سبات البعث.. أهي النهاية الأبدية؟
محمد الريماوي
عقد المؤتمر القومي الخامس لحزب البعث العربي الاشتراكي في صيف عام 1962، وقد جرى انعقاد المؤتمر سرا في مدينة حمص ايام الانفصال في بيت رجل من آل الدندشي لا اذكر اسمه ولا اعرف اسم الحي الذي يوجد فيه ذلك البيت، ولقد توافد اعضاء المؤتمر من كافة الاقطار العربية والاجنبية التي يوجد للحزب فيها منظمات تؤهلها سويتها التنظيمية للمشاركة في اعمال المؤتمر، وتكامل عددهم تسعة وأربعون عضوا بمن فيهم اعضاء القيادة القومية.
كان الحزب في ذك الوقت يخوض معركة قاسية وشرسة ضد نظام عبد الكريم قاسم في العراق حيث كان يتعرض لحملة قمع شديدة من قبل اجهزة ذلك النظام بالتحالف مع الشيوعيين العراقيين. وكان الحزب على خلاف شديد مع الرئيس جمال عبد الناصر وسياساته في القطر السوري. و كان الانفصال قد وقع وبدأ الحزب يعمل بكل قوته لمقاومة الحالة الانفصالية والانقضاض عليها وانهائها بالرغم من ان اعادة تنظيم صفوف الحزب في القطر السوري كانت قد تأخرت لاسباب لا مجال لذكرها في هذا المقال، ويقيني ان المؤتمر القومي الخامس كان احد اهم المؤتمرات التي عقدها الحزب في تاريخه الطويل ان لم يكن اهمها على الاطلاق بالنظر لاهمية الموضوعات التي طرحت والمناقشات التي جرت في ذلك المؤتمر.
كانت الاوساط القيادية العليا في الحزب في كافة الاقطار والمنظمات القومية تناقش مسألة الاستيلاء على السلطة بشكل كامل لاول مرة في تاريخ الحزب، فمن المعروف ان الحزب كان قد شارك في الحكم بشكل جزئي في كل من سورية والعراق والاردن قبل ذلك، ولكن الحزب لم يكن قد استولى على السلطة وتولى الحكم بشكل منفرد في اي بلد عربي، ومسألة الاستيلاء على السلطة وإقامة دولة يحكمها الحزب هي مسألة مركزية وبالغة الاهمية، ونجاح تلك التجربة او فشلها قضية مصيرية يتوقف عليها الكثير سواء بالنسبة للحزب أو للتيار القومي العربي عموما وفي النهاية لمستقبل الامة كلها، ونتيجة للمناقشات التي كانت جارية حول هذه المسألة الهامة انقسم الرأي في الاوساط القيادية الحزبية الى قسمين الاول يرى ضرورة الاسراع بالقيام بالثورة في العراق مهما كانت الظروف كرد عملي على الانفصال وتمهيدا للقيام بثورة مماثلة في سوريا والثاني يرى بأن الحزب ليس مهيأ بعد وغير مستعد للقيام بهذه الخطوة الحاسمة وان وضع الحزب الراهن في ذلك الوقت يحتاج الى اجراء جملة من الاصلاحات التنظيمية والفكرية والعملية قبل القيام بالثورة والاستيلاء على السلطة وخوض هذه التجربة البعيدة الاثر في حياة الحزب والامة. وهذا الخلاف في الرأي والموقف ظهر واضحا وجليا وبشكل مكشوف داخل القيادة القومية للحزب نفسها.
في خضم هذه الظروف العامة وهذا المناخ السائد الخاص انعقدت اولى جلسات المؤتمر القومي الخامس لحزب البعث العربي الاشتراكي في مدينة حمص في صيف عام 1962.
في بداية الجلسة انتخب المؤتمرون لادارة اعمال المؤتمر هيئة رئاسة من ثلاثة اعضاء الرفيق حمدي عبد المجيد لرئاسة المؤتمر وهو احد مندوبي قطر العراق وقد صار فيما بعد وزيرا للعمل بعد قيام الثورة.
