خلدون جاويد في معاناة الغربة
سارد يضيء بشاعريته شمعة إلى أمه
حمدي العطار
تخلق القصة القصيرة فكرا واعيا قادراً على التحليل اكثر من باقي الاجناس الادبية،حتى قيل أذا اردت ان تتعلم كيف تفكر فعليك بقراءة القصص القصيرة،ولا تكفي الخبرة للتعبير عن الموضوع في الشكل القصصي بل تتطلب القصة جمالية ولغة وتكنيك خاص لهذا الجنس الادبي،فهل القصة أصعب من الشعر؟وهل تنافس القصة الرواية؟ هذه الاشكاليات قد طرحت سابقا ولم نتوصل الى نتائج محددة خاصة وان الكثير من الشعراء تداخلت نتاجاتهم بكتابة القصص ،وكانت لهم روايات حينما لا يستطيع الشكل القصصي أستيعاب افكارهم التي تحتاج الى الامتداد الافقي ،بينما يغوص الشكل القصصي بشكل عميق عامودي!
يبدو أن الاعتقاد السائد حول جمالية وقوة الابداع الادبي لا يولد ألا من رحم المعاناة والالام قد اثبت صحته لدى الشاعر والاديب “خلدون جاويد” حينما سرد لنا مجموعة من القصص والخواطر أطلق عليها عنوان (شمعة ذكرى الى أم عراقية) الصادرة من “دار ميزوبوتاميا” سنة 2013 .
يحاول السارد “خلدون” أن يمزج بين الشعر كلغة وفن القصة كأطار ووعاء ملائم لأفكار راودته حينما كان يعمل في الحقل السياسي في ظل الدكتاتورية او حينما اصبح في المنفى (الدنمارك) نقول المنفى وليس السفر او الرحيل لأن خلدون كما هم معظم اليساريون الادباء والشعراء قد تركوا العراق مضطرين لذلك عاشوا في اجمل المدن من دون الذوبان في مجتمعاتها وكل ما يحدث في العراق وهم بعيدون عنه يتفاعلون معه ويعانون مثلما يعاني من كان في الداخل!،أعتمد “خلدون” على مواضيع ذات خصوصية تمثل (ذكرياته) او سيرته في غربته بالدنمارك يتعكز على ما يملك من أدوات ومواهب في الوصف والحوار حتى لا يفقد الموضوع رونقه الفني ويعد (خاطرة) وليست قصة بمواصفاتها المعروفة رغم ذلك فهو لا يقع في فخ المباشرة والسطحية لتكون كتابة الخاطرة من الناحية الفنية عابرة وليست راسخة كما هي عليه قصصه التي احتوتها المجموعة وبالذات قصة “هل ستبقى ليلى بلا ذئب” والتي سوف نتوقف عندها لأنها تمثل المرحلة المعقدة التي يمر فيها العراق! ليلى هي رمز للشعب العراقي الذي يحيط به التهديد من قبل الجميع ،فهي تأكل بخوف وتنام برعب وتبحث عن الامان والسعادة المفقودة والاخلاص و(المنقذ) فلا تجد الا الموت والتآمر والخيانة ،”ليلى” ليست وحيدة هناك من يضحي من أجلها ويقوم ويصد الهجوم لكن اعدائها (الذئاب) “متحجرو الدماغ لا يفكروا بأنهم يرون الموت ويقذفون بأنفسهم اليه.. بعضهم لا عقول لهم!” ،والذئاب المتربصين ليسوا صنفا واحدا او قادمين من جهة محددة حتى يسهل مقاومتهم ومحاصرتهم والقضاء عليهم فهناك ذئاب الليل “هكذا راحوا بعد أن ظهرت الشمس يمسكون بالذين يضعون الخرق الوسخة على رؤوسهم ! ” حدد السارد جهة الشرق هي من يمولهم !هؤلاء يدعون الوصال والصداقة مع ليلى ومعهم ايضا صنف آخر من الذئاب “الذين على رؤوسهم طاقيات زيتونية اللون “تساعدهم قرية من جهة الغرب!! لم يتوقف السارد في تحديد الاعداء الواضحين والذين ينكشفون مع اول خيوط الشمس حينما تشرق لكن المصيبة الكبرى هو في أختلاط الاوراق وضياع بوصلة تحديد العدو من الصديق والقاتل من الحارس “المشكلة ان بعض الحراس من الشرطة هم اصدقاء الذئاب فلربما يطلقون سراح بعض الخطرين منهم ويجعلونهم يتسربون الى داخل البيت فيجهزون على ليلى ويقتلونها” هذه اشارة ذكية لهروب السجناء المتكرر،وهناك اشارة اخرى الى تسليم مهمة حماية ليلى الى اشخاص مارسوا الجريمة في العهد القديم يطلق عليهم السارد (الحرس القديم) “والمشكلة ان المنقذ قد عين واحدا من الحرس القديم مساعدا له!!!! والحرس القديم يا ستار ويا حفيظ قد عاش في كنف جريمة الجريمة!!!” وهناك من يدعي بأن ليلى هي الاخرى مذنبة وغير طاهرة “وأن ليلى ليست بريئة بل هي متواطئة مع الصيادين وقد جلبتهم الى هذه المقاطعة” وحينما يمضي الزمن ويطول ولا يستطيع المنقذ ان يوفر الامان والاستقرار ويقضي على كل الذئاب فهناك احتمال ان يكون (التخريبيون متواطئون مع المنقذ) في العراق بعد التغيير تغيرت أشياء كثيرة وشعرنا بالفرح لهذه التغييرات ويدعي السارد بأن السعادة كانت تتلخص “بمأكولات اللذيذة والتلفاز والساتاليات والتلفون المحمول ، لكن مع السعادة غصة) عبر عنها بالخوف الدائم! وامام استمرار الوضع المعقد تتمنى ليلى (ان تصحو غدا فلا ترى الذئاب ولا الحراس ولا المنقذ)!!
