سامي عبد الحميد وذاكرة مسرحية تورق علي صفحات معاصرة
الحيوانات الزجاجية.. واقع أمريكي زنجي يسقط في فخ التعريب
زيد الحلي
حين اعلن عن عزم الفنان سامي عبد الحميد علي اخراج عمل فني كان مؤملاً له ان يحدث انعطافة في تاريخ المسرح العراقي وهي مسرحية ” الحيوانات الزجاجية” ذات الشهرة العالمية وواحدة من اهم ما كتب الكاتب الامريكي الشهير تنسي ويليامز، ورافق ذلك الإعلان حملة دعائية واسعة، قلّ ان حظي بها عمل آخر، ساهمت فيها الصحف والتلفزيون بمقالات واخبار باركت العمل قبل ان يري النور، بأمل ان يوفر متعة ثقافية ورقي في مشاهدة واحد من الأعمال المسرحية المهمة في العالم، وحشد الفنان سامي عبد الحميد لعمله ممثلين معروفين من بينهم محسن العزاوي العائد للتو من موسكو بعد ان انهي دراسته الفنية وفخري العقيدي وفوزية الشندي وفوزية عارف، واستعان بالتشكيلي الراحل كاظم حيدر لوضع مناظرها… وبدأت التمارين علي المسرحية تجري علي وفق سياقات ومنهجية المخرج، وطال امد التمارين فترة طويلة، فالعمل ليس سهلاً وهي لمؤلف كبيروموضوعها غير مطروق في المسرح العراقي، وكان من حسن الصدف انني كنتُ قرأت نص المسرحية في مجلة “المسرح ” المصرية التي أعتادت علي نشر نصوص مسرحية عالمية في كل عدد منها، لكن من سوء حظ سامي عبد الحميد ان عددا لا يستهان به من المهتمين أطلعوا علي المسرحية، فبقيت مخزونة في ذاكرتهم، وكلهم شوق لمشاهدة رؤي المخرج سامي عبد الحميد للنص، وهو نص آية في الروعة.. كتبه «تنيسي ويليامز» في بداية العام 1944 وناقش فيه العقل الانساني بسيايكولوجية جريئة وبهذا النص عُرف ككاتب مسرحي، بعد ان عرضت المسرحية في شيكاغو بأمريكا للفترة من أواخر شهر كانون الاول عام 1944 الي شهر آذار عام 1945، اذ أنتقل عرضها بعد ذلك الي مدينة نيويورك، وبذلك حقق هذا النص شهرة عريضة لمؤلف ظل نحت ستارة النسيان رغم انه كان يكتب منذ العام 1934..
والمسرحية كما ذكر ” ويليامز” بعد سنوات في مذكراته تتحدث عنه شخصياً في فترة كان طالباً في جامعة ” ستيت” في ميسوري وعن عائلته المتمثلة في شقيقته “لورا” وهي فتاة عرجاء وخجولة جدا، تفشل في عملها كعاملة طباعة ثم ترفض أن تزاول هذه المهنة، وتفضل ان تلهوا بالقطع الزجاجية لمجموعة من الحيوانات الصغيرة، كطفلة ما زالت تحبو.
وهذا ما ينطبق ايضا علي شخصية الام” أماندا” التي تحلم بتزويج ابنتها “لورا” لعريس مناسب، و ما تفتك أن تكرر يوميا نفس حكاية خاطبيها السبعة عشر المحفوظة بتفصيلاتها المملة عن ظهر قلب من لدن ابنها وابنتها.. من ذلك، نفهم انها « مسرحية تذكرية، اي غير واقعية، وتقوم علي الإحلام، والمفردات الفنية الموظفة فيها مفردات مسرحية خالصة، كالموسيقي والاضاءة الخ »
العرض.. والمفجأة غير السارة!
وأعود الي ليلة عرض المسرحية « أحد ايام تشرين اول عام 1966 ».. كانت مثل ليلة عرس، لكن العريس وأعني به مخرجها، لاحظته عند الترحيب بالحضور، وكنتُ أحدهم، كان باهت الوجه، قلق المزاج، وظننتُ انها حالة اعتيادية بالنسبة لمخرج ينتظر رفع الستارة عن عمل وضع فيه رؤية مسرحية غير مألوفة.. كان سامي عبد الحميد ينتظر ان تفتح له ” الحيوانات الزجاجية ” باباً يدخل منه الي قائمة المخرجين العرب والأجانب الذين أقدموا علي اخراج هذه المسرحية المهمة، وآخرهم كان المخرج السوري “خضر الشعار” في عام 1964.. وقد تناولت صحف عربية ومحلية في وقتها العمل السوري بالنقد الايجابي وأشادوا به وبالطريقة الأخراجية التي سلكها الفنان الشعار، وأظن ان الأهتمام الذي حصل عليه العمل في سوريا، كان أحد محفزات الفنان عبد الحميد، لكن يبدو ان شعوراً داخل الفنان في ليلة العرض بخطأ اختياره للنص الشهير، فأنعكس علي نفسيته وهو يستقبل ضيوفه !
وأنفتحت الستارة بتصفيق حار، وكان الحضور من المدعوين ومعظمهم كان يمتلك تصوراً عن العمل من خلال النص الذي نشرته مجلة “المسرح” كما ذكرت، غير ان الذهول اصاب الجميع، فالمسرحية ” معرّقة ” اي حوّلت من لغتها الشعرية الجميلة الي اللهجة المحلية البغدادية، وأسقط بيد الجميع، فكانت “لورا” التي مثت شخصيتها فوزية عارف تتحدث بـ «البغدادي » وكذلك الام “اميديا” التي مثلت شخصيتها فوزية الشندي !