والرفيق ابو طالب الهاشمي عضوا والرفيق محمد الريماوي عضوا ومقررا للمؤتمر، واستمر عقد المؤتمر لمدة اربعة ايام وكانت تنعقد في كل يوم جلستان واحدة صباحا والثانية بعد الظهر، ولان المؤتمر كان ينعقد بشكل سري وبالتالي لم يكن الاعضاء يغادرون البيت الذي هم فيه على الاطلاق لذلك فقد كانت المناقشات التي تجري اثناء الجلسات تتواصل بعد رفع تلك الجلسات في الليل والنهار. أقول ذلك لأبين وأقرر أن بعض المناقشات والحوارات التي تمت خارج الجلسات الرسمية كانت اهم بكثير من المداخلات والخطابات التي كانت تتم في الجلسات الرسمية.
لست في وارد استعراض نقاط جدول اعمال المؤتمر والقرارات التي تمت بشأنها فذلك موجود في محاضر جلسات ذلك المؤتمر ولكنني اريد هنا الاشارة الى العنوان الذي جرت تحته كل اعمال ذلك المؤتمر الكبير وهو الاصلاح الحزبي.
لقد اتضح منذ اللحظة الاولى ان اعضاء المؤتمر منقسمون الى فريقين الاول يتزعمه ويقوده الرفيق علي صالح السعدي امين قطر العراق ومعه الامين العام للحزب الاستاذ ميشيل عفلق وآخرون والفريق الثاني يقوده الرفيق فيصل حبيب الخيزران العضو البارز في القيادة القومية ومعه عبد الرحمن منيف عضو القيادة القومية وآخرون، وفي الجلسة الاولى للمؤتمر ولدى مناقشة النقطة الاولى على جدول الاعمال وهي حالة الانفصال وحين طلب الاستاذ ميشيل عفلق الامين العام ادانة الحالة الانفصالية ومقاومتها بكل السبل والعمل على إعادة الوحدة مع مصر بلاقيد أوشرط انفجر الخلاف في داخل المؤتمر والقى فيصل حبيب الخيزران مداخلة طويلة وقال فيها إن عملية الانفصال نجحت بسبب اخطاء فادحة ارتكبها جمال عبد الناصر وقيادة حزب البعث سواء بسواء، وذلك لان القيادة قبلت بحل الحزب الذي يشكل وجوده ضمانة اساسية لبقاء الوحدة واستمرارها وها نحن مطالبون باعادة الوحدة مرة اخرى بلا قيد ولا شرط اي اعادة التجربة بنفس المنطق ونفس المنطلق،وهذا ناتج عن قصور وعدم وضوح ايديولوجي في فهم الحزب ودوره في حياة الحزب لا بل ان الحزب بحاجة ماسة الى الاصلاح في مختلف النواحي الفكرية والتنظيمية والسياسية، بهذا المعنى تقريبا انهى فيصل حبيب الخيزران مداخلته، وعلى الفور طلب علي صالح السعدي الكلام وألقى مداخلة طويلة ايضا رد فيها على كل ما قاله وطالب به فيصل قائلا إن فكرة الاصلاح الحزبي في احسن الحالات هي حق يراد به باطل، وإن الحزب لايحتاج الى اصلاح بل الى عمل جدي حازم يتصدى لمشاكل الامة في كل اقطارها ويتغلب عليها، واختتم علي كلمته بالقول إن الذين ينادون بالاصلاح هم في الحقيقة ماركسيون متسترون داخل حزب البعث. والاتهام بالماركسية في تلك الايام كان بالنسبة للبعثيين يعادل الاتهام بالخيانة.
على هذه الشاكلة وبهذه الصورة سارت كل أعمال المؤتمر تقريبا. ولقد بلغ الخلاف بين الفريقين أقصى مدى لدى مناقشة الوضع في العراق الذي شرحه باسهاب علي صالح السعدي مبينا ان كل الامور على الساحة العراقية قد نضجت وان جميع الاستعدادات قد اكتملت للقيام بالثورة والاستيلاء على السلطة طالبا في النهاية موافقة المؤتمر على القيام بهذه الخطوة الجريئة الحاسمة. وتوالت بعد ذلك مداخلات عدد كبير من اعضاء المؤتمر منقسمين بين مؤيد ومعارض، البعض اعتبر القيام بالثورة ضرورة لابد منها لتغيير الاوضاع في العراق وبعد ذلك في سوريا ثم توحيد القطرين واقامة دولة البعث ايذانا ببدء عهد جديد في حياة الامة العربية كلها. والبعض الآخر اعتبر ان القيام بالثورة ربما يكون ضرورة ولكن الحزب في وضعه الراهن غير مستعد وغير مهيأ للقيام بالثورة وتولي الحكم وانه قبل الاقدام على تلك الخطوة يجب القيام باجراءات كثيرة على رأسها وأهمها وضع برنامج للحزب تعرفه الجماهير وتتبناه وتلتف حوله، فالحزب في وضعه الراهن ليس له نظرية في الحكم وليس عنده برنامج وليس له تجربة سابقة في هذا الشأن وهذا كله يجعل القيام بالثورة واستمرارها مغامرة ليست مضمونة النجاح او النتائج.
