رواية أحمر أفضل من ميت – حيدر علي الاسدي

 رواية أحمر أفضل من ميت – حيدر علي الاسدي

محلية الإمكنة وسط حكاية ممتعةاحرص دائما على قراءة المنتج السردي للاديب البصري المبدع (احمد إبراهيم السعد) وهذه المرة ستكون لي وقفة نقدية مع روايته الجديدة ( احمر افضل من ميت)(1) الصادرة عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق 2022 ? وهي من نوع الروايات التي تنتج عبر سمات السرد مابعد الحداثي او روايات ما بعد الحداثة ، لما تشتمله على العديد من التمظهرات في بنيتها ، ليس ابتداءً بموضوع التداخل الاجناسي ضمن تأثيث فضاءاته السردية ( شعر ، قصة قصيرة ، مقولات وحكم كما في اعتقاد ص29 ومقولة نيتشه ص 99  والاغنية البوذية ص103 وقصة حضور امه الى بغداد وحادث جامعة المستنصرية وكذلك قصة سيمون التي كتبها وطلب رأي وسيم نعمان الموسومة “عباس سيمون وسيمون عباس ص86” قصيدة البحتري ص 55  قصيدة عبدالرزاق عبدالواحد ص64 ولا ادري لماذا اهمل المؤلف ذكر اسم شاعر قصيدة لا تطرق الباب كما فعل مع البحتري، والرسائل كذلك كما في رسالة جيسكيا ذات المدلول البلاغي ص99 او حتى بالأسلوب المقالي كما في وصف معنى البتاوين ص111 او شرح الدال والمدلول ص114 او بطريقة ممسرحة كما في مشهد تحرك سيمون بالغرفة كممثل مونودراما يستشعر وحدته المسرحية في انصهار ابداعي مع النص والشخصية…..ودار حول نفسه وهو يشتم القدر الذي عرفني به ص124) وكل ما ورد يدل على عبور اجناسي وانفتاح وتغذي السرد الروائي من اجناس وأنواع أخرى لزيادة متعة السرد وجمالياته مابعد الحداثوية، بوصف الرواية الجنس الادبي الأكثر تغذياً من الاجناس الأخرى والأكثر انفتاحاً وتعايشاً او كما في اعتماد الزمن النفسي في بناء مصفوفاته السردية وعبور كرونولوجية الزمن عبر تنقلات افتراضية كاشفة عن مدلول العامل السيكولوجي لشخصيات هذه الرواية ، انها رواية من النوع الذي يرتكز على التشويق في ثيمه الفرعية لتتأزم مع الثيمة المركزية التي سعى الراوي لصناعتها في ذهن المتلقي ، رغم الكم الكبير للايماءات والشفرات التي أوردها صانع العمل في ثنايا هذه الرواية التي تدين بقلم مأزوم كل سلط القتل المجاني والعبث الفوضوي، فهو يؤشر مكامن الألم والجرح بشيفرة حادة لا يمكن معها التوقف والاسترجاع بل نتلقى هذا الألم (كمعلومة سردية عابرة او وصفية جمالية ضمن مكملات البناء السردي…يمررها المؤلف ببراعة وذكاء) وهو صناعة ذكية للهروب من مقصلة الرقيب ، رغم التصريح المباشر بعض الأحيان ضمن نقده (ثلاثية التابو) المهيمن على هذا الخراب .

