رهان جمالي على إستثارة ذائقة المتلقّي بصريّاً

ألعرض المسرحي عندما يسبقني الظل

رهان جمالي على إستثارة ذائقة المتلقّي بصريّاً

الموصل – مروان ياسين الدليمي

في العرض المسرحي الموسوم(عندما يسبقني الظل) للمؤلف والمخرج بيات مرعي،هناك مساحة مؤثرة من الاشتغال السينوغرافي كانت على قدر كبير من التوفيق في تحقيق ميزانسين جمالي امتد على مجمل اشتغالات المخرج في الشكل والمحتوى. والحيوية الدراماتورجية التي كشف عنها تأتي من جملة العناصر المسرحية التي تم توظيفها في منظومة علاقات بصرية وسمعية تآلفت مع بعضها بتكامل فني،بما انطوت عليه من قوة حركية وتوظيف درامي لخطاب العرض ،الذي طرح جملة تساؤلات حول جدوى الحروب التي تستهدف الانسان،الى جانب اهتمام المخرج في ان  تتكاثف الابعاد الجمالية طيلة زمن العرض بايقاع سريع ومعطيات تكوينية لم تبتعد في شكلانيتها الطاغية عن القصديات الدرامية لخطابه الفني.

في حبكة النص المسرحي” عندما يسبقني الظل ” ليس هناك من عناصر تقنية تجمعها مع  حبكة النص التقليدي الارسطي ،من حيث ستراتيجية البناء،وعلى ذلك فإن تطوره دراميا،لايسير وفق  مسار خطي تقتضي  آليات صياغته توفر مقدمة وعقدة وازمة وحل كما في النص الكلاسيكي .   كما لاتتوفر فيه عناصر فنية تجمعه مع ما تفرضه حبكة النص البرشتي الملحمي من  وحدات مشهدية تتمحور كل واحدة منها على وحدة حكائية منفصلة عن الاخرى، لكنها في المحصلة النهائية تتصل جميعها بكلية النص من حيث الفكرة المركزية التي يتم تسويقها في الخطاب العام .

فصل واحد

فمن الناحية التقنية يتكون النص من فصل واحد قصير لايتجاوز النصف ساعة من الناحية الزمنية، وشخصيتين رئيسيتين هما بالاساس شخصية واحدة، لذا شاء المؤلف ان يعتمد  في نسج تشظيات حكايته التي نثرها بين تفاصيل صغيرة  من التاريخ الذاتي للشخصية، على ضخ شحنة درامية وبكثافة وتركيز عاليين في ستراتيجية الحوار  الذي شكل وحدة تقنية اساسية في إعادة تجميعها ومن ثم ايصال الخطاب من الناحية الادبية، واضعا في حساباته ما سيؤول اليه النص من شكل حركي  ما إن يخضع لخشبة المسرح،لأن ما يمتلكه المخرج من ادوات وتقنيات حرفية خاصة به وبتجربته لايصال رؤيته تمنحانه فضاء مفتوحا لصياغته فنيا،بالشكل الذي يفترق فيه عن النص الادبي وفقا لمقتضيات الخشبة وما يمتلكه المخرج من مخيلة،بالتالي جاء العرض ليقدم لنا معادلا دراميا عرَّى  بكثافة دلالاته البصرية الحالة الداخلية للشخصية الرئيسة وما تعيشه من ازمة مع ذاتها ومع العالم . بغض النظر عن الموضوعة التي يتناولها العرض وادانته الصريحة لكل الدعوات التي تتجه الى اشعال الحروب،فإن ما يلفت الانتباه في اعمال مرعي انه دائما ما يولي اهتماما كبيرا في إيجاد معادل بصري للفعل الدرامي،مع ان الحوار لديه يبقى عنصرا أساسيا لايحاول الاستغناء عنه في بناء مقترباته الاخراجية ، وبقدر اهتمامه بوظيفة الحوار الدرامية بقدر ما يستند في مركزية أدوات اشتغاله التقنية على إيجاد معادلات بصرية لاتتوقف عن الانثيال والاسترسال، ولاتأتي أولوية الاهتمام بها بقصد الاستعراض الجمالي،انما تذهب الى ناحية الأخذ بالافكار المعبأة في بنية الحوار الى بوح بصري كما تشدُّ من لغته وتمنحها مساحة فضفاضة من التأويل .