ومع اشتداد الخلاف وتصاعده حول هذه النقطة وحول غيرها من النقاط وفي مساء اليوم للمؤتمر وبعد انتهاء الجلسة الرسمية جلس خمسة من الرفاق في إحدى غرف البيت الذي ينعقد فيه المؤتمر يناقشون الوضع برمته في محاولة الوصول الى اتفاق تمهيداً لانتخاب قيادة قومية تتولى مسؤولية المرحلة القادمة من الفريقين المختلفين وهؤلاء الرفاق الخمسة هم علي صالح السعدي والدكتور منيف الرزاز وفيصل حبيب الخيزران وعبد الرحمن منيف ومحمد الريماوي. كان الدكتور الرزاز وعلي صالح السعدي في جانب وكنا نحن الثلاثة في الجانب الآخر وبادرنا علي الصالح يقول على الفور هاتوا ما عندكم ما هو هذا البرنامج الذي تريدونه؟ وما هو هذا الاصلاح الحزبي الذي لا تكفون عن الحديث عنه؟ وتناوبنا نحن الثلاثة الكلام فقلنا لهم إن البرنامج المطلوب ينطلق من الحقائق البسطة والبديهية لوضع الحزب الفكري والتنظيمي السياسي. فحزبنا مثلا حزب اشتراكي ولكن أي تجربة اشتراكية سنطبق في دولة البعث؟ السوفييتية أم اليوغسلافية ام الصينية ام بعض الاطروحات الاشتراكية لبعض الاحزاب الاشتراكية في الغرب؟ وحزبنا ليس له نظرية ولا رؤية واضحة محددة في الحكم لاشكلا ولا موضوعا فهل هو رئاسي ام برلماني أم مختلط؟ وما دور الحزب في الحكم في حال اختيار اي من هذه الانماط الثلاثة؟ وحزبنا ليس له رؤية ولا تصور لدور الحزب وعلاقته بأجهزة الحكم والسلطة ففي حال تولي الحكم لمن سيكون القرار في رسم سياسات الدولة المختلفة؟ للأجهزة الحكومية البيروقراطية ومؤسساتها ام لقيادة الحزب؟
مستجدات الحال
ولدى الحديث عن هذه النقطة التفت فيصل خيزران الى علي صالح السعدي وقال انت تقول انكم ستنصبون عبد السلام عارف رئيسا للدولة. وانا اسألك بيد من سيكون القرار النهائي في ادارة شؤون البلد؟ بيد القيادة القطرية أم بيد عبد السلام عارف؟ وما هي حدود صلاحياته وصلاحياتكم؟ أنت الآن لا تعرف وتترك ذلك للظروف ومستجدات الحال وهذا خطر كبير على التجربة برمتها، ومن الآن نحن نحملكم مسؤولية ما سيفعله عبد السلام عارف بكم وبنا وبالبلد. وأجاب علي الصالح مبتسما ساخرا أنت يابا استرح واطمئن. عبد السلام عارف لن يفعل بنا او بغيرنا أي شيء ولا يستطيع .واثار عبد الرحمن منيف مسألة النفط والشركات النفطية ودورها الحاكم في شؤون العراق وكذلك المسألة الزراعية والإقطاع الزراعي وتساءل هل سيقوم الحزب بتأميم شركات النفط في العراق في ضوء تجربة مصدق الايرانية أم ماذا؟ وبالنسبة للمسألة الزراعية هل سيقوم الحزب بعملية اصلاح زراعي على نمط تجربة جمال عبد الناصر أم ماذا؟ ثم طرح فيصل وضع الحزب الداخلي وكيفية العمل في مؤسساته القيادية مشيرا الى طريقة العمل في القيادة القومية منذ تأسيس الحزب والتي كانت تتم بشكل أبوي وفردي، وكيف ادى هذا الاسلوب الى اتخاذ قرارات كان لها نتائج كارثية مثل قرار حل الحزب استجابة لطلب جمال عبد الناصر عند قيام الوحدة وقال متسائلا متعجبا اي حزب هذا الذي يحل نفسه معترفا ومقرا بأن دوره السياسي والنضالي في حياة أمته قد انتهى؟ وقال فيصل إن هذه الواقعة تبين وتؤكد كم هو مهم وضروري وجود وانشاء مكتب سياسي لدى القيادة القومية والقطرية يتولى اتخاذ القرارات الهامة والرئيسية في حياة الحزب وسياساته وخاصة بعد قيام الثورة والاستيلاء على السلطة. وكذلك لابد من انشاء مكاتب متخصصة اخرى لدى القيادة تعينها في عملها وتشرف على تطبيق برامج الحزب النوعية في أجهزة الدولة مثل مكتب اقتصادي يتولى شؤون الاقتصاد ومكتب امني يتولى شؤون الأمن ومكتب ثقافي يتولى شؤون التربية والثقافة وهكذا، واضاف فيصل متسائلا في حال غياب برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي للحزب تعرفه الجماهير وتتبناه وتلتف حوله وتنفذه أجهزة الدولة المختلفة تحت الاشراف الصارم والمباشر للحزب كيف ستسير الأمور؟ سوف تضع أجهزة الحكومة وأجهزة الدولة البيروقراطية برنامجها ولأن الحزب بلا برنامج والحكومة حكومته والدولة دولته فسوف يصبح برنامج الحكومة هو برنامج الحزب وعندئذ ينقلب الحال رأسا على عقب وتصبح أجهزة الدولة الحكومية والامنية هي القائد الذي يرسم السياسات ويشرف على تنفيذها. ويصبح الحزب مجرد واجهة للحكم يؤيد برامج الحكومة ويصفق لها في كافة الظروف والاحوال وبذلك ينتهي الحزب ليكون مجرد جهاز دعاية للحكومة واجهزة الدولة. وهل هناك خراب ودمار يمكن ان يصب الحزب أكثر من هذا؟
بعد ذلك تشعب الحديث وتفرع وطال نقاطاً اخرى عديدة تحتاج الى تغيير خاصة بعد قيام الثورة وأهمها شروط ومعايير الانتساب للحزب. ففي مرحلة النضال السلبي يكون المطلوب من اجل الانتساب والالتحاق بصفوف الحزب الايمان بمبادئ الحزب والاستعداد للنضال من اجل تحقيق تلك المبادئ والانضباط والالتزام بتنفيذ المهام الحزبية وقبول النظام الداخلي. واهم صفات الحزبي هي الجسارة والكتمان والاستعداد العالي للتضحية،أما بعد قيام الثورة وتولي السلطة فالأمر يختلف، فالطالب الكسول والعامل المهمل والمدرس الفاشل والموظف اللامبالي وامثالهم في القطاعات الاخرى لا ينفعون الحزب في مرحلة البناء والنضال العلني ويجب عدم قبولهم في الحزب حتى وإن اعلنوا انهم يؤمنون بمبادئه ومستعدون لتنفيذ اوامره، ان الحزب بعد قيام الثورة يجب ان لا يضم في صفوفه الا النخبة والقدوة في كافة شرائح المجتمع.
