رشيد ياسين يترك عليّ أعمق البصمات أثراً – نصوص – عبد الرزاق عبد الواحد

ذكرياتي 69

رشيد ياسين يترك عليّ أعمق البصمات أثراً – نصوص – عبد الرزاق عبد الواحد

( 1 )

 قلت له يوماً وأنا في بيته ببيروت : أتمنى لو عدتَ إلى بغداد يا أبا نبيل .. فأنا واثق من أنك ستضع أمور الشعر في أنصبتها .. وستحدد لكل ذي قدرٍ قدره . وعاد رشيد إلى بغداد ، ولكنه لم يكن رشيد الذي عرفته قبل عشرين عاماً ! .

هذا واحد من ألمع نجوم الشعر في سماء بغداد ، في أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات ، إن لم يكن ألمعها جميعاً .أمضينا معاً سنتين في الأعدادية المركزية كلانا في الفرع الأدبي ، ولكننا لم نتعرف على بعضنا . كنت أنا في شعبة (ب ) ، ورشيد في شعبة ( آ ) ، وكان لكل منا عالمه .. كان ذلك عامي 1945و 1946.

ما زلت أتذ كر النشرة الجدارية التي كان يصدرها بمفرده . كان رساماً بارعاً ، وخطاطاً بارعاً .. وشاعراً وكاتباً مبكر الوضوح . وكان معتزاً باكتفائه الذاتي في كل ما يصنعه في تلك النشرة .

بعد أن توثقت الصلة بيننا ، اكتشفت أن رشيد كان ذا صوت شجي أيضاً ، حين يجوّد القرآن الكريم ، وحين يغنّي . على أن أبرز ما كان يميزه ، ثـقافته العميقة والواسعة على صغر سنه .. وأكثر ما كان يلفت النظر إليه ويثير الأعجاب به ، إتقانه اللغة الإنكليزية ، ومطالعاته بها في وقتٍ ندر فيه من يقرأ بالإنكليزية. يوماً من الأيام ذهلت عندما علمت أن نبيل ، وهو ولده البكر ، قد قرأ مجلدات الفلسفة اليونانية باللغة الإنكليزية وا ستوعبها ، وهو بعد طالب في الثانوية ! قلت في نفسي : ومن يشابه أبه فما ظلم ! .

كان رشيد حيـن تعرفت عليـه ، يسكن في محلة ( الطاطران ) ، تحت التكية .. وكنت أسكن في (كرا دة مريم ) . كنا من عائلتين فقيرتين .. هو الولد البكر لتاجر انزلق به سوء التقدير إلى الإفلاس . وأنا الإبن البكر لعامل كان يكدح في الكويت لكي يعيل أسرته ببغداد ! .

كان رشيد في مطالع عشريناته .. معتدل الطول .. رشيقاً أميل إلى النحافة .. غامق السمرة ، وإن كان يتبجح بلونه الحنطي . دقيق قسمات الوجه ، متناسقها . متين البنية ، شديد الاعتداد بنفسه..متعالياً حدّ العجرفة..صادقاً ومستقيماً حدّ أن يشطر نفسه شطرين إذا اعترضته نفسه ! ساخراً من كل شيء بمرارة . تبلغ سخريته حدّ العدوانية في الغالب . شديد القسوة حتى على أقرب الناس إليه . كثير التذمر حدّ أن يخلق حوله أحياناً جواً من التعاسة لا يطاق !

إن الذي يرى رشيد ياسين من كثب ، لا يستطيع أن يتخيل أن هذا الأنسان يمكن أن يبكي ! . أنا رأيته يبكي مرتين ! .. أولاهما بدون صوت . كانت دموعه تنهمل على خديه ، وهو يحدثني عن حبيبته التي افترق عنها .. كان ذلك في بداية تعارفنا ، وكان يعمل يومها معلماً في مدينة القرنة بالبصرة . أما في المرة الثانية ، فقد كان يشهق مختنقاً بعبراته .. كان ولده الصغير يمر بمحنة كبيرة . إنك لتكتشف داخل هذه الصخرة القاسية نبعاً من الماء لا تستطيع أن تتصوره إلا إذا ملكت أن تنفذ إليه .. وليس يسيراً ، حتى على من عاش عمره مع رشيد ، أن ينفذ إلى أعماقه ، لفرط ما غلفته المرارة ! .

