ساركوزي والمسلمون
نصيف الجبوري
حتى عهد قريب كان أسلوب تعايش الشعب الفرنسي بين طوائفه وأعراقه وأديانه نموذجاً يحتذى به في العالم أجمع، فهذه الفسيفساء الجميلة من السكان تحتضن مزيجاً رائعاً من الثقافات الوافدة من إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية وأوربا. هذه المجاميع السكانية حملت معها عادات وتقاليد وديانات باتت عامل اثراء لهذا البلد. عندها اضحت الديانة الإسلامية واليهودية والبوذية وغيرها تعيش وتتعايش جنبا الى جنب الكاثوليكية والبروتستانتية. لقد تمكنت هذه المكونات وعلى مدى عقود من العيش المشترك بسلام وأمان ضمن القوانين العلمانية للجمهورية الفرنسية. لقد تمكنت سياسة التكامل ضمن المجتمع الفرنسي ومنذ أكثر من ثلاثين عاما من تعزيز التماسك الاجتماعي إلى جانب سياسة التسامح والانفتاح واحترام الآخر. لكنه من الغريب حقا ان يتبنى الرئيس الحالي المتحدر من اصل اجنبي سياسة مناهضة للتكامل الاجتماعي الطوعي ليستبدلها بالانصهار والاندماج القسري، هذه السياسة المتعصبة تتعارض مع السياسات المتسامحة للقادة السابقين منذ تأسيس الجمهورية الخامسة بزعامة شارل ديغول مرورا بفرانسوا متيران حتى جاك شيراك. لقد تناسى الرئيس أيضا بأن مبدأ التسامح وعدم التعصب هو الذي سمح له من تبوأ منصبه الحالي على رأس الدولة. نعم ان ما يثير الدهشة هو أن هذا الرجل منذ تسنمه مناصب سيادية هامة كوزير للداخلية كان من اكثر المسؤولين السياسيين تعصبا ضد الاجانب خصوصا المسلمين منهم حتى بات البعض يقول عنه بأنه اصبح اكثر تعصبا من الفرنسيين أنفسهم، او ملكيا اكثر من الملك نفسه. لقد تصاعدت لهجة حكومته للبحث عن أي سبب لإثارة العداوة والبغضاء ضد المسلمين، فالبداية كانت من الحجاب، فالبرقع الى الهوية الوطنية الى اللحم الحلال فقضية محمد مراح التي لا تزال فصولها تتفاعل ولن تنتهي حتى نهاية موعد الانتخابات. إن الفئوية والحزبية الضيقة التي يتبعها الرئيس الفرنسي اليوم وسياسة شيطنة الآخر، مدعوما بإعلام فعال ومساندة الشركات الرأسمالية الكبرى ومن ورائه حزب يميني يتناغم خطابه مع مارين لوبين زعيمة اليمين المتطرف. عاد الرئيس الفرنسي من جديد الى تضخيم الهاجس الامني الذي قاده قبل خمس سنوات الى رأس هرم السلطة، وقد سبق ان توقع الكثيرون بأن هذه الحملة الانتخابية ستبحث لها عن ضحية ولن تكون تلك الضحية سوى الحلقة الاضعف في المجتمع الفرنسي وهي الاسلام والمسلمون شأن الحملة الانتخابية السابقة.
حتى هذه اللحظة لم يتمكن الرئيس الحالي من خداع الفرنسيين لنسيان حصيلة السنوات الخمس العجاف الماضية، التي كانت كارثية بالنسبة الى الاغلبية الساحقة منهم، نتيجة زيادة ضعف القدرة الشرائية اكثر مما مضى وتضاعف معدلات البطالة وتراجع الخدمات الادارية والصحية والتعليمية وضعف او انهيار قطاعات كثيرة عامة وخاصة.