كان هذا رأينا في ذلك الوقت وكانت هذه النقاط في مجملها هي المضمون الرئيسي للبرنامج الاصلاحي الذي كنا نطالب به بوضعه قبل القيام الثورة. ان الخلاف المهم والعميق في تلك الجلسة كان يدور حول المسألة برمتها ويتلخص بالسؤال التالي هل الحزب مستعد وجاهز للقيام بالثورة واستلام الحكم في تلك الظروف أم لا؟ نحن كنا نطالب بتأجيل القيام بالثورة لمدة عام أو عامين وإجراء كل الاصلاحات المطلوبة ووضع البرنامج المطلوب الذي يضم تصور الحزب للحكم وكيفية ادارة الدولة وهم كانوا يرون غير ذلك. وفي آخر مراحل النقاش في تلك الجلسة وبعد فترة صمت التفت فيصل حبيب الخيزران الى الدكتور منيف الرزاز وقال اريد ان أسألك سؤالاً يادكتور هل سياسة دولة البعث وحكومة البعث تجاه البلدان العربية ينبغي اعتبارها جزءا من السياسة الداخلية ام الخارجية للدولة؟ وصمت الدكتور منيف مفكرا ولكن علي صالح السعدي اندفع يقول انا أفهم سؤالك وأنا سأجيبك. نحن قوميون وسياستنا تجاه البلاد العربية هي سياسة مبدئية قومية، سوف نسعى لإقامة دولة الوحدة مع جمال عبد الناصر مجدداً وسوف نعمل على رفع سوية سياسة التضامن العربي وتدعيمها وسوف نعمل على ترسيخ العمل العربي المشترك في كافة المجالات وخاصة في مجال القضية الفلسطينية التي هي قضيتنا الأولى المركزية في كافة الظروف. هذا هو جوهر سياستنا الذي تقصد السؤال عنه وأما من حيث الشكل فهي جزء من السياسة الخارجية وضحك فيصل خيزران وقال هذه كلمات وشعارات يرددها كل حكام العرب وخاصة الرجعيين منهم، التضامن العربي والعمل العربي المشترك وقضية فلسطين، وقد صنع العرب لتطبيق تلك الشعارات والسياسات مؤسسة سموها الجامعة العربية لم تكن مؤسسة مؤتمرات القمة العربية قد وجدت بعد في ذلك الوقت وأنا أقول لكم سياسة التضامن العربي والعمل العربي المشترك هي سياسة مخادعة ولا تليق ولا ينبغي لحزب البعث وحكومة البعث أن تتبعها وأن تعتبرها سياسة مبدئية قومية وقولوا لي من يتضامن مع من؟ وعلى ماذا يتضامنون؟ ان الدول العربية الرجعية والحكام العرب الرجعيين يهدفون من سياسة التضامن العربي الى جر الدول والقوى التقدمية العربية للالتحاق بهم والتضامن معهم في سياستهم المرتبطة بالاستعمار وسياسة الدول الاستعمارية.
والجامعة العربية التي هي اطار العمل العربي الرسمي المشترك لم تفعل شيئاً لا لفلسطين ولا لغيرها لماذا؟ لانها جامعة الحكومات العربية وليست جامعة الشعوب العربية.
السياسة الداخلية
لذلك فإن سياسة البعث وحكومته تجاه البلدان العربية هي أقرب ما تكون من السياسة الداخلية من حيث الجوهر، بمعنى ان تتجه تلك السياسة نحو الشعوب وليس الحكومات، وتبعاً لذلك يجب أن نسعى لإقامة وانشاء جامعة الشعوب العربية في مقابل جامعة الدول والحكومات العربية، وأن تكون هذه الجامعة محور نشاطنا وسياستنا تجاه البلدان العربية، ان لم نفعل ذلك فنحن نخون مبادئنا ونتنكر لعقيدتنا القومية التي تعتبر الوطن العربي بلداً واحداً والشعب العربي شعباً واحداً، فهل مصر مثلاً مثل فرنسا وشعب مصر كالشعب الفرنسي؟ وهل اليمن مثل الحبشة وشعب اليمن كشعب الحبشة؟ وهل المغرب مثل اسبانيا وشعب المغرب كالشعب الاسباني؟ وعلى ذلك قس بقية البلدان العربية.
وهل معيار التعامل مع البلدان العربية والاجنبية واحد وتبعاً لذلك هل اسلوب التعامل واحد؟ ان معايير وأساليب التعامل مع البلدان العربية هي أقرب الى معايير وأساليب التعامل مع الوضع الداخلي منها الى الخارجي، ولذلك نحن نرى انشاء وزارة خاصة بالشؤون العربية ترعى نشاط المنظمات والقوى والأحزاب القومية والتقدمية والوطنية وتساعد وتدعم تلك القوى معنوياً ومادياً في اطار جامعة الشعوب التي نقترح انشاءها لتحقيق برنامج بسيط يتلخص في العمل على تمكين المواطن العربي من الحصول على حقوقه الاساسية الأربعة في كافة البلدان العربية، وهي حق التنقل والسفر وحق الاقامة وحق العمل وحق التملك.