هذا الوجه العابس المكفهر .. المشمئز من كل شيء .. في أعماقه طفل طيبته تكسر القلب ، ولكنها طيبة غارقة في المرارة ! .

لكي أكون دقيقاً في الصورة التي رسمتها لرشيد ، أنقل عن قسوته هاتين الحادثتين :

المكان : مقهى البرلمان .. وكانت المرة الأولى التي ألتقي فيها بمجموعة الشعراء هذه : البريكان ، رشيد ، أكرم الوتري ، وبلند الحيدري .. أما أنا فدخلت على المجموعة بصحبة بدر السياب الذي قدمني اليهم شاعراً ! .كنت شاعراً مبتدئاً ، في السنة الأولى من دراستي الجامعية .. شديد التحرج من هذه الأسماء الكبيرة عليّ .. لذا فقد جلست مستمعاً ، وبدأوا ينشدون ويتحدثون . فجأة التفتوا إلي وسألوني أن أقرأ ! . بعد تمنّع طويل مني ، وتشجيع كبير من السياب ، قرأت . أنا لم أنظر إلى وجه رشيد لكي أرى ردود الفعل عليه ، ولكنني سمعت بعد شهور تعليقه على قراءتي تلك . قيل إن رشيد ظل يحملق في وجوه جماعته حال انصرافي عنهم ، ثم قال : (هو هذا وجه شاعر ؟؟! ). ثم التفت الى بدر قائلاً 🙁 يمكن لصاحبك هذا أن يعمل حمالاً ، أو جزاراً .. أما شاعراً فلا !). الحادثة الثانية : المكان : مقهى خليل . الحضور المجموعة نفسها .. وكان الوقت يكاد يدنو من الظهيرة . كنا في غمرة حديثنا حين قطع علينا نقاشنا رجل جاوز الأربعين عاماً .. سلّم منحنياً بأدب جمّ .. وباعتذار كاد يكون موجعاً لكثرة ما فيه من عبارات التودد .. ثم قدم نفسه على أنه شاعر مبتدئ ، يلتمس من أساتذته الكبار أن يتلطفوا بقبول مجموعته الشعرية المتواضعة ، مهداة لكل واحد منهم .. متمنياً أن تتاح لنا فرصة قراءتها .

كان الرجل شديد الأرتباك .. وكنا جميعاً في مثل سنّ أولاده إذا كان له أولاد . حين انتهى من تلك المقدمة الأعتذارية ، مدّ يده لكل واحد منا بكتيّب شعري عليه إهداء بالغ في تواضع المهدي ، وإجلال المهدى إليه .

خلال تلك العملية ، كنت أراقب رشيداً وهو ينظر الى هذا الرجل الأشيب ، الواقف محدودباً كالمتسوّل .كان يرنو إليه باشمئزاز مشوب بالسخرية ، مائلاً برقبته ، رافعاً وجهه نحوه بشكل يثير الضحك .

 وضع الرجل كتبه ومضى لمكانه في المقهى بعد أن تراجع خطوتين إلى الوراء قبل أن يولينا ظهره . كنت أتوقع الزوبعة .. ولكنني لم أتخيل أنها ستكون بهذه القسوة ، أو في الأقل ، لم أتخيل أنها ستتجاوز نطاق جلستنا نحن .

خلال دقيقتين ، تصفح رشيد الكراس الشعري ماطّاً شفتيه .. ثم نهض وبيده الكراس ، متجهاً الى الرجل . حاولنا جميعