . بالورع والتقوى والمسارعة في اعمال البر والخير والتقوى.

 

6. هم اجداد المرحوم الحجية ( نشعة الشيخلي) وكانت امراة صالحة كثيرة الانفاق في سبيل الله عمرت طويلا حتى بلغت التسعين وتوفيت في حدود عام 1957 وهي جدة النحات المعروف  ( عيدان الشيخلي) لابيه ويذكر الاديب عبد الكريم العلاف في كتابه ( بغداد في ماضيها القريب) بان الشيخ محمد الكبار كان مقرئا مجيدا للقران الكريم غرق في نهر ديالى عام 1890.

 

مشاركة