تتناثر حكايات “خلدون” لتصوير المشاعر الانسانية ليكون هناك معنى للوطن لا كما يفهمه الحكام والطغاة لذلك كان يبدأ رحلة المعاناة حينما أضطر لترك الوطن ليذهب بعيدا عن الجذور ورغم ما تحمله (الدنمارك) من مباهج الحياة فأنه لا يستطيع التكيف في ذلك المجتمع المتطور صحيا وفنيا وتعليميا،فما على السارد الا ان يغازل مدينته بغداد ويسير مع خط الباص 23 (باب المعظم n اسكان) ليمر “بدكاكين القيمر والكاهي،يتحمل بأقداح الشاي،بأريج الحامض،ودارسين الحمامات ويتحشد بعبق الخبز الطالع من أزقة الأكمكخانه،يأتي بحنين الرصافي الواقف قبالة الجسر” (1) ويمضي على مهل في كل الزوايا والمحلات لأنها في نظره افضل من جمالية الدول الاسكندنافية،ثم يصل الى قرار الرحيل ليصطحب معه الزوجة والصديق (بابان) بعد ان يستعرض ما اصاب رفاقه من صعوبات “
.. ي ع ..شمع الخيط في 1/1/79 ،أ +ف س قبل هذه الفترة،ع و في نهاية الشهر الماضي،خمسة آخرون في بداية الشهر الثاني،ل اختفى ج ذهب الى كردستان نصيرا..ع – ع وقع على استمارة التبعيث القسري “(2)
بعد ذلك يحرص السارد على تصوير معاناة الغربة في الدنمارك في عناوين (اصوات عراقية من مخيم اللجوء) بعد ان يصب غضبه على من سيعتقد كان سببا فيما وصل اليه هو ورفاقه من مأزق تاريخي اما البقاء والموت المحتم او الهروب والعيش في الغربة ويعطي توصيف الى قيادة حزبه في ذلك الوقت (اليمين) او (خط موسكو ) وتتوضح المعاناة في صعوبة التكيف حيث لا يستطيع السارد ان يمحو العراق وعاداته واصدقائه فيصاب بما يشبه (مرض حب الوطن) لكنه يبدو حب من طرف واحد لأن الوطن أغتصب من قبل المجرمين وسكوت المتخاذلين ،ويرى السارد بأن صعوبة التجانس تأتي من الاختلاف بين الشرق والغرب (الهروب هو ان تكون مثلهم ..جرائد للقراءة،برنامج تلفزيوني،فيلم فيديو،كتاب،جولة على دراجة،زيارة صديق في عطلة نهاية الاسبوع أو ان تندمج في نواد وروابط واتحادات دانماركية وهذا يقتضي درجة عالية من التجانس لغة واسلوبا او ان تذهب وحدك الى سينما قدري “وعلى هذا الايقاع يستمر السارد في معاتبة المرحلة التاريخية التي جعلت من يؤمن بالوطنية مطاردا ومضطهدا بينما من يبيع وطنه بالحماقات يتربع على الخيرات الوطن وتزداد سطوتهم وبنفس الحرارة يستعرض التناقضات في اسلوب التربية ومعاملة الاطفال والنساء بيننا وبين الدنماركين ،ودائما يذكر جمال ونظافة الاشياء والتعامل في الدنمارك لكنه يلوم نفسه لأنه لا يتكيف مع كل هذا الجمال “كنا مثل كلبين في ليل الشوارع،الريستورانتات تتألق بالضوء،خلف النوافذ حشد من الاناقات،شباب اوربي اشقر اللون كالذهب او كشعاع الشمس..نساء اجمل من فراشات البحر،خمرة كدموع العذارى تنتصب على طاولات بشموع وأزهار..شراشف باهية كالثلج وفتنة تعم بسحرها الأرجاء .. كنا مثل كلبين!” (3) ويرى “خلدون” بأن افضل النعم واجملها في ذلك المجتمع هي “الحرية الشخصية” ويطلق عليها (القمة الفاتنة) ولكن هل يتمتع بهذه الحرية كما لو كانت في العراق حيث لم ير الا العبودية والظلم والقهر والاقصاء ،مع هذا يقول لرفيقه في “ليلة دنماركية (هذا ليس مكاننا) ،يحاول السارد ان لا يقود قصصه فقط بل يجعلها تداعيات من اجل الافصاح عن نوعين من الافتراق والاغتراب اطلق عليهما :طلاق الوطن وطلاق المنافي” وفي هذه التداعيات يكشف جوانب مظلمة من حياته حيث تنتقل حالة عدم الانسجام مع مجتمع الدنمارك الى حالة الفتور والتأكل في العلاقات الاسرية مع الزوجة وتعليمات النساء الصارمة في ترتيب حياة الرجال حتى يتكون لديه احساس الفراق والانفصال عن طريق (الطلاق السري) وهو يناقض (الزواج السري) وفي تلك التداعيات ومعها (سمفونية النمل،وافعى ،والدواء ( يستعيد السارد ذكرياته مع الزوجة والرفاق تتداخل في السرد مقاطع من اغاني ام كلثوم والاغاني العراقية القديمة.
