الارث في العمارة الاسلامية
سامراء العباسية سليلة ما قبل التاريخ
أحمد كاظم نصيف
صدر مؤخراً للباحث الدكتور قيس حسين رشيد كتاباً موسوماً بـ (الارث في العمارة – الغاطس من العمارة الدينية السامرائية)، مراجعة الكتاب التاريخية والعلمية للدكتورة نجاة علي محمد التميمي الاستاذة في كلية العلوم الاسلامية / جامعة بغداد، تناول فيه الباحث رشيد التأثير الرافديني على التفكير والتخطيط والتنفيذ للقائمين على بناء العاصمة (سامراء) في هذا الميدان حصراً، وربما سيجد باحثون آخرون لاحقاً مواضع أخرى للحديث عن عمارة سامراء، وقد يكون هذا البحث مفتاح شهيتهم لدراسة التأثير العراقي القديم على هذه العاصمة المهمة.
وبين رشيد في كتابه هذا إن الحديث عن التاريخ لا يكتمل الا بالمرور على الأصول والجذور الأولى، من أسماء ومدن وحواضر، وهكذا كان مع مدينة سامراء (سر منْ رأى)، فهذه المدينة لم تكن مبتورة الجذور حين غفت على الضفة الشرقية من نهر دجلة الخالد، معلنة عن نفسها عاصمة لمُلك بني العباس، بل كانت تحمل بين طيات تفاصيلها العمارية والفنية إرثاً رافدينياً قديماً رافق متنها وهامشها على حدٍ سواء، إنها سامراء المعتصم التي ورثت التاريخ كله بدءاً من التسمية إلى آخر أبنيتها التي أصبحت وثيقة ومرجعاً مهميّن للمتخصصين في ميداني العمارة والتاريخ.
وذكر رشيد إن هناك دراسات عديدة تضمنت هذا التأثير الذي ألقى بضلاله على العاصمة الجديدة للعباسيين (سامراء)، إلّا أن هذا التضمين كان مقتضباً وسريعاً، ربما لوروده في سياق البحث الحديث عن موضوع رئيس، كما لم نجد بحثاً مفصلاً عن هذا التأثير في حدود العمارة الدينية للمدينة، وعليه خضنا في هذا الموضوع علنّا نساهم في تكثيف وحصر هذا الارث الذي ظهر في العمارة الدينية لهذه المدينة.
الدراسة
إن هذه الدراسة ستبين المواضيع التي رصد فيها الباحث رشيد شيوع التأثير الرافديني على بناء مدينة سامراء، واعتمدت الدراسة على مراجع ومصادر تاريخية مهمة، وكان العمل الحقلي على الأرض من أهمها، وتجسد في مرحلتين، الأولى، إذ شغل الباحث الدكتور قيس حسين رشيد مهام مدير آثار وتراث مدينة سامراء من عام 1995 إلى عام 2000م، والثانية، اطروحته التي نال من خلالها شهادة الدكتوراه في عام 2017م، إضافة على ذلك فقد شغل منصب رئيس الهيئة العامة للآثار والتراث ومدير عام دائرة التحريات والتنقيبات، إضافة إلى منصب وكيل وزير الثقافة، وشغل مناصب عدة أخرى، منها، مدير عام دائرة المتاحف، ومدير عام دار المخطوطات العراقية، ومدير عام دائرة التراث، ولهذا كانت الدراسة علمية وعملية بحتة، لما للباحث من خبرة ودراية وفكرة عميقة عن هذه المدينة، وقال رشيد:” لكن تبقى هناك حقيقة ثابتة لا بد منها، وهي أنه لا يوجد عمل بحثي بلغ الكمال كله، ولهذا سوف لن أدعي إن هذه الدراسة قد أحاطت بالموضوع بشكل تام، قدر ادعائي إنها نافذة يمكن أن تكشف وتساهم في اعداد دراسات أوسع وأدق وأشمل، لا سيما أن عملنا في حقل الآثار ملئ دائماً بالجديد والمتغيّر تبعاً لأجراء أعمال التنقيبات الآثارية والمسوحات الميدانية والدراسات العلمية الحديثة ونتائجها “.