إن الكثير من السياسيين الفرنسيين الحريصين على مصالح فرنسا في الداخل والخارج يدركون جيدا أثار التغيرات العميقة في المجتمع الفرنسي، فمشهد فرنسا الديمغرافي اليوم يختلف كثيرا عما كان عليه قبل عشرات السنيين. إن كان المسلمون سابقا يمثلون مجموعة من العمال الوافدين من شمال افريقيا لحفر انفاق المترو القطار تحت الارض والعمل في مناجم الفحم والبناء وتنظيف الشوارع أو تركيب أجزاء السيارات، تلك الاعمال الصعبة التي لم يشأ او يستطيع الفرنسي انجازها. أصبح المسلمون اليوم خصوصا الجيل الثاني والثالث مواطنين فرنسيين اصلاء لأنهم ولدوا فيها وتعلموا في مدارسها وأكلوا وشربوا من أرضها. هم اليوم مكون اساسي في فرنسا ولا يصح ان يوصفوا بالاقلية، لان الاسلام اليوم هو ثاني ديانة من حيث العدد في فرنسا بعد المسيحية، وقد يصل نفوسهم الى عشرة ملايين نسمة. فلم يعد الاسلام دين وافد من الخارج كما كان يصوره البعض، لذا فإن توازن المجتمع الفرنسي لن يكون كاملا إلا بقبول الاسلام ركيزة ثالثة جنبا الى جنب المسيحية واليهودية.
إن المسلمين في فرنسا يحترمون قوانين الدولة ويؤدون واجباتهم كما ينبغي فيدفعون الضرائب ويعملون لبناء بلدهم فرنسا ويدافعون عنها، شأنهم شأن بقية مكونات الشعب الفرنسي ويعيشون بسلام ووئام مع معتنقي الديانات الاخرى، كما أن لهم حقوقاً كثيرة من الضرورة ان يحصلوا عليها، في ظل القانون الفرنسي الذي منحهم إياها مثل حرية التعبير في وجه الهجمات الممنهجة لبعض وسائل الإعلام وفضح المعلومات المزيفة عن الإسلام والمسلمين. والمطالبة بصوت عال لفرض المساواة مع الآخرين في جميع المجالات، والسماح لهم بالعمل في جميع الاختصاصات بما فيها التكنولوجيا المتقدمة، وعدم وضع العوائق امامهم في الاكاديميات والمدارس العالية والكليات في المجالات الزراعية والصناعية والمصرفية والتجارية اضافة الى فتح الباب امامهم للعمل في حقول السياسية ووسائل الاعلام المرئي والمسموع وفتح مراكز الأبحاث العلمية لابداعاتهم الخ. وفي النهاية ممارسة شعائرهم الدينية بكل امان واطمئنان مثل غيرهم.
أما الآن، فإن هناك أسئلة كبيرة وكثيرة يطرحها مثقفو الجالية الاسلامية في فرنسا تتعلق بتطبيق العدالة التي تعتبر اهم ركن من اركان الجمهورية الفرنسية لعل أهمها الى متى يستمر تعامل الطبقة السياسية الفرنسية مع المسلمين وفق سياسة الكيل بمكيالين او ميزان المعايير المزدوجة؟ هل نحن أمام واقع جديد ينتمي الى العصور الوسطي حيث نظام الطبقات كطبقة النبلاء وطبقة العبيد؟ بل هل نحن في هذا العصر امام تصنيفات جديدة للمواطنين مواطنون من الدرجة الاولى تنتمي لعرق معين ودين معين، ومواطنون من الدرجة الدنيا تنتمي الى دين آخر وعرق آخر؟ لكننا على يقين بأن استمرارية مثل هذه السياسة ستفتح ابوابا جديدة من الارهاب الاعمى الذي لا يميز بين صالح وطالح ويزيد من وتيرة التعصب الديني لدى جميع الاطراف. اضافة الى ان مثل هذه السياسات تتعارض تماما مع مبادئ الثورة الفرنسية في الحرية والإخاء والمساواة وتتقاطع ايضا مع حضارة وثقافة الشعب الفرنسي الاصيلة.
كاتب عراقي مقيم بفرنسا
/4/2012 Issue 4172 – Date 12 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4172 التاريخ 12»4»2012
AZP07