زرقاء اليمامة بين قوة البصر وعمق البصيرة

زرقاء اليمامة بين قوة البصر وعمق البصيرة

سمارة موفق ابراهيم

بين ذكريات الطفولة وركام الماضي لمع اسمها في الأذهان, فكانت مضرب للأمثال لمن كان يمتلك نظر خارق, يقال له “أبصر من زرقاء اليمامة”…لكن اغلب من يسمع قصتها يظن انها خرافة من وحي الخيال, وان لا صحة لوجود شخصية حقيقية تمتلك قدرة النظر لمسافات بعيدة, لذلك ضاع اسمها بين كتب التأريخ وفقدت هويتها فمن تكون صاحبة النظر الثاقب؟ وهل هي شخصية حقيقية ام مجرد خرافة وقصة تناقلتها الأجيال..؟

زرقاء اليمامة

اسمها عنزة بن لقمان بن عاد, يعود أصلها إلى مدينة “جو” والى قبيلة جديس تحديداً وهي أحدى القبائل العربية البائدة المنسوبة الى لاوذ بن إرام بن سام بن نوح, تعتبر قبيلة جديس قبيلة ذات جاه ونفوذ وتبعد 30 كم شمال الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية, وهي جزء من اقليم نجد وسط الجزيرة العربية, وقد كان لهم قصور شامخة وحدائق وبساتين متعددة الثمار, وقد عاشت زرقاء اليمامة في الحقبة الزمنية التي كثرت فيها الخرافات والأقاويل, فترة ما قبل الأسلام, وقد حدد المؤرخون الزمن الذي عاشت فيه, وهو القرن العاشر قبل الهجرة, اما المستشرقين حددوا الفترة الزمنية بـ (250) قبل الميلاد, واغلب الظن انها عاشت قبل هذه الفترة الزمنية بكثير, حتى ان بعض الكتاب قالوا عنها انها يهودية ولكن لايوجد ما يثبت صحة أقوالهم.

تشير بعض الروايات الى ان زرقاء اليمامة قد عاشت في زمن الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وهذا ما تم نفية من قبل  جميع المؤرخين والمستشرقين , وأكدوا الى ان هناك فرق زمني كبير بين الحقبة الزمنية التي عاشت فيها زرقاء اليمامة والحقبة التي عاش بها الرسول محمد (ص) .

لماذا سميت بزرقاء اليمامة

أختلف المؤرخون حول اسم زرقاء اليمامة, فمنهم من قال ان تسمية زرقاء جاءت نسبة للزرقة في عينها واتساعها ونظرها الثاقب, اما لقب”اليمامة” فهو نسبة لأسم قبيلة اليمامة التي تنتمي لها, وقد قال البعض الأخر ان اسم “اليمامة” اطلق عليها لحظة ولادتها وقد سُميت القبيلة على اسمها فيما بعد, وذلك بعد ذاع صيتها بين القبائل العربية.

 بينما قال البعض الاخر ان لقبها زرقاء اليمامة ؛ كان نسبة لمادة ” الأثمد” (وهو حجر اسود يطحن ويستخدم مسحوقه لتكحيل النساء وكذلك الرجال), وقد كانت زرقاء اليمامة تدقه وتطحنه وتتكحل به, ومن يومها اطلق عليها زرقاء اليمامة نسبة الى الزرقة المتكونة في عينها من الأثمد, وان لقب اليمامة جاء نسبة الى ان مدينتها “جو” كان تقع على سهل فسيح واسع وقد اطلق عليه اسم اليمامة نسبة لأتساعه.

اشتهرت زرقاء اليمامة ببصرها الحاد ورؤيتها البعيدة المدى, حتى انها كانت ترى الشعرة البيضاء في اللبن وترى السيارة (الاشخاص الذين يسيرون بالصحراء) على بعد ثلاث ايام قبل قدومهم فتنذر قومها بقدومهم, وقد استخدمها قومها لأغراض عسكرية حيث انها كانت تنذر قومها بمجيء الأعداء فيستعدوا لقتالهم, ولاسيما ان المدينة التي تعيش فيها عالية تسهل عليها رؤية الأشياء البعيدة.