وعند أسدال الستارة، تبخر الشوق لمشاهدة العمل الموعود… وإذا ما تركنا التعريق الذي أساء للمسرحية العالمية إساءة كبيرة، فأن سير الإخراج كان متعرجاً بين صعود وهبوط، بدأ برؤية عائمة وأختتم برؤية عائمة ايضاً، وما بين البداية والنهاية حصلت تحت « ضغط » تقديم ما كان يُعتقد بانه مبتكر، نقاط أنكفاء كثيرة !
وخرجتُ من المسرح، دون ان أقدم التهاني في خلف الكواليس لكادر المسرحية، كما كان سائداً في تلك الايام… خرجتُ وكلي أسف علي عمل لم يقدم شيئاً لمخرج معروف، بل أخذ من جرفه الابداعي، وأسفتُ علي وقت ضاع في مشاهدة مسرحية كنت اظن انها ستكون بمستوي يرتقي الي أهمية المؤلف، وتوجهت الي بيتي لأتصفح مجلة المسرح من جديد وأعيد قراءة مسرحية “الحيوانات الزجاجية ” كنص مكتوب… هذه المسرحية التي وضعت ويليامز في مقدمة الصف الأول من كتاب المسرح، وهي المسرحية السابعة التي كتبها ويليامز وصادفت النجاح علي خشبة المسرح في شيكاغو في عام كما ذكرت 1945، وفازت بجائزة الدوائر الأدبية للدراما في نيويورك عام 1956، وهي من مسرحيات الذاكرة ومكتوبة في سبعة مناظر تمثل السمات الأساسية لمسرح تنيسي ويليامز. ويصفها في مذاكراته ” كانت مسرحية يكثر فيها السرد وتمر بعمق فوق أحداث تبعث في النفس الوحشة والألم.. عقدة المسرحية ترتكز علي موضوع ذو جاذبية جنسية يشق طريقه إلي مدينة عتيقة الطراز في احدي ولايات الجنوب الأمريكي، فتتصاعد ضجة كبيرة تحتل مساحة واسعة في أحداث المسرحية”
ويعتقد النقاد بأن ويليامز كان متأثراً إلي حد بعيد بطريقة “فولكنر” في رسم الشخصيات من خلال تحديد المستويات الثقافية المتباينة في المسرحية. وهناك اعتقاد آخر بتأثر ويليامز من خلال الموضوع الذي تبشر به المسرحية بكتابات الروائي د. هـ.لورنس. يقول الناقد هنري بوبكين في كتابه « مسرح تنسي وليامز»: ” ان الكاتب اضاف إلي اضطراب المسرحية صيغة رمزية تتشابك خطوطها ضمن الموضوع وضمن أفكار الشخصيات والعقد الثانوية الصغيرة حيث يمكن أن يقال أنها مستمدة من التوراة أو المثيولوجيا اليونانية القديمة.”
وعلي القارئ ان يتصور كيف تحولت مسرحية هذا مضمونها، الي بيئة عراقية بل بيئة بغدادية، وكيف تحول الحوار الجزل، العميق الذي عرف به كاتبها وكان بمراتب الشعر، الي لهجة تكثر فيها مفردة «شكو ماكو»؟
نقد قبل 46 عاماً
وفي اليوم التالي، توجهت الي صحيفة ” العرب ” البغدادية حيث أعمل، لأكتب نقداً عن المسرحية نُشر يوم السبت 22 /1966/10 تحت عنوان بارز وسط الصفحة التي كنتُ اشرفُ عليها «دراما تذكرية.. ولكن!؟» حاولتُ فيه تفكيك مسالك العمل وناقشتُ الفكرة الإخراجية، ويبدو ان القلم عندما يكون بيد صحفي شاب، يصيبه بعض الإندفاع، ويسلك طرقاً حادة لتوصيل ما يعتقد بصحته، عكس الصحفي المخضرم.. كان القلم بيدي عنيفاً في نقده، وقد لامني الكثيرون علي ملاحظاتي لاسيما ان المخرج سامي عبد الحميد من رواد ومجددي المسرح العراقي، لكن للشباب عذرهم وللائمين حقهم !
كتبتُ ذلك النقد في العام 1966 ونحن الآن في العام 2012 اي قبل 46 عاما بالتمام والكمال.. فشكرا لأخي ” مجيد السامرائي” ولطلّة ” سامي عبد الحميد” إذ لولاهما ما كان لذاكرتي العودة الي تلك السنين، لتقدم صورة عن عمل مسرحي شغلت اخباره الجميع، وحين عُرض اصيب الجميع بالصدمة.. ويالها من صدمة!
هذه المسرحية كادت ان تطيح بسامي عبد الحميد فنياً، غير ان اختصار ايام عرضها علي بعض المساءات، وعدم دفاع المخرج عن عمله «وحسناً فعل» خفف من التأثير المحبط علي نفسية العاملين فيها، وبعد أكثر من 46 عاما علي ذلك العرض، أعتقد ان سامي عبد الحميد ادرك فشله في تلك المسرحية، فما عاد يذكرها في أحاديثه، فأسقطها من ذاكرته !
كنتُ علي حق في نقدي لحيوانات سامي عبد الحميد الزجاجية، لكني لستُ علي حق في قساوتي الشبابية… عذرا أستاذ سامي!
/2/2012 Issue 4119 – Date 11- Azzaman International Newspape
جريدة «الزمان» الدولية – العدد 4119 – التاريخ 11/2/2012
AZP09