ساعي بريد الغرقى لكريم راهي

ساعي بريد الغرقى لكريم راهي
شهادة شعرية على سنوات العذاب
هادي الحسيني
الشاعر كريم راهي في قصائده مثقل بآهات الفراق والغربة والسجن والموت والحنين الى الوطن، ولعل الغرقى في تلك المجموعة ليس أؤلئك الذين يغرقون في البحر أو النهر ليتلاقفهم الموت الهادىء، إنما الشاعر هنا يعني تحديداً الغرق في الحياة، بمعنى أن مرارة الحياة ومصاعبها حين تشتد على الانسان تجعل منه أن لا يطيق عيشها الأمر الذي يتمنى الموت في اية لحظة حتى يتمكن من الخلاص من مصاعبها وآهاتها المثقلة بالحزن والفجيعة. وغرق الحياة عادة ما يكون أشد واصعب بكثير عن الغرق في الماء. هنا في هذه المجموعة الشعرية الأولى للشاعر كريم راهي هي عبارة عن شهادة لسنوات العذاب التي عاشها الشاعر ويستذكرها في بلده العراق عبر سلسلة طويلة عريضة من الحروب والحصار والسجن والكثير من الأمور التي رافقت مسيرة حياته على الرغم من كتابتها في منفاه السويدي قبل عامين من الآن، إلا ان الذاكرة مازالت أشبه بفاكهة ناضجة لا تستطيع الذبول بالرغم من مرور عقود من الزمن على تلك الكوارث التي عاشها الشاعر. نصوص المجموعة تشد القاريء منذ اللحظة الأولى حين يشّرع بقراءتها فهي اشبه بقصائد مثقلة بالحزن والألم الأمر الذي ينتج عنها شريط لذكريات مريرة كانت قد عصفت بالشاعر في سنوات السجن والحرب والموت والعلعلات التي ظلت تطارده حتى في منفاه الثلجي. لقد أنتظر كريم راهي كثيراً من الوقت، عقوداً من السنين وهو يكتب الشعر في الحب ايام الشباب وفي الحرب حين هُدرت سنوات العمر وفي المعتقل والوصول الى ذروة الموت، كان الشاعر يكتب ويجرب، وما الشعر إلا تجريب حتى يجد الشاعر ذاته وهو يخرج من البحر اللآلىء والدرر في حضرة القصيدة.
في اولى قصائد المجموعة يناجي الشاعر اخاه محمد قائلا له
لقد نال قلبك الزمن» قلبك الرائي» الذي بلغ أوج حطامه» وتباعد ما بين دقاته.
في هذه القصيدة تلتمع لغة الشعر، فالزمن هنا او الحياة برمتها قد نالت من قلب اخيه الذي اصبح حطاما أو رمادا لتلك السنين،، لقد أجاد الشاعر في نصه هذا ونصوص المجموعة في غالبها ونجح بأن يبهرنا في صوره الشعرية المكثفة والدالة على الألم والفجيعة والهوة الكبيرة التي ظلت مشرعة على مصراعيها ما بين الحرب والحصار والمنفى التي غالباً ما تنتهي بالموت وتلك هي الفاجعة.
لعل قصيدة راهي التي عنوانها ورائي ص 31 هي تصوير دقيق وبحرفة فنية عالية عن تلك الخطايا التي أرتكبها الشاعر أو احس في أرتكابها على اقل تقدير أو شاهدتها فصورها لنا، ليس بالضرورة أن يكون هو الفاعل في هذه القصيدة فللشعر القدرة الكبيرة على تقديم صوره بطرق مختلفة كما نعرف، يقول كريم راهي في هذه القصيدة الجميلة
تركتُ ورائي حملاً من الخطايا» مثل جثّة الجندي الذي لم أغثهُ» يوم صاح يا أخي يا أخي»
ثم غاصَ في الذكرى.
وينتقل بنا الشاعر كريم راهي من الحروب وويلاتها والسجون وشبح الموت الذي كان يطارده مروراً بالكوابيس المرتبطة أرتباطاً وثيقاً بكل هذه الامور عبر قصائد المجموعة حتى يوصلنا الى القصيدة التي لا تخلو من بعض الجمل الفلسفية مستحضراً الاسطورة كرمز لتلك القصائد كما نلاحظ في قصيدة في المملكة المندرسة ص48 حيث يقول
بما تراكم من حجارة» صار بوسع الملكِ الرجيم» ترميم الموقد والمدخنة» مصطلياً نار الأبنوس» من حطام عرشه.
ونلاحظ ايضاً في قصيدة رقية كيف أن الشاعر كريم راهي يستنطق الذكرى ص 49
مثواي يا صانع الأعاجيب» ضج بالسعال» كلما فتح باباً»دُرجاً أو خزانة» يخرجُ لي شبحٌ مصدور» يقدم نفسه كذكرى.
وفي قصيدة مثل العابر ومحنته ص50 يحاكي الشاعر فصل الشتاء بكل ركوده الانساني، وحتى صياد الاشباح في ذلك الفصل يجعل منه خائرُ القوى، الى أن يوصلنا الشاعر الى مصباح الظلام والنوم على ضياءه الكابي. ومن ثم تبدأ الثلوج بالذوبان في الحقول عاماً بعد آخر الى أن تهرم المرأة الماثلة في القصيدة ويتكاثر الرماد في الموقد أو المجمرة التي اطلق عليها الشاعر» كقوله
في الضوء الكابي تنام» وهكذا، يذوب ثلج الحقول» عماً فعاماً والمرأة تهرم» وفي المجرمة يتكاثر الرماد.
ونطالع في قصيدة الحروب التي لا طائل من ورائها يحاول الشاعر أن يوصلنا عبر هذه القصيدة مستشهداً منذ عصور الجليد مروراً بامبراطوريات جزر الأوقيانوس وحروب النفط ومستشهداً بيوكيو ميشيما وغيره، ليصل الى نتيجة بأن كل الحروب لا يجنى منها سوى الرماد الذي تخلفه بعد نهايتها، ومخلفة الويلات الكثيرة التي لا ينتهي شبحها إلا بعد مرور عقود من الزمان، وهذا ما خلصت اليه اغلب المجتمعات المتحضرة الى أن الحرب لا طائل من ورائها على الاطلاق، كما جاء في ص66 والآن كل زهرة في الصباح» كل اغنية أو كوب قهوة، حصانةٌ وسلاح» الأوركيد» رهان ضد الحروب» التي لا طائل من ورائها.
AZP09

مشاركة