في القصة التي حملت المجموعة عناونها (شمعة ذكرى الى ام عراقية) كان السارد يسقط خشوعا امام احب الناس اليه واكثرهم تضحية وألما هي أمه!!
“تلك الأم كم أحب أشياءها ..كفها… استدارة وجهها..تجاعيدها..خصلات شيبها.. تربتها، ثوبها، عباءتها، عطفها، حنوها، أبتسامتها” ويحاول السارد ان يمسك بعواطفه الجياشة وهو يتحدث عن حياة امه القاسية التي كانت تعاني من ظلم والده حيث كان يضربها ولم ينفعها ايمانها بضرورة تتحمل الزوجة ظلم زوجها “للمرأة في بيتها سبع زوايا أذا ضربت في زاوية لاذت بالاخرى واذا ركلت في الاخرى لاذت بالزاوية الثالثة وهكذا” ويلوم والده على هذا السلوك المؤذي ويصفع بالعفريت “كان يضربها بكثرة،ضربا مبرحا،يتلذذ بأيذائها ويدميها ادماء، ويدبغ جسدها بالورم،دمها على حمرة شفتها،وكحلتها في مسيل دمعها..لقد غادرت..واعطيها ربما الحق في ذلك كما اعطي الحق لكل طائر مهاجر او جريح” السارد قد يقارن هروبه من ظلم السلطة بما يشبه هروب امه من ظلم والده (فالجوع بسلام أفضل من موت بطعام) هذه الام الطيبة البسيطة كانت قد فهمت حركة التاريخ قبل غورباتشوف بعشرين عاما حينما كانت تودع ابنها بعيون حمر وهو يغادر العراق “يمة الشي اللي بيه اتفكر لتعتقد ايصير”
وفي قصص انت كوكبي – هناك مناجاة عاطفية لمطلقته- “انا من دونك زمن ماله مكان،أنا عبدك …. قلت لك ان الملكة اليزابيث ،وماري انطوانيت تمشي على سجاد احمر بينما انت تمشين على قبلاتي! ما أفدحني بغيابك ..عمري؟ وفي “صمت خافت كأنه الموت ” كان يعبر السارد عن حزن الوحدة وانعدام الاهتمام بالاشياء! وتضم المجموعة العديد من المواضيع التي تدين الذل والضعف والعجز وتتناول الجنس والشك وتفضح الكفاءة الكاذبة وانعدام الموهبة كما في قصة “ذلك التيس الصغير” الذي يصف فيه السارد ما يظن انه صديقه “فهو ناجح في تكرشه الأدبي … وفي شاعريته التكرشه فاشل تماما..وذلك لأنه لهام صحون وشريب وسهير وعهير! ” هذا الدعي يظن نفسه عبقريا وحينما يطلب منه السارد ان ينخذ موقفا يساريا من حزبه لتصحيح الحركة يجيبه قائلا “اريد ان استفيد من الحركة كمؤسسة قادرة على تفعيل نشاطات !ككيان ملموس مادي فاعل اعمل من خلاله” لذلك يعطيه التوصيف المناسب (وصولي) ويححد السارد موقفه من هذه النماذج قائلا “ذهب لوحده في ممرات الجنينة ..يتراخى وقد راحت مؤحرته مثل بستمات ماكينة سيارة تتشاقل وتتعامد بأورام وشحوم من مكورات ومدورات .قضيت ذلك النهار وحيدا وانا اتذكر الشاعر القائل (طاولة موحشة ولا صديق موحش)” خلدون جاويد لم يضيء في مجموعته شمعة واحدة لأمه فقــط بل هو قد اضاء مجموعة شموع على عدد قصص وخواطر المجــموعة فــــهل هناك من يرى النــور ليمسك بتلابيب الحقيقة.
(1) غزل المدن
(2) تذكر الأشـــــــجان في حضرة غانــــم بابان
(3) ليلة في كوبنهاغن