هذا الحرص على تكاملية العلاقة ما بين الحوار بصيغته اللفظية والجانب البصري  الدرامي،مرجعيته تعود الى ان مرعي فنان مسرحي شامل، يجمع في شخصيته حرفة الكتابة المسرحية التي هي ماكنة انتاج الأفكار والمقدمة التي تضم بين سطورها الومضات الدرامية التي تنطلق منها محفزات أي عرض مسرحي،هذا إضافة الى ان في شخصيته كمخرج مسرحي هناك تفاعل وتلاقح مع سلطة التخييل بالشكل الذي لايكون مطمئنا الى قوة الأفكار رغم  ما تحمله من طروحات فلسفية ،فالملاحظ ان لديه حرص شديد على ان يتعامل مع الأفكار التي يطرحها النص بمشاكسة جمالية تحيلها الى مناخ آخر له صلة وثيقة بالعرض وما يقتضيه من تقنيات في التقديم والايصال،وبقدر اهتمامه في إيجاد معالجات اخراجية مثيرة للدهشة والغرابة إلاَّ انه شديد الحرص على ان لايغترب العرض عن المتلقي ،بالتالي فإن هذا المشغل المتراكب من عنصري التأليف والإخراج في شخصيته لابد من ان ينعكس على ما يقدمه من نتاج مسرحي سواء في نصوصه او في عروضه،والملاحظة الأخرى التي تحسب له أن نصوصه دائما ما يمنحها قوة أدبية تتيح للقارىء ان يكتفي بها إذا ما أراد ذلك، باعتبارها نصوصا أدبية،وبنفس الوقت وانطلاقا من كونه مخرجا دائما ما يضع مساحة من الحرية  بين سطور النص المسرحي تتوفر فيها ممكنات تقنية وفنية بما يجعل المخرج الذي يتصدى له قادرا على ان يفكك النص  ويعيد تركيب ما جاء فيه من افكار على الخشبة،اعتمادا على قناعته  بضرورة انزياح بنية الفعل الدرامي من منطقة الادب الى منطقة الخشبة .

من الوهلة الأولى لبدء العرض،يجد المتلقي نفسه امام لحظة ادهاش بصري،أراد من خلالها المخرج ان يقودنا الى بنية دراماتوجية ذات نزعة بصرية هي اقرب الى الشعر منها الى الكوابيس التي تكابدها الشخصية الرئيسة ،والتي تدفعها كوابيسها الى ان  تخوض صراعا شرسا مع ذاتها،بالشكل التي تنشطر فيه الى شخصيتين متناحرتين تستدعيان تاريخا واحدا يعود لكليهما في سياق صراعهما،ولكن من زاويتين مختلفتين لامجال فيه لأن يلتقيا، ومن الناحية التقنية فإن العرض بهذا المنحى الدرامي يتعرض الى لحظات عاصفة داخل ذات الشخصية المنشطرة،حيث تتداخل فيها مشاعر الحب والانكسار والغضب والثورة والهزيمة،ويفرض طبيعة الصراع القائم بينهما الى ان يختفي احدهما،فكانت النتيجة ان تولى احدهما قتل الآخر .

عناصر درامية

و للامساك بمفاتيح آمان العرض اعتمد مرعي على منظومة سينوكرافية،تظافرت فيها عناصر درامية مختلفة توزعت ما بين افراد المجموعة الذين ظهروا وهم يرتدون بملابس فضفاضة بيضاء اللون،مع اقنعة لها شكل واحد تغطي وجوههم ،ودائما ما يصدر عنهم فعلا حركيا موحدا يعكس بكثافته الاشارية التي مال بها المخرج الى الغموض،طبيعة الصراع الذي تخوضه الشخصية مع ذاتها ومع الآخر،وهذا الأسلوب في تقديم  خطاب العرض من الناحية التقنية يعد جوهر عمل المخرج مرعي في بناء تجربته،فالغموض الذي يكتنف البناء البصري غالبا ما يسعى من وراءه الى ان يُحرِّض المتلقي على التفكير والاستيقاظ  وطرح الأسئلة،فالتجربة المسرحية لديه تكتسب دراماتورجيا حضورها من قدرتها على ان تستثير الوعي والذائقة والدفع بهما الى ان تكونا في منطقة جديدة من التلقي الفني،وهو بذلك ينتزع  من المتلقي أي تصورات متوقعة بناء على ما تكرَّس في ذائقته من مفاهيم وأساليب مسرحية جراء مشاهداته لتجارب سابقة. طيلة زمن العرض حَرَص المخرج على ان لايكشف لعبته المسرحية القائمة على ثنائية الذات واستدعاء عوالمها الداخلية،وما اتكأ عليه من إجراءات تقنية لايصال خطابه،سواء في غرابة تصميم الأزياء أوقطع القماش المثبتة على العصي،أتاح له  فرصة تشكيل دلالات مختلفة ومتنوعة اغنت مساحة التأويل في خطاب العرض، لتمتد على ما هو ذاتي ومرتبط بتاريخ الشخصية وما هو موضوعي ومرتبط بفكرة العرض الكلية .

العرض سواء من حيث النص او الشكل الاخراجي، كان على قدر مهم  من التوفيق في ان يتوغل داخل أعماق الشخصية المحورية لكشف ما تحمله من أعباء نفسية نتيجة ما خلفته الحرب في داخلها من إحساس بالضياع وشعور بالغربة داخل الوطن، فثمة صراع ثنائي ساخن لايــهدأ بين الجميل والقبيح،النور والظلام، الموت والحياة ،الحب والكراهية .وهذه الثنـــــائية تعيد تهييج المواجع حول ما جرى من فـــــــظائع نالت من أحلام الانسان  .

مشاركة