رائحة البارود

انا وصفتها بانها رواية حرب لم تشم خلالها رائحة بارود او عطر بُسْطَال جندي مرابط على جبهات القتال منذ أسابيع! ان الراوي هنا في معرض بنائه السردي مصوراً يصنع حدثه عبر نافذة (زمنية) وعلى وفق بنية الخطاب السردي ونسيجها المكون لتفاعلات (راوٍ ومروي ومروي له) (وسيم –احمر افضل من ميت- عابد +سيمون) هل تلاعب السعد بخطاطات المتن والمبنى في مكونات سردياته هذه ؟ يرى الدكتور حميد الحمداني في كتابه (بنية النص السردي) بان السرد الكيفية التي من خلالها تروي الرواية عن طريق هذه المكونات بحيث يكون الراوي هو المرسل وهذا الراوي ماهو الا شخصية من ورق على حد تعبير (رولان بارت) فكان في رواية ( احمر افضل من ميت) (وسيم) بامتياز كائن ورقي يكاد يختلط عند قارئه مع شخصية (المؤلف/ صانع النص من لحم ودم) فالمتن الحكائي عبارة عن أحداث تنجزها الشخصيات في فضاء ما، بينما يرتكز المبنى الحكائي على الصياغة ( وسيم مرة أخرى) هو صانع الاحداث ، هل أراد منا المؤلف ان نفصله عن شخصياته؟ هل أراد منا المؤلف ان نخلط بين بطله وبينه؟ هل فعل ذلك في تجاربه السردية السابقة؟! احمد إبراهيم سارد ذكي يعرف كيف يرتب أوراقه السردية كمؤثث أولا وكمتلق ثانيا وهنا تكمن أهمية رواياته على المتلقي، رغم انه حاول صناعة احداث صغرى موازية لثيمته المركزية ، اذ يرى بوريس توماشفسكي بأن النص أو العمل الأدبي يتكون من غرض أساسي بارز أو من مجموعة من الأغراض وهي بمثابة أفكار أو ثيمات أو موضوعات، وهو ما لم يشط عنه السعد في بنائه ، ولكن ربط المشاهد السردية ووفقاً لعين ناقدة او متخصصة تشعر بعض الشيء من تدخل الافتعال ذلك وفقاً لمفاهيم جماعة السردية الدلالية التي تعنى بمضمون الأفعال السردية، دونما اهتمام بالسرد الذي يكوّنها، إنما بالمنطق الذي يحكم تعاقب تلك الأفعال والذي يقول بهذا الرأي: بروب، وبريمون، وغريماسكما في ( دخول بلاسم الى المطعم واتصاله- رؤية عابد في بغداد) كما ان الرواية خطت لنفسها زمناً سيكولوجياً ، تتسق حركته مع (الدراما/ بصراعها الداخلي وحسب) وهو ما يغيب أي مظهر للصراع الواقعي الخارجي في هذه الرواية ، ناهيك عن التركيز كثيراً على ماهو جمالي في بناء اغلب أجزاء الرواية ، بما تملك اللغة من (قوة تأثيرية) قد تصل احياناً الى الافراط في التشبيهات الوصفية وبما يملك السرد من خزين قاموسي في التعبير والوصف ، لذا نرى الناقد العربي المختص بالسرديات عبدالملك مرتاض تحدث عن الوصف بالسرد ووصفه بانه احيانا يكون مزعج ومعرقل لنماء السرد واحيانا يفسد متعة السرد بسبب طغيانه على السرد وافقاده خصائصه، وهنا اعود لمرجعية مهمة في هذا الصدد واعني الوظائف اللغوية لدى العالم اللغوي الروسي رومان أوسيبوفيتش جاكوبسون وفكرة هيمنة عنصر او ملمح داخل الجنس الادبي ، والذي قد يحدد وظيفته سواء اكانت (جمالية) او (انفعالية) او (شعرية) او (مرجعية) او غيرها من الوظائف، وهنا تكمن أهمية التركيز على المبنى اللغوي في صناعة الحبكة السردية ، فقد تأخذ المنحى الارسالي برؤى مختلفة عن مقاصد صاحب الرسالة ( المؤلف).هذه الرواية كتبت بمفردات (الخوف) التي لونت فضاء السرد على امتداده فكانت هذه المفردة الأكثر تكراراً مما يولد ايقاعاً نفسياً ودرامياً يتعلق بثيمات هذه المفردة وما الت اليه من انزياح للأحداث ، ابتداء من تشكل العتبة (احمر افضل من ميت) ودلالة ( الأحمر) وما يمثله من ارهاصات تتعلق بالالم والوجع، وكما يقول ارسطو ((الالوان هي السبب الحقيقي لكي تصبح الاشياء مرئية)) (2) فكانت هذه العبارة ثيمة مهمة ومعطى فكري دافع ضمن بناء هذه الرواية ، وهي العبارة التي ظلت مجهولة المعنى حتى الجزء الأخير من الرواية والتي يكمن سرها لدى (عابد) الذي راح يخط على الأشجار والجدران عبارة (احمر افضل من ميت) هذا اللون وما يشكله بموروثنا النقدي والادبي والذي يرمز الى ((الحرب والدمار والنيران وسفك الدماء)) (3) وهو الامر الذي يتعالق تماماً مع متن احداث هذه الرواية ومدلولاته

