زمان جديد بطاقة طائرة لجدي

زمان جديد بطاقة طائرة لجدي
كرم يوسف
ركب الطائرة لمرة واحدة حين حجّ مكة، ولم يكن في قائمة أحلامه أن يركب الطائرة يوماً آخر، فما من وجهة لديه يسافر اليها ليحتاج الى طائرة، وكل وجهاته هي منزل بناته الأربع التي أبعدها تستدعي سيارة أجرة، هذه أبرز صفة لجدي التسعيني، بالاضافة الى أنه أغرب شخص عرفته في حياتي، وهو يرتب ليكون يوم رحيله على نفقته، ولا يضايق ابنه الوحيد بها، أكثر من مرة كشفت مخبأ نقوده تلك، والتي كان سعيداً بأنه لا يضطر لاستخدامها مهما اشتدت الحاجة اليها، ذاكرته دائماً كانت مليئة بالأسئلة عن أحوالنا، ومن الصعب أن تنتهي زيارة اليه الا ويسأل زائره عن آخر موضوع أخبره به في المرة التي سبقت هذه الزيارة، بالطبع ماكان ليسأل ليبرهن أن ذاكرته لا تزال جيدة، بل لأن كل ما كان يكلم به زائره هو هذه الأسئلة، أو أنها وحدها كل ما يملكه من حديث. في عكازه الذي استخدمه منذ عرفته الكثير من كبريائه، فبه كان ينهض، ويرفض أي يد تمد اليه، لتساعده في الوقوف، مبدياً انزعاجه من كل من يحاول أن يساعده في النهوض، ليس هو الوحيد من وصل الى ذلك العمر، فكثيرون كبروه، لكن من كل الذين كبروا وكانوا قريبين نسلياً، الي في حياتي كان هو.
بالرغم من قربه ذاك مني لم أسمع من قصصه الا القليل، لست أدري للآن أكان لا يملك بحق قصصاً، يحكيها على مسامعنا، أم أنها كانت قليلة، أم انتهى زمن سردها حين أصبحت في عمر مؤهل لفهمها وتذكرها؟ أحبَّ الوحدة والصمت كثيراً، حتى قبل أن تسبقه جدتي في الوفاة، فإنها كانت تخبرني بأنه طوال الوقت صامت لا يتكلم الا ليجيب عن سؤال، ولم أصل يوماً الى جسر تمر عيناه الشاردتان فوقهما، أو ألتقي على ذلك الجسر بأشخاص يتذكرهم في شروده ذاك، لفك سرّ عينيه الهاربتين من غرفته دائماً، لنكمل ــ نحن زائروه ــ لمرات كثيرة أحاديثنا بعد أن ينسحب هو منها معانقاً الصمت من كل الجهات، ومسلماً يديه لسبَّحته لا العكس، ويزيد من حدود مملكة شروده، كل ذلك الصمت ما كان ليمنع لسانه أن يطلب من أمي بعد وفاة جدتي أن تزوره لتقاسمه غرفته في شيء من حنينها، لا شك أن وفاة جدتي كشفت له أن وجودها لم يكن موضوعاً لا جدوى منه وهي تقاسمه مكانه المهجور من أخبار العالم.
كان يسعد كثيراً بالأخبار التي أسردها له عما يصير في سوريا والعالم، وكأن أخبار الأرض كانت تتوقف، حين أغادر غرفته، ولا تتجدد الا في زيارة أخرى لي الى غرفته بعد عدة أيام، حين كنت أقص له خبراً عن مصر كان يقول هذا البلد ذكر في القرآن، وكأن جغرافيا العالم عنده هي الأمكنة التي ذكرت في القرآن اذ لا مكان للجغرافيا عنده الاها.
ما كان جدي ليعرف الجلوس بعد تعب المشي في زياراته لبناته الا ورجلاه ممددتان، ولكن قبل أيام تمدد هو بكل جسده، ويذكر من كان حاضراً الى جواره في تلك اللحظات بالمكان الذي خبأ فيه نقوده، لتصرف على عزائه، ولأخسر مع موته آخر انسان ارتبط به سلالياً، بهذا العمر، وهو ما أوقظ فيّ احساس اليتم من هذه الجهة.
AZP20

مشاركة