زمان جديد ما عندنا وما عندهم
سهيلة داود سلمان
التشبث بالسلطة هل هو مرض معدٍ ينتقل بين الرؤساء أم هو داء مزمن، وكأن السلطة مزرعة أو قطعة أرض ملحقة بقصورهم يتوارثونها أباً عن جد ويتمسكون بها حد الاقتتال وسفك الدماء؟
لن أتحدث أكثر عن هذا، فما عندنا كلنا نعرفه لكني سأنتقل الى جهة أخرى من الكرة الأرضية.. سأذهب الى فرنسا تحديداً العاصمة باريس والعام 6819 ، كنت هناك حين اشتعلت الشوارع كلها بالمتظاهرين.. بما سمي ثورة الشباب وعلى رأسهم الطلبة والعمال.. وغيرهم.
ذات يوم كنا نسير في الشانزليزيه حين انقطع المرور.. وقفنا مع الواقفين في انتظار أن ينفتح الطريق بين المئات من السيارات.. ومرت المظاهرة مِن أمامنا.. مظاهرة طلاب الجامعات حاشدة بآلاف الشباب.. ما لفت أنظارنا أن بعض الفتيات كنّ قد خلعن أحذيتهن، حملنها بأيديهن ويمشين حفاة من التعب وبعضهن اعتلين مناكب زملائهن أو أصدقائهن وهن يهتفن.. الرصيف على الجهتين كان رجال الأمن يحتشدون بصفوف واقفين بلا حراك.. يمسكون بما يشبه الدروع يغطون بها أجسامهم ويصدون قطع الحجارة التي كان المتظاهرون يقتلعونها من أحواض الأشجار المصطفة على الرصيف يكسرونها ويرمون بها تجاه رجال الأمن، ورجال الأمن لا يفعلون غير أن يتقون بدروعهم الحجارة يحمون بها وجوههم وأجسادهم.. وهم واقفون دون حراك.
لم نر خراطيم المياه تغمر المتظاهرين ولم نر غازات مسيلة للدموع ترش عليهم.. ولم نلمح سلاحاً بايديهم، فقط حركة الدروع في ايديهم يحركونها وفق حركة الحجارة التي تلقى عليهم.
ذات مساء ذهبنا مع الأصدقاء الى الحي اللاتيني مركز التظاهر للاطلاع.. كانت الشوارع مليئة بالحجارة وكان عمال البلدية ينظفون الشوارع ويعيدون رصف قواعد الاشجار التي خُرِبتْ، ومن بعيد سمعنا صوت الطلبة داخل السوربون ينشدون النشيد الوطني هيا يا ابناء الوطن.. يومُ النصرِ قادم .. دخلنا السوربون ورأينا احتشاد الطلبة هناك.. يعتصمون داخل قاعات السوربون طوال الليل.
الحياة لم تتغير تقريباً، اصحاب محلات بيع المواد الغذائية صاروا يبيعون بالتقنين يسألونك كم عدد أسرتك ويعطونك ما يكفي، فإن اعترضب يطلبون اليك أن تعود في الغد لتأخذ مثلها.
وأذيع أن الجنرال ديكول ــ وكان اذاّك رئيساً للجمهورية سيوجه خطاباً الى الشعب الفرنسي، هدأت الأحوال في انتظار الخطاب. والقى ديكول كلمته.. كانت طويلة لا زلت أتذكر محطتين منها الأولى قال فيها ما الذي استطيع فعله لارضاء شعب عنده من الأجبان 350 نوعاً واحسسنا وكأنها عتاب.
أما المحطة الثانية فقد أٌستشهد الجنرال ديكول ببيت شعر لشاعر عربي من الجاهلية مترجم الى الفرنسية وكان ديكول معروفاً بأنه مطلع على الآداب العربية
ان الثمانيـــــــن وبُلغتها قد أحوجتْ سمعي الى ترجمانِ
وتقول الرواية إن الشاعر واسمه عوف بن ملحم الشيباني كان يمر ذات يوم في الطريق فالتقى بأمير المنطقة وأسمه عبدالله بن الطاهر، فسلم الأمير عليه مرة ومرتين لكن الشاعر لم يرد عليه السلام حتى نبهوه بأن الأمير يسلم عليه، فارتجل هذين البيتين
يا ابن الذي دان له المشرقان طــراً وقـد دان له المغربـــــانِ
انّ الثمانيـــــــن اعتذر من الأمير لعدم سماعه السلام.. والجنرال ديكول بدوره يعتذر من الجماهير لعدم سماعه ما يطلبون وهو بهذه السن المتقدمة، وقد بلغ الثمانين..
وأخيراً تقرر أن يُجرى استفتاء في فرنسا بينه وبين رئيس وزرائه بعد حصول خلاف في وجهات النظر مع مجلس النواب حول حلّ الأزمة، وفي الاستفتاء حصل ديكول على 47 من الاصوات وحصل رئيس وزرائه جورج بومبيدو على 52 . وهزم الجنرال ديكول الذي له الفضل الكبير على بلاده حيث كان مسؤول المقاومة حين احتل الألمان فرنسا في الحرب العالمية الثانية، وكان يدير المقاومة من انكلترا.. وقبل ايام ومصادفة كنتُ أتابع برنامجاً من الـ BBC بعنوان ذاكرة اذاعة .. كان يقدم شخصيات عربية مهمة أسمعونا اصواتهم وذُكر الجنرال ديكول قائلاً إنه كان يدير المقاومة أثناء الاحتلال الألماني من اذاعة لندن.. وقال المقدم إن بعض الكلمات كانت غير مفهومة . وهذا من الطبيعي فقد كانت بالتأكيد شِفرة بينه وبين قادة المقاومة في فرنسا.
ولا ننسى الكلمة التي قالها ديكول العظيم وهو يخاطب الشعب الجزائري، اذ قال لقد فهمتكم .. وأٌُستقلت الجزائر في عهده بعد أن أعطت مليون ونصف المليون من الشهداء..
ماذا فعل ديكول العظيم بعد أن خَسِرَ في الاستفتاء؟ هل تشبث بالحكم؟ وقال لن أتنحى؟ بل قال وهو ينحني أنحني لمجد فرنسا وانسحب الى عزلته احتراماً لمشيئة الشعب. توفي ديكول العام 1970. وكان من المفترض أن يدفن في مقبرة العظماء البانتيون كما كان مقرراً، لكنه أوصى أن يدفن في قريته والى جانب ابنته التي كانت مريضة فقد ولدت طفلة منغولية وكان متعلقاً بها. والأطفال المنغول معروفون بأنهم يكونون لطفاء ومحبوبين ولا يعيشون طويلاً كما أوصى بعدم السير خلف جنازته من الوزراء والمسؤولين.
/4/2012 Issue 4179 – Date 21 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4179 التاريخ 21»4»2012
AZP20