انتقائية واضحة

، وفي متن هذه الرواية ثمة تهكم كبير وانتقادية واضحة للوضع في الوطن ، هذا الوطن الذي يمثل جغرافياً ( الأكثر اضطراباً في العالم) حتى وان كان يعد هروب (وسيم) انتقال جغرافي من هذا الوطن نحو السويد لكنه انتقال مشوب (بالغربة) وثقل زمنها الفيزيقي وما يمثله من الم جديد لوسيم ، ووسيم لم يكن ناقماً على العالم ووطنه فحسب ، بل كان مقرعاً لذاته ولاعنا نفسه كونه مداح لقائد الموت المجاني او هو ذلك الكاتب الحاصل على لقب كاتب ام المعارك! ((بقيت انتظر احتراق الكتب ولهيبها الذي يشفي غليل الانتقام . رايت في النار المستعرة وجوه ابطالي وهم يتوسلوني ولم اكن رحيماً معهم ونارهم الصادقة تشفي غليل كذبي ، ركبت السيارة وقبل ان اطلب من سيمون الانطلاق الى المطعم قلت : انظر الى ذلك الكذب الذي يحترق بسهولة / الرواية ص105)) والمؤلف ايضا يستخدم الرموز لتكون مداخل مهمة في سرديته هذه (المفتاح ، صندوق+ ، النسور ، أحلام الريش، لوحة العائلة ،القُلق، كراتين الكتب…) وهي مفاتيح مهمة يوظفها الروائي في بناء احداثه وفقاً للمرجعيات الاجتماعية والدلالية لهذه الرموز وما تشكلها في ذاكرة المتلقي اتساقاً مع الحقب الزمنية التي تنقل خلالها السارد سواء ما قبل 2003 او مابعدها ، وتغير الحمولات الدلالية لبعض تلك المرموزات مع التغير الحاصل ، ما يمكن ان يسجل لهذه الرواية قوة خطابها الفكري الذي يمتاز بالعديد من البلاغة والحكمة والقيم التي توزعت على الشخصيات حتى وان كانت بعض تلك القيم رداء اكبر بكثير من بعض شخصيات تلك الرواية الا ان المؤلف استطاع ان يمرر تلك القيم بطريقة جمالية ، ناهيك عن محلية الأمكنة الواردة في هذه الرواية ضمن طبيعة مدينة البصرة او بغداد ، والحرص على الدقة بوصف الأمكنة ذلك بوصفها عمارة ذات مدلولات مفتوحة ،(5 ميل ، خمسون حوش، شفقة العامل،شارع الوطن، البتاوين ….الخ) وهو الذي يجعلك تتشوق كلما تقدم الحدث لكي تمسك بزمام ما سيجري لوسيم وعابد في ثنايا هذه الحكاية الممتعة حد اللعنة ، بصراحة ان الرواية يمكن ان تقسم لجزئيين اول 50 صفحة تمثل التمهيد الحقيقي لما سيأت من احداث والنصف الثاني ينطلق من عودة وسيم الى بلده بعد مدة اغتراب ، والجزء الثاني هو الجزء الأكثر تشويقاً على مستوى الاحداث وهو يشكل تصاعد واضح للاحداث باتجاه ما سيؤول اليه مصير وسيم الذي عاد لوطنه ( الصغير/منزل العائلة) فوجده لا يقل خراباً عن وطنه الكبير، بحيث وجد منزله مستباحاً للمخدرات وممارسة الجنس بصوره المختلفة! ويمثل الجزء الثاني لقائه مع (سيمون) وهو برأيي بطل ثالث يضاف لعابد ووسيم أي ان هذا النوع من الروايات يقوم على البطولة التشاركية لا الأحادية ، وهو يعتمد أساليب وتقنيات مونتاجية في تقديم احداثه السردية كما في مكاشفته وافصاحه لصديقه الجديد سيمون عن قصة تعارفه بحبيبته (جيسيكا) وهو أسلوب ماتع جداً في تقديم احداث روايته بطريقة الاسترجاع او منتجة الاحداث بشيء من الحرية الافتراضية في التنقل وإقامة العلاقات بين تلك الأماكن ومفترضاتها المكانية ، مشكلا ما يعرف بالكرونوتوب الباختيني، الرواية كتبت باحساس عال جداً حتى اني استشعرت كمتلق تلك الدموع النقية التي كان يذرفها (وسيم) كلما شعر باحتياج الى البكاء من اجل ان يتطهر من ادرانه الماضوية ، وكلما اشتاق لحنين امه التي ماتت وهو في بلاد الغربة هارباً من خوف كاسر ، رغم كمية السوداوية التي تضمها الرواية الا انها ادانة موثقة لحقب سوداء من تاريخ هذا الوطن

، اجاد خلالها الروائي ورسم تفاصيلها بشفرة على جسد ذاكرتنا المتوجعة من كل هذه الاحداث التي مر بها ابطال رواية احمر افضل من ميت ، تلك التي مثلت الامل الشفيف في رحلات الموت المجاني ، التي اختارها الكثير فالوجع المؤقت والتوشح باللون الأحمر واوجاعه ربما افضل عند الكثير من (الموت المجاني) الذي كان يهدى لكل من يوسم بمعارضة النظام آنذاك. اثني كثيراً على هذا العمل وبودي في خاتمة المقال النقدي ان اهمس لزملائي وطلبة الدراسات العليا في كلية التربية الإنسانية / قسم اللغة العربية وكلية التربية بنات /قسم اللغة العربية ، وكلية الآداب/ قسم اللغة العربية ، وكلية التربية قرنة / قسم اللغة العربية ، أقول لهم ان نتاج هذا المبدع (احمد إبراهيم السعد) يستحق رسالة ماجستير او أطروحة دكتوراه فلا تبخلوا عليه بذلك.

هوامش:

(1)احمد إبراهيم السعد ، رواية احمد افضل من ميت ، ط1?(بغداد: منشورات الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق،2020)?

(2) صلاح عثمان ، الواقعية اللونية ، (مصر: منشاة المعارف ، 2006)? ص68.

(3) قدور عبدالله ثاني ، سيمائية الصورة ، ط1?(عمان: دار الوراق، 2008) ? ص113.

مشاركة