حين انتهى فيصل من حديثه نفض علي صالح السعدي يده في وجوهنا وقال متهكما مادام الأمر قد وصل الى الجامعة العربية وضرورة ايراد الموقف منها في برنامجكم الحزبي فإن النقاش معكم يكون بذلك قد انتهى نحن سنقوم بالثورة دون انتظار برنامجكم الذي يحسب حساب الجامعة العربية ولكننا ندعوكم للانضمام الينا في تحمل المسؤولية وتولي المناصب، ثم نظر الى عبد الرحمن منيف وقال نحن نريدك وزيراً للخارجية وان رفضت فهناك البديل، وأشار بيده الى طالب شبيب الذي كان يجلس غير بعيد وأجاب عبد الرحمن ليس المهم تولي المنصب بل الحفاظ عليه، وعلق فيصل خيزران يقول للدكتور منيف وعلي الصالح من الواضح اننا لا نستطيع اقناعكم بوجهة نظرنا فتعالوا نتراهن، نحن نقول لكم اذا قمتم بالثورة في مثل هذه الشروط فسوف لا تستمرون في الحكم أكثر من ثلاثة شهور وبعدها تسقطون وتفشل التجربة، فسأل علي الصالح وعلى ماذا نتراهن؟ فأجاب فيصل نتراهن على دينار عراقي واحد مقابل دينار عراقي واحد جديد غير مستعمل يوقعه الخاسر اعترافاً منه بسوء تقديره ويحتفظ به الرابح، فإن استمر حكمكم اكثر من ثلاثة شهور نخسر نحن الرهان وندفع لكم الدينار وان سقط حكمكم في مدى الثلاثة شهور تخسرون الرهان وتدفعون لنا الدينار، وضحك الدكتور منيف الرزاز رحمه الله ولوح بيده قائلاً الرهان نوع من القمار وهو حرام وانا غير مشترك في هذا الرهان، اما علي السعدي فبادر يقول الرهان ليس حرماً وسيدنا ابو بكر الصديق راهن المشركين ثم مد يده قائلاً لفيصل انا موافق على المراهنة فهات يدك، ومد فيصل يده وانعقد الرهان وقبل ان يسحب علي يده من يد فيصل استدرك قائلاً اسمعوا انتم ثلاثة وانا واحد، انا أدفع لكم ديناراً وأنتم يدفع كل واحد منكم لي دينارا وأجبنا بالموافقة نحن الثلاثة ثم قمنا وخرجنا من تلك الغرفة الصغيرة وبقية القصة وكيف انتهت معروفة ولكن بقي علي ان اروي كيف انتهت حكاية الرهن والرهان.
في احدى ليالي الخريف من عام 1963 طرق باب غرفتي في بيت الطلبة بمدينة بلغراد عاصمة يوغسلافيا حيث كنت أقيم الاخ مروان عبد الحميد الذي هو الان نقيب المهندسين الفلسطينيين وعضو المجلس الثوري لحركة فتح، يومها كان عضواً عاملا بسيطا في منظمة حزب البعث العربي الاشتراكي في يوغسلافيا، قال لي مروان هيا انهض فإن السيد علي الصالح السعدي ومعه السيد حمدي عبد المجيد موجودان في فندق موسكو في بلغراد ويريدان الالتقاء بك في الحال، ونهضت وذهب الى الفندق المذكور حيث التقيت بالرفيقين العزيزين، كان علي السعدي وحمدي عبد المجيد قد غادرا العراق مرغمين بعد سقوط الحكم اثر الانقلاب الذي قاده عبد السلام عارف، ذهبا أولاً الى اسبانيا ثم المانيا ثم جاءا الى يوغسلافيا حيث التقينا تلك الليلة في فندق موسكو في بلغراد، وتحدث علي صالح السعدي وحمدي عبد المجيد طويلاً عن الثورة والتجربة التي خاضوها في العراق وتحدثا عن اليمين في الحزب وعن الرجعيين في العراق وبقية الدول العربية وعن الاستعمار واميركا خاصة ودورها فيما جرى من احداث، وعن السعودية ودورها كذلك. وطال الحديث وتشعب حتى ظهرت تباشير الفجر الاولى وانسحب حمدي عبد المجيد معتذرا الى غرفته لينام قليلاً بعد ذلك السهر الطويل ونهضت انا واقفاً انوي الرجوع الى سكني في بيت الطلبة ومددت يدي مصافحا مودعا لعلي الصالح وفي تلك اللحظة قفزت الى مخيلتي صورة فيصل حبيب الخيزران وهو يصافح علي صالح السعدي مراهنا اياه في بيت آل الدندشي بحمص فضحكت وقلت اسمع يا علي نحن راهناك على دينار وانت خسرت الدينار فهات الدينار وكررت القول أنا وفيصل حبيب الخيزران وعبد الرحمن منيف راهناك على دينار اذا سقط حكمكم وقد سقط وانت خسرت فهات الرهان، وبدت الدهشة على وجه علي أولا ثم لم يلبث ان قطب جبينه وقال لا انا لم اخسر انتم راهنتموني على البقاء في الحكم لثلاثة اشهر وانا بقيت تسعة أشهر فأنا الرابح ولم أجب انا بشيء بل بقيت انظر في عينيه وابتسم واستدرك هو يقول هل تريد الصدق والصراحة من حيث الشكل نحن بقينا في الحكم تسعة اشهر اما في الواقع فنحن لم يدم حكمنا ثلاثة شهور ولا حتى شهرين وانتم ربحتم الرهان، ثم اضاف ليس عندي الان دينار عراقي اعطيه لك فماذا افعل؟ ثم لم يلبث ان ذهب الى دولاب الملابس واخرج من جيب سترته قلماً ذهبياً جميلاً وعاد يقول لي خذ هذا القلم بدل الدينار، انه يساوي الكثير من الدنانير بل ان قيمته المعنوية والرمزية اكبر من كل الدنانير فقلت مستغرباً ما الأمر وما قصة هذا القلم؟ فقال هذا قلم جمال عبد الناصر اعطاني اياه اثناء محادثاتنا في القاهرة، ففرحت كثيرا واخذت منه القلم ثم قلت مازحاً قل الصدق هل جمال عبد الناصر اعطاك القلم ام انت اخذته منه؟ واخذ علي يقهقه بصوت مرتفع وهو يروي القصة الكاملة قائلاً
في احدى جلسات المحادثات جلس جمال عبد الناصر ووضع امامه على الطاولة هذا القلم وبجانبه قداحة رائعة الجمال. وكان عبد الناصر يستعمل هذا القلم ويكتب به بعض الملاحظات اثناء النقاش. وفي لحظة من اللحظات وبينما كان هو يتحدث مددت يدي وأخذت هذا القلم من امامه وكتبت به شيئا ما ثم وضعته في جيب قميصي. ولم يبدر من عبد الناصر أي رد فعل وتظاهر بانه لم ير شيئا أو يلحظ شيئا بل استمر مسترسلا في حديثه. وبعد فترة اخرى مددت يدي مرة ثانية وأخذت القداحة وهي التي كانت هدفي في الاصل والاساس وأشعلت بها سيجارة ثم وضعتها امامي فوق علبة السجاير. ومرة اخرى تظاهر الرئيس عبد الناصر بانه لا يرى شيئا أو يلاحظ شيئا ولكنه مد يده بهدوء واخد القداحة واعادها الى مكانها امامه وارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة ومضى مسترسلا في حديثه وكأن شيئا لم يكن. وعندئذ فهمت أنا ان جمال عبد الناصر موافق على ان يعطيني القلم ولكنه لا يوافق على إعطائي القداحة. وعليه اذا قلت ان جمال عبد الناصر اعطاني القلم فهو صحيح وإن قلت اني اخدت منه القلم فذلك صحيح ايضا. ولكن قل لي كيف خطر على بالك ان تسألني إن كان هو اعطاني القلم أم انني اخدته منه؟ فقلت الامر لا يحتاج الى كثير من الذكاء. أنت قلت اعطاني ولم تقل اهداني ولو كان عبد الناصر اهداك القلم لما تخليت عن هديته بسهولة، مرة اخرى قهقه علي السعدي وشتمني وقال لا احد يعرفك اكثر من صديقنا عبد الرحمن منيف.
دفعني الى كتابة كل هذا شدة الألم والقهر اللذين احسست بهما وأنا اشاهد على شاشة التلفاز أوباش الجامعة العربية وهم يتنمرون على سورية ويتسابقون في الكيد لها والتآمر عليها والتهجم على نظامها. ولكن برغم كل المرارة والألم وفي نهاية المطاف أجدني أقول وأنا أتذكر مناقشاتنا في حمص ما أشبه الليلة بالبارحة.
واتساءل. الم يحن الوقت للبعثيين الاستيقاظ من سباتهم واصلاح ما فسد من امرهم وامر حزبهم؟ ألم يحن الوقت لبدء التفكير الجدي بإعادة توحيد الحزب في كافة البلاد العربية؟ الا يجدر ان يكون شعار المرحلة القادمة من حياة الحزب هو بعث البعث؟ ألم يحن الوقت لكي يدرك البعثيون ان البعث في كافة البلاد العربية في سورية والعراق ولبنان والاردن وغيرها هو بعث واحد؟ ألم يحن الوقت لكي يدرك البعثيون ان الانشقاق والشرذمة هما اصل البلاء وسبب كل المحن التي يعانون منها اليوم؟ ألم يحن الوقت لكي يدرك البعثيون ان كل ما يجري على الساحة السورية اليوم هدفه النهائي القضاء على البعث فكرا وجسدا وان اسقاط النظام هو فقط الشرط اللازم والضروري لتحقيق الهدف؟ أليس هذا هو ما جرى في العراق؟ ألم يحتل الامريكان وحلفاؤهم العراق وهدفهم المعلن القضاء على الدكتاتورية واقامة الديمقراطية ثم انتهى الامر واستقر على اجتثاث البعث مكرسا بالقانون. ألم يحن الوقت للبعثيين وكذلك القوميين وكل الوطنيين ان يدركوا ان كل ما يجري على الساحة العربية في مصر وتونس وليبيا وغيرها هدفه النهائي للقضاء على النهج القومي والفكر القومي والمشروع القومي التقدمي النهضوي الوحدوي؟ لقد وقف المشروع القومي في السباق على قائمتين هما البعث والناصرية. ولقد تم تحطيم الناصرية بقتل جمال عبد الناصر وانشق البعث الى شقين وتم تحطيم الشق العراقي بالشكل الذي نعرف جميعا. ولم يبق الا الشق السوري والآن جاء دوره فإذا جرى تحطيمه والقضاء عليه عندئذ تكون الحلقة قد اكتملت والدائرة اغلقت وتم كسر العمود الفقري للمشروع القومي التقدمي الوحدوي العربي. وهو المطلوب، واكاد اضيف ليحل محله المشروع الاسلامي المعتدل الجديد. اوليس هذا ايضا هو المطلوب؟ ما اشبه الليلة بالبارحة. ألم يحن الوقت لكي يرى البعثيون ان مشروع الاصلاح الحزبي الذي جرى النقاش حوله قبل خمسين عاما في بيت رجل من آل الدندشي في مدينة حمص ما زال حيا وقائما وحاضرا وضروريا حتى اليوم؟ ألا يحتاج الحزب الى برنامج وهو الذي حكم قطرين عربيين لمدة تقارب النصف قرن او تزيد بدون برنامج ولا رؤية او تصور محدد لمسألة الحكم ومفهوم الحزب وعلاقته بالدولة وأجهزتها ودور كل منهما في إدارة شؤون البلاد والعباد؟ ألم يحن الوقت لكي يعود البعثيون ويضعوا في جدول اعمالهم نقطة كانت ترد دائما في جدول اعمال أصغر الحلقات الحزبية وهي النقد والنقد الذاتي؟ ألم يحن الوقت لكي يراجع البعثيون كل تجاربهم السابقة مراجعة نقدية جدية وشجاعة؟ ألم يحن الوقت لكي ينظر البعثيون الى انفسهم في المرآة.
في كل ما قلت أتوجه للبعثيين وليس الحزبيين. فاليوم ما أكثر الحزبيين وما أقل البعثيين. اليوم وفي حزب البعث البعثيون قلة والحزبيون أكثر من غبار الأرض.
قد يقول قائل هذه احلام طوباوية لبعثي قديم. وقد يقول آخر هذه صرخة في واد. وقد يقول ثالث لا تجزع اذا ناديت حيا. حسنا ليقل من شاء ما يشاء وأما في نهاية الأمر فلا يصح إلا الصحيح.
/4/2012 Issue 4169 – Date 9 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4169 التاريخ 9»4»2012
AZP07