الكتاب
لقد اقتضت منهجية البحث العلمي تقسيم الدراسة إلى خمسة فصول، فضلاً عن المخططات والأشكال والصور، فقد جاء الفصل الأول تحت مسمى (سامراء العباسية وريثة سامراء ما قبل التاريخ)، بيّن فيه الباحث الجذور الأولى لحضارة الموقع الذي اتخذه المعتصم ليبني عليه عاصمته الجديد، إذ أن أرض سامراء من الناحية الجغرافية قد شهدت ولادة حضارة تاريخية رائدة منذ الألفين السادس والخامس قبل الميلاد، والتي تمثلت في موقعين، هما، موقع (سامراء ما قبل التاريخ)، والتي تقع تحت بعض أبنية العاصمة العباسية، وموقع تل الصوان الذي يقع جنوب مركز مدينة سامراء؛ أما الفصل الثاني فكان بعنوان (نشأة سامراء العاصمة)، إذ كان لا بد من وقفة تاريخية لقصة المدينة التي أضافها العباسيون لخارطة العالم، وذكر الباحث رشيد إن المعتصم بالله عندما أستخلف سنة (218هـ/ 832م) أقام في مدينة السلام سنتين ثم انتقل مع جنده الأتراك إلى مدينة سر منْ رأى التي بناها وجعل فيها محل اقامته ومركز قيادته العسكرية، وكان خروج المعتصم إلى سر منْ رأى على مرحلتين، الأولى إلى القاطول، فنزل قصراً ابتناه حيث حفر قاطوله ثم همَّ بتمصير ما هناك، وأبتدأ ببناء مدينة وتركها، ثم رأى تمصير سر منْ رأى فمصرها ونقل الناس إليها وأقام فيها وأسماها (سر منْ رأى) التي تقع أطلالها اليوم على الضفة الشرقية لنهر دجلة على مسافة 130 كم شمال بغداد، وقد يكون انتقال المعتصم بالله من مدينة السلام إلى قاطول أولاً ثم إلى سر منْ رأى هو الذي جعل المؤرخون يختلفون قليلاً في السنة التي بدأ بها بناء العاصمة الجديدة بين عامي (220هـ/ 835م) و (221هـ/ 836م)، والباحث رشيد يرجح أن سنة (220هـ/ 835م) هي التي قضاها المعتصم بالله في القاطول ولم يبدأ ببناء سر منْ رأى إلّا في سنة (221هـ/ 836م)؛ وبيّن الفصل الثالث العمارة الدينية العامة، فقد ذكر البلاذري إن المعتصم بالله عندما همَّ ببناء سر منْ رأى سنة (221هـ/ 836م) بنى مسجداً جامعاً في طرف الأسواق، وكان ضمن تخطيط العاصمة الجديدة مسجداً جامعاً واحداً، وقد خط المسجد واختطت الأسواق حوله، أي أن المسجد كان المحور الأساس الثابت في التخطيط، ولم يجعل المعتصم بالله مسجده ملاصقاً لقصره كما كان في تخطيط المدينة المدورة والرصافة وما كان شائعاً في تخطيط المدن العربية الاسلامية، وإنما جعله قرب الأسواق كي يكون محور تجمع أصحاب الحرف وأهل السوق، ونعتقد إن هذه الحالة جديرة بأن نتوقف عندها طويلاً، إذ أن هي المرة الأولى التي يفصل فيها المسجد عن القصر أو (دار الامارة) عمارياً وجغرافياً، وهو ما يعكس ربما فصل الدين عن السياسة في هذه المرحلة التاريخية في الدولة الاسلامية؛ أما الفصل الرابع فقد تكلم فيه الباحث عن العمارة الدينية الخاصة، ثم الفصل الخامس والأخير، الذي كان أساس الدراسة وخلاصتها، وبيّن فيه الباحث التأثيرات الرافدينية على هذه العمارة الدينية.
المساجد الصغيرة والمصليات
جاء في الفصل الرابع من الكتاب، لم تكن مساجد الدولة (المساجد الجامعة) تفِ بالحاجة إلى أماكن لتأدية فريضة الصلاة في العاصمة الجديدة للدولة العباسية، ليس بسبب العدد الكبير للناس في المدينة حسب، بل لسعة مساحة العاصمة وامتدادها الطولي، مما استوجب انشاء مساجد في بعض القصور والاقطاعات ومساجد صغيرة (مصليات) في كثير من البيوت ولا سيما في دور الخاصة والتي غالباً ما كانت للقادة والمتنفذين.
الفصل الخامس
أما الفصل الخامس فقد تكلم فيه الباحث رشيد عن خلاصة دراسته التي شملت الكثير من التفاصيل، فقد ذكر فيه، عندما أتخذ المعتصم بالله قراره ببناء عاصمة جديدة لملكه بديلاً عن مدينة السلام، أوعز باحضار أصحاب الخبرات من المهندسين والبنائين والفنانين، وجمعهم من كل أمصار دولته المترامية الأطراف وأغدق عليهم العطايا ليبنوا له مدينته التي ستستمر طويلاً وكثيراً في التاريخ، وكان العراقيون القدماء بارعين في قطاع الهندسة والبناء والــــــــفنون، وذلك لعمقهم الحضاري، وهذا ما جعلهم في مقدمة المشتغلين في تلـــــــك القطاعات، فقد كانت لهم سمعة طيــــــــبة سامية، ولهذا نرى إن تراث بلاد الرافدين كان حاضراً من خلال تخطيط المباني وتوظيف العناصر العمارية القديمة والزخارف في عاصمة العباسيين؛
وبعد الفصل الخامس تضمن الكتاب الكثير من المخططات والأشكال والصور التي تدعم الدراسة.