قصة قصيرة
زهرة المخيم
مختار الربيعي
تغير كل شيء حتى دجاجات العمة أم محمود لم تخرج من خلف الأسلاك الشائكة لتبحث في أزقة الحارة عن بقايا طعام .ولا الكلاب بانت في القماقم ، وعند حدود الجوع … وحده الخبز الحافي يبحث عن فرن الحياة . لم تظهر سماء اليوم بتلوينات الأمس .. كأن من يشدها إلى الأعلى هو الذي يمنعها من السقوط على من هم تحتها ..كأنه أرادها اليوم بغير بهجتها المعتادة . وكأن القلق المصيري أصبح هم الناس بعدما تعرت السماء من الغيوم . وبعدما عز الطعام على الإنسان والحيوان . قلق في المكان الذي لا بعيره أحد أي أهتمام .. كأبة واضحة ترتسم على وجوه الناس في حارات البطون الفارغه والعقول الواعدة الحديث بينهم لا يخلو من الخوف بالرغم من طرأقته وأخذه الطابع الهزل حيث غليت عليه النكات .. كانت نكـــــات سود، فالترقب يسيطر على المقهى ويسود أوساط الناس قلق بالغ .. أجبر بعضهم على البقاء في البيوت والأسواق . فقد مرت عليهم أيام صعبة ، ثم جاء الفراق والوداع . قبل أيام ودعوا أحبة لهم حملتهم السفن الى بلاد غير بلادهم ، والى مدن ومناطق تبعد عن المخيم الاف الأميال . ثم تركوا خلفهم ألاف علامات السؤال لتتربع فوق تجاعيد الوجوه التي عانت وعاشت النكبات من الأولى في البلاد وحتى جلس الفتى على حجر أمام دار شبه واقفة ، كانت بالأمس عامرة بمن دفن تحت أنقاضها .. تأمل الناس وهم يعبرون الطريق من والى المخيم . لم يأبه لأستعجالهم وهرولة بعضهم ..كانو على مايبدو قلقين من بدأ تساقط القذائف بشكل منقطع في جوار المخيم . لم ترهبه أصوات الأنفجارات ، مع أنه ليس من الذين لايهــابون الموت . قد تكون لامبالات ببسبب فقدان الأمل ، لذا ظل يمسك بسجارته وينفث فيها ، ممعنا النظر في قط ينتظر فريسته أعجبته قدرة القط على الصبر ، فقد انتظر لنصف ساعة خروج الفار . أنتظره نصف ساعــــة بالتمام ثم أفترسه في ثواني معدودات . – قال مازن متحدثا بالطبع تأكل طعاما جيدا وذو فائدة للجسم منذ بدأ الحصار . ولا غرابة في أن يكون القط أيضا بحاجة لفيتامينات لتحسن وضعه الصحي المتدري . فقد جاع مثلنا لأكثر من شهرين ونصف من الزمن .هو يمكنه صيد الفئران أما نحن فلا نجرأ على الأقتراب من البحر لصيد السمك أو الذهاب الى البيت القريب لصيد الطيور . فالطيور المعدنية غيرت وبدلت لون السماء ، صارت هي الصياد ونحن الطرائد ، هي القناص ونحن الفرائس تنتظرنا كي تفترسنا بدورها . فتاة أحلامه زهرة تتمختر على الطريق المقابل .. أختلست نظرة ، مالــــت برأسها في أتجاهه . أه ..أه يازهرة …كأنك الهوى يخفق بالهوى ، تتسرعين بسرعة الريح .. أنت أذن حية . أنها حية المباغت ، عشقها وهام في حبها منذ التقى بها للمرة الأولى في تظاهرة تضامن مع أهل الأرض . شابة نحيفة ، ممشوقة القدر ، بشرتها حنطية ، طلعتها كالشمس أقرب إلى السماء ..وبريقها كالقمر في أقصى الكرة الأرضية .. شعرها خروبي ، وأسنانها بيض ، متساوية مثل أسنان المشط .حضرت صورتها وهي تنشد بأعلى صوتها “ياجماهير الأرض المحتلة ” .. كالمجنون حاول يومها الأقتراب منها ليردد وراؤها نفس النشيدلم تبتعد كثيرا عنه ، إبتسمت له ، لمح البسمة فكاد يطير من الفرح ، أقتنع بعد ذلك أنها تحبه . لما لا وهو الذي بح صوته وهو ينشد في التظاهرة خلفها ، لأهل الأرض ، ولها وهي تمشي قربه فوق الأ رض . مر أيضا قاسم المجنون .. شاب طيب أنما أهوج بما فيه الكفاية ..يعرفونه من صوته الجهوري ، الخشن ، وجسمه الرياضي وعينه المفقودة ، وطاقيته التي يلبسها بالعكس عكس كل الناس ، مقدمتها الى الخلف ، بحيث يظنه المرء عائدا في تقدمه ، أو مثلما قال احد هبلان المخيم ” راجع لقدام وماشي ” طلب المجنون سيجارة وولاعة من ” مازن” ثم توجه كعادته الى المدينة الرياضيه حيث كان يقضي ساعاته تحت الشمس بعد الطيور السماء وطيور الأرض ، هكذا كان يقول لنا اليوم أحصيت ” 100″ طائر في الجو وعشرة على الأرض ، كنا ننظر على الأرض فلا تجد طيور حية ولا أخرى ميتة . كأن الطيور أنقرضت … عادت زهرة تتمايل وتنورتها الملونة تقاوم الريح أما شعرها الطويل فقد بدأمن بعيد كأنه بساط الريحتقدم نحوها ببطء ، لم ينتبه للسجارة التي كانت في المنفضة تركها تحترق ، أنشغل بزهرته وبقلبه المحترق . لم تعيده لحظة الطيران خلف قلبه لأطفاء السجارة ، لم يأبه المخاطر أشتعال المكان بسبب تسرب بعض البنزين من خزان الوقود ، كان متوقفا بالقرب من سيجارته المشتعلة ، هو نفسه كان أكثر أشتغالا من السيجارة ، لذا تابع وواصل مسيرة . في الطريق القصير مسد شعره بكف يده ، ومسح بأصبعه المبلل باللعاب حاجبه . اذ أنه يعاني من أنتصاب بعض الشعيرات على حاجبه ، فيبد في تلك اللحظة… وصلت زهرة قبله بدقائق ، صارت عند المفرق المؤدي الى أضيق الممرات في المخيم ، لحق بها ، أسريع الخطوات ، وصل قربها ، وقبله أخذ بالخفقان ، خفق بقوة مما جعلها تضمك عندما سمعت نبضات وخفقان قلبه ضحكة الملاك ، ألهة تطلعت بعيني غزالة ، ولم تنبض بكلمة .. سارع بسؤالها … هل تذهبين الى البيت ؟ هزت رأسها علامة الموافقة .. تعجب منها ، هل هذه هي زهرة التي قادت التظاهرة أم أنها توأمها … أقترب منها بشكل كبير ، حتى أنه أحس بتنورتها المتمايلة بفعل الريح وهي تلامس يده .. قال لها يازهرة اتقبلين بي عريسا لك خبأت وجهها بكفها ، لم ترد على سؤاله .. أعاد تكرار السؤال وما أن فتحت زهرة فمها حتى بدأت القنابل تتساقط على المكان . أنتشر الغبار والدخان فيما أحس مازن بألم في صدره . لم ير بعده زهرة ، لم يسمع صوتها . تساءل .. ترى أين هي ؟ .. خاف عليها أن تكون أحببت . لكن خوفه تبدد حين رأها تتقرب منه ، تسنده وتضمه الى صدرها وتمسك بيده وتمسد شعره المبلل بالدم . سمع دقات نبضات قلبها المتسارعة ، قبل أن يقطع تلك السموفونية صوت قاسم المجنون … جاء يركض كالمجنون أنتزعه من أغصان زهرته التي صبغت ملابسها بالدم . حمله بين يديه وركض به نحو المستشفى .. بينما وقفت زهرة مذولة تذرف الموع وتنشد بصوت الملائكي جابو الشهيد جابو يافرحة أمه …وأبوه … لم يتمكن قاسم المجنون من الوصول الى المستشفى في الوقت المناسب ، إذ أن المكان الذي ترك فيه سيجارته المشتعلة . توقف ” قاسم ” عن الركض ، وضع الشهيد . بجانب الجدار حيث كان يجلس قبل دقائق ، سحب نفسا عميقا مما تبقى من سيجارة مازن .. ثم خلع قميصه الصيفي ، وأخذ يصرخ بأعلى صوته ، ويضرب بكلتا يديه على صدره ، كأنه طرزان يطلب النجده من أصدقائه في الغابة ، لكن “قاسم ” المجنون لم يكن طرزانا ولا البيت في المخيم كان غايته .. لذا لم تأت النجدة .. ولم يعد هناك يد من دفن الشهيد…..



