بدأت شهرتها في مدينتها فحصلت على حيز كبير من محبة الناس واصبحت لها اهمية كبيرة في معرفة الاعداء وتحذير قبليتها حتى لا يتم الاعتداء عليهم من قبل القبائل الاخرى, حتى الاعداء باتوا يخافون منها .

حروب كثيرة

اكثر ما يؤكد ان زرقاء اليمامة شخصية واقعية انه قد تم ذكرها في العدد من كتب التأريخ  وقد وصفها العديد من الكتاب في كتبهم على انها شخصية لها تأثير واضح ومحبب في قبيلتها, وقد ساهمت بشكل فعال في منع الهجوم على قومها في حروب كثيرة .

من اهم الكتاب والشعراء الذين وصفوها:

–           ابو الطيب المتنبي الذي قال عنها :

أبصر من زرقاء جو لأنني..

إذا نظرت عيناي ساواهما علمي

–           النابغة الذبياني الذي قال في مدح زرقاء اليمامة وهو يخاطب النعمان:

واحكم كحكم فتاة الحي إذا نظرت … إلى حمام سراع وارد الثمدِ

يحفه جانبا نيق وتتبعه … مثل الزجاجة لم تكحل من الرمدِ

قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا … إلى حمامتنا أو نصفه فقدِ

فحسبوه فألفوه كما ذكرت … تسعا وتسعين لم ينقص ولم يزدِ

فكملت مائة منها حمامتها … واسرعت حسبة في ذلك العددِ

–           وورد ذكرها في كتاب الأغاني لأبي فرج الإصفهاني: ان قوما من العرب غزوا اليمامة, فلما اقتربوا من مسافة نظرها خشوا أن تكتشف الزرقاء أمرهم, فأجمع رأيهم على أن يقتلعوا شجرات تسير كل شجرة منها الفارس إذا حملها, فأشرفت الزرقاء كما كانت تفعل.

–  وفي كتاب “العقد الفريد” للشاعر والأديب الأندلسي ابن عبد ربه الذي كتب عنها ان اسمها عنز وسميت زرقاء اليمامة نظراً لأمتلاكها لعينين زرقاوين حادتي النظر

– يقال بأن زرقاء اليمامة من بنات لقمان بن عاد وفقاً لما يخبرنا به أبو القاسم الزمخشري في كتابه “المستقصى في أمثال العرب”

–  صنف المؤرخ العراقي الشهير “جواد علي” في كتابه (المفصل في تأريخ العرب قبل الأسلام) قبيلتا  جديس والطسم ضمن القبائل العربية البائدة, وقد استند في كتابه على ما وصفه ابن الحائك في كتابه” صفة جزيرة العرب” الى جانب الروايات التي نقلها الجغرافيين والرحالة اليونانيين القدماء.

–  ذكرها الكاتب عبد القادر البغدادي في كتاب(خزانة الأدب) وتحدث عن اشعارها بشكل مفصل وعن سبب الحروب التي نشبت وتسببت بقتل زرقاء اليمامة.

 من كتاب آثار البلاد وأخبار العباد للقزوريني تحدث عنها قائلاً:-

«زرقاء اليمامة، كانت ترى الشخص من مسيرة ثلاثة ايام ،ولما سار حسان نحو جديس قال له رياح بن مرة: أيها الملك إن لي أختاً مزوجة في جديس واسمها الزرقاء، وانها زرقاء ترى الشخص من مسيرة يوم وليلة، أخاف أن ترانا فتنذر القوم بنا. فمر أصحابك ليقطعوا أغصان الأشجار وتستروا بها لتشبهوا على اليمامة. وساروا بالليل فقال الملك: وفي الليل أيضاً ? فقال: نعم ! ان بصرها بالليل أنفذ ! فأمر الملك أصحابه أن يفعلوا ذلك، فلما دنوا من اليمامة ليلاً نظرت الزرقاء وقالت: يا آل جديس سارت إليكم الشجراء وجاءتكم أوائل خيل حِمْيَر. فكذبوها فأنشأت تقول:

خذوا خذوا حذركم يا قوم ينفعكم * * * فليس ما قد أرى مل أمر يحتقر

إني أرى شجراً من خلفها بشـرٌ* * * لأمرٍ اجتمع الأقوام والشّـجـر

فلما دهمهم حسان قال لها: ماذا رأيت ? قالت: الشجر خلفها بشر ! فأمر بقلع عينيها وصلبها على باب جو، وكانت المدينة قبل هذا تسمى جواً، فسماها تبع اليمامة وقال:

وسمّيت جوّاً باليمـامة بـعـدمـا* * * تركت عيوناً بالـيمـامة هـمّـلا»

ديوانها الشعري

لها ديوان شعري فيه اهم القصائد التي تم نقلها من كتب الجاهلية, وهذا دليل اخر يؤكد انها عاشت في عصر قبل الأسلام وانها لم تلتقي بالرسول (ص)

اكثر القصائد اهمية جاء فيها:

خُذوا حِذاركم يا قومُ يَنفعكم

فَليسَ ما قَد أرى بالأمرِ يحتقرُ

إنّي أَرى شَجراً مِن خلفها بشرٌ

وَكيفَ تَجتمعُ الأشجار والبشرُ

ثوروا بِأَجمعكم في وجهِ أوّلهم

فَإنّ ذلكَ مِنكم فَاِعلموا ظفرُ

ضمّوا طَوائفكم مِن قبل داهيةٍ

مِنَ الأمورِ الَتي تُخشى وتنتظرُ

فغوّروا كلّ ماء قبل ثالثةٍ

فَلَيس مِن بعده وردٌ ولا صدرُ

وَعاجِلوا القومَ عندَ الليلِ إِذ رَقدوا

وَلا تَخافوا لَهم حَرباً وإن كثروا

 تعد قصيدة (خذوا حذركم) هي الأشهر على الاطلاق, ففي هذه القصيدة حذرت قومها من هجوم العدو عليهم, وطلبت منهم ان يثوروا وان يأخذوا الأمر على محمل الجد, ولكن على الرغم من تحذيرها لهم الا انهم استهزؤوا بها, ولاسيما انها كانت تصف لهم ان هناك اشجار تمشي ويمشي خلفها البشر وهذا الامر لايصدق ابد, حتى ان زرقاء اليمامة قد وضعت خطة محكمة لهم ولو انهم تبعوها ماكانوا هزموا, لكن قومها اهملوا كلامها فوقعوا في فخ العدو .

ثم جائت قصيدة (ليت الحمام)

لَيتَ الحمامَ ليه

ونِصفهُ قَديه

إِلى حمامتيه

تمّ الحمامُ مِيَه

المقصود بهذه الابيات؛ بما ان زرقاء اليمامة كانت ثاقبة البصر ولديها حدس لا يخيبها, فهي كانت عندما تنظر الى السماء ترى سرب الحمام  وتعدهم وفي يوم نزل سرب الحمام ليشرب فأحصت عددهم فكان مجموعهم (66) حمامة فأنشدت؛ ليت لي سرب حمام وعدده (66) ونصفه فدية يكون العدد ( 33) وحمامتها التي كانت تملكها عددها (1) وبهذا يكون المجموع(100) حمامة .

كيف ماتت زرقاء اليمامة

سكنت مدينة جو التي كانت تقع في وسط الجزيرة العربية قبيلتي “جديس وطسم” وهم عماليق (اسم اطلقه العرب على قبائل الكنعانين والأموريين الذين سكنوا الجزيرة العربية, وهم ينتمون لذرية عمليق بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح), وقد كان معروف بشدة ظلمه وإذلاله لقبيلة طسم  حتى انه أمر ان لاتزف اي أمراة من جديس إلى زوجها الإ بعد ان تدخل عليه, وقد كانوا كثيرين الخلاف حول من يحكم المدينة ومن القيبلة الاقوى وقد كانت زرقاء اليمامة تنتمي لقبيلة جديس وتساعدهم في كافة حروبهم, ويرجع اليها الفضل الأكبر في نصرة قبيلتها على اي قبيلة اخرى تعتدي عليهم, وفي مرة قرر ملك قبيلة طسم فقرر ارسال جيش الى جديس لغزوها وقتل كل من فيها ولكنه كان خائفا من الهلاك ولاسيما بعد ان وصل له خبر ان هناك فتاة قوية تدعى عنزة خارقة البصر وتستطيع ان ترى لمدى بعيد, فكان لابد ان يعد العدة ويضع خطة محكمة حتى لا تراهم وتحذر قومها فيستعدوا لها, فكانت خطته ان يقطع الاشجار وان يسيروا جيشه خلف تلك الاشجار من اجل الأحتيال على زرقاء اليمامة وان يكون سيرهم في دياجير الليل, لكن فيما بعد سمع الملك “ان زرقاء اليمامة نظرها اقوى في الليل”, ومع ذلك لم يهتم لما سمعه وقد قرر الملك السير في الليل والأختباء خلف الأشجار لحين وصول جديس.

طلب المساعدة

وما ان عرف قوم “جديس” ان قوم “طسم” يريدون الهجوم عليهم طلبوا من زرقاء اليمامة مساعدتهم وذلك بالوقوف على الربوة والنظر لرؤية جيش الأعداء وعدده حتى يستعدوا لقتالهم, لكن زرقاء اليمامة كانت تلمح شيئاً غريب من بعيد, حيث انها كانت ترى اشجار تسير فقالت لقومها: يا آل جديس لقد سارت إليكم الأشجار, وأتتكم أوائل خيل حمير (جيش الأعداء), فما كان جواب قومها إلا أن كذبوها وسخروا منها, ونتيجة لذلك أتتهم جيوش الأعداء وفاجأتهم, ثم دخلوا الى المدينة دون اي مقاومة وغلبوهم ثم امسكوا بزرقاء اليمامة, وما ان امسكوها اخذوها للملك فسألها ملك الأعداء ماذا رأيتي؟ فقالت: رأيت الشجر خلفها بشر, وهذا الامر ادى الى استياء الملك فأمر بصلبها على ابواب المدينة وقلع عينها من شدة خوفها منها, وبالفعل تم صلبها واقتلاع عينها فوجدوا ان عينها مليئة بالأثمد, وبعد ايام من صلبها ماتت زرقاء اليمامة.تعتبر قصة زرقاء اليمامة القصة الأكثر ثأثيراً في التأريخ العربي, حيث ان هذه الفتاة كانت معجزة حقيقة ولم تكن خرافة بل واقع وحاضر بقوة في كثير من كتب التأريخ وشخصية مهمة تحدث عنها كم كبير من الشعراء والكتاب, لذلك من الظلم ان نعتبرها شخصية خرافية وان نهمش دورها في مساعدة قومها, وان نقف حائرين امام حقيقة وجودها ونحن نملك الكثير من الأدلة على حقيقة وجودها ودورها.

المصادر:

 المفصل في تأريخ العرب قبل الاسلام/ جواد علي

المستقصى في امثال العرب للزمخشري

المختصر في اخبار البشر لأبي فداء

أخبار الزمان للمسعودي

معجم البلدان / ياقوت الحموي

خزانة الأدب / عبد القادر البغدادي

قصة زرقاء اليمامة وقصتي عن خروجها/ فاروق مواسي

مشاركة