رواية تقرأ صراعات التنوع

رواية تقرأ صراعات التنوع
برهان الخطيب واحتمالات الهجرات
صالح الرزوق
يمكن تجسيد الواقع ببعدين بالرسم، طول وعرض، كما في أفلام الكرتون، ويمكن ذلك بثلاثة أبعاد كما في السينما المعاصرة، إظهار الكتلة بإضافة العمق، والبعد الرابع المقصود هنا إضافة الفكرة إلى الصورة، واقعية، سوريالية، انطباعية.. وهو ما يلعب عليه برهان الخطيب بعيدا في عمله الإبداعي الروائي الصادر قبل أيام..
تندرج رواية برهان الخطيب الأخيرة أخبار آخر الهجرات ، الصادرة عن دار نوافذ القاهرية، في مقدمة الحملة التي بدأت منذ نهايات القرن التاسع عشر والتي دشنها مفكرون عرب شدوا الرحال نحو الغرب وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوي، ثم من بعده أدباء كانت لديهم برامجهم وخططهم، منهم عبدالسلام العجيلي الذي تعامل بطريقة سياحية مع مجتمعات غريبة الوجه واللسان كما يقول المتنبي في قصيدته عن شعب بوان وسهيل إدريس الذي اختصر المشكلة في قصص حب عاطفية ملتهبة، أقل ما يقال عنها إنها ضمادة لروح ضعيفة و عرضة للإنجراح.
برهان الخطيب يقف وسط الطريق بين شتى الاحتمالات والأفكار، عند الحد الفاصل بين افتراضات هي دلالات اجتماعية ووقائع هي دال ثقافي وحضاري. وعن هذه الظاهرة يقول كم نحن نعاني من توزع الأهواء بين الشرق والغرب، وكم نعاني من الصراع بين القديم والجديد ص 178 . و من جراء ذلك يختار لروايته شكل لوحات قصصية تدور أحداثها في إطار واحد، ويقوم بتبويب أحداثها الغزيرة في عالم من المصادمات والمفاجآت، كما هو الحال في الفانتازيا الشرقية المعروفة ألف ليلة وليلة . وبكل تأكيد كانت ألف ليلة تعمل في خلفية هذا النص، وقد ورد اسم كل من شهرزاد وشهريار عدة مرات ص 39 وما بعد . وهكذا تحول الجو النفسي المصدوم بقسوة الحياة والواقع إلى فضاء من الذكريات. وهذا قدم له فرصة ذهبية لتوظيف تيار الشعور على مستوى الشكل الفني وليس الحدث. وقد تطوع تلقائيا لوصف ذلك بقوله إنها حالة سريالية نادرة من كاتب بمنتهى الواقعية ص 92 . وبذلك حقق لنفسه ولموضوعه شرط التحرر من القيود والقناعات المسبقة التي أسدلت على كل أعمال الرواد قدرا من الغموض والالتباس.
ولئن برر هذه الحالة بقوله إنه يبحث عن الصحيح الضائع ص 80 فقد قال أيضا وعقدة الذنب تثقل على ضميره إن عبور الحدود آثم أحيانا ص 76 .
لقد واجه برهان الخطيب في هذا النص المفتوح والمتميز عدة إشكالات أهمها 1 التجربة الحضارية للمشرق، و2 الأدوات الغربية المنتجة لأخلاق وسلوكيات الحداثة، ثم 3 تراكيب لغة الضاد واسعة الأفق.
وبهذا الخصوص يمكن النظر إليه كرجل تنوير بلا عمامة. رجل تنوير من خارج حركة المشايخ التي اهتمت أصلا بهموم المعرفة الحضارية، بشؤون العمران والصناعة وفلسفة الأفكار. فقد كان من رعيل النهضة الثانية، النهضة المدعومة بعسكرتاريا وطنية مهدت للدخول في تنوير اجتماع حضاري وسوسيولوجي. تنوير نظري. يعمل على التوفيق والتآخي بين الأضداد. ولذلك لم يكن أمامه إلا الخروج من معطف كبلنغ تقريبا مثلما خرجت القصة الروسية من معطف غوغول. لقد اضطر لأن يتحول إلى ما يشبه خلية نائمة ولكن في حقل المستعمر السابق. ولماذا لا نقول حقل الاستشراق الغربي الذي نعلم جميعا أنه مسؤول عن تصدير صورة الشرق بقدر غير قليل من المبالغات والتحريف. ولا أعتقد أن أحدا يمكنه التعبير عن طبيعة هذه المشكلة أفضل من الكاتب نفسه بقوله الأقوى من ينتصر وليس الأفضل حتما ص 178 .
ومع أن أبطال هذه الرواية لم يكونوا دونجوانات يغزون غرف النوم في فنادق خمس نجوم، أو إذا كنت متواضعا في غرف المدن الجامعية، لم يتأخروا عن النظر للمرأة بصورة حصان بحاجة لفارس ص 40 . وهذا لئن ذكرنا بشيء فهو يذكر بعبارة عبد السلام العجيلي في قصته المعروفة ثلاث رسائل أوروبية التي قال فيها بلغة تنقط منها مفردات جنسانية فاضحة إن أجساد النساء والجياد سواء.
وبضوء ذلك يمكن أن نرى لماذا قال إبراهيم في القسم الأول من الرواية أن لا لقاء بين شرق وغرب ص 25 وكأنه لسان حال كبلنغ ذاته، لاحقا يتضح نقيضه، ولماذا قالت إيفا بنفس اللهجة نحن عقلانيون، هم عاطفيون. نحن واقعيون وهم حالمون ص 29 وكأنها تقتبس من هيغل مقولته عن الطابع اللارمزي للمذاهب الشرقية باعتبار أنها لا تفهم مآثر البشر بل تدركها من وجهة نظر المطلق، لكنها هي أيضا في النهاية تقع في فخ الهوى مغيّر الأفكار والمصائر.
لهذا السبب فضل برهان الخطيب أن لا يقولب فصول روايته، وأن لا يفتحها على المطلق، بمعنى أنه وضعها في بؤرة الجدل المحتدم حول طبيعة الهوية والانتماء. وذلك ينسحب أيضا على جدل حدود الجنس الفني والوطني.. لمن ينتسب النص، للرواية أم للقصة. ولمن ينتسب الأشخاص لمسقط الرأس أم لمكان الإقامة.
وفضل أيضا أن يفرزها على أساس مكاني. ما يجري في الغربة أولا. ثم ما يجري على أرض الوطن ثانيا. وثالثا.. حيث لا ديرة، أي الدخول إلى فضاء المطلق، وهكذا تحول المكان إلى جزء لا يتجزأ من الشخصية الفنية. وكل ما تبقى كان يحدث في فضاء محايد لا نعرف عنه الكثير أو أنه terra incognita أو حيث لا توجد مدينة كما قال ص 290 . وهو نفسه الفضاء الذي يوفر لنا فرصة الانتباه لوحدة الحضارة العالمية، وفرصة الانتباه لمصير ومأساة الإنسان الشرقي الذي تضربه المطارق من كل اتجاه دون أن يغفل عن أهمية النظر للخاص من زاوية العام كما ورد في رسالة شخصية بتاريخ 22 9 2012 . وهذا في الوتقع إعادة تأكيد أو لنقل إعادة صياغة لعبارة وردت في الرواية مفادها للعام غلبة على الخاص في أوقات المحن ص 92 . وقد ترافق ذلك مع نقد لاذع الغاية منه هجاء المجتمع المفقود. وهذا يمكن أن نقرأه بإبدال رمزي بسيط على أنه هجاء لوطن مكبل يخسر موضعه داخل لعبة الحضارة الحديثة، وبتعبير فني ومقنن هجاء لوطن أصبح موضوعا بلا صفات.
لقد اضطر الشكل الفني للرواية أن يكون صداميا أيضا بالتوازي مع موضوعاته.
أليس هو رواية وإنما تتألف من مجموعة قصص يربطها أسلوب الكاتب وتجربته النفسية ورؤيته لجوهر ومغزى الفن.
أليس هو صورة أخرى من الوضع الوجودي لمشكلة ألف ليلة وليلة.. باعتبار أنها ناطقة باللغة العربية ولكن بالنيابة عن لسان حال الضمير الجمعي لشعوب المشرق جمعاء.
وأخيرا ألا يعكس الراوي المهاجر مشكلة شهرزاد التي تخترع حكاياتها أو بالأحرى تقترضها من غريزة البقاء والدفاع عن الذات لتعبر عن واقع الهزيمة بمنطق استعلائي ونخبوي يحول الخسارة إلى أحجية أو لغز وبلغته إلى ضباب ونسيان هو صورة حقيقية عن الواقع كما يراه ص 178 .
وإذا كانت الأداة الأساسية في الاستشراق الفني هي الإفراط في الزخرفة، ولنأخذ هذه العبارة بمعانيها الرمزية، فهي تدل على تضخيم وتجسيم كل ما هو غريب وبدائي ويربط الإنسان بفجر البشرية، فقد اختار برهان الخطيب أن ينظر للمسألة بالمقلوب، على أنها فراغ وجودي ويمكن التقليل من خطورته بالتقليل من شأنه وبالتهكم عليه. أو بالمرح والمجاملة التي تخفي وراءها أحزانا دفينة ص 45 . وهو ما ندعوه بأسلوب النكتة السوداء. فشر البلية ما يضحك. لكنه لا يساوي بين المآقي الدامعة وابتسامات الرياء والمداهنة، وبين المشاعر الجنسية ومشاعر التعاطف الإنساني والتآزر وبهذا المعنى يقول يوسف أحد الشخصيات المهاجرة إن الحب قائم على الكبت. والحياة كلها كذبة كبيرة ص 38 .
ولطالما لجأ أهل المشرق بواسطة هذا المنطق التحولي لمواجهة مشاكلهم. و كما قال هيغل عزوا قيمة عامة إلى ما ليس له سوى قيمة نسبية. وأذكر هنا قصص تشيخوف وعزيز نيسين التي رسمت لوحة شديدة التهكم لمجتمع دخل في مرحلة تآكل الطبقات، وموت طبقة لمصلحة طبقة أخرى. وأضيف أعمال الإيراني عراج بيزيشيكزاد Iraj Pezeshkzad مؤلف خالي نابليون الذي تخصص في تفسير العلاقة المحرجة بين الدين والمشاعر القومية.
AZP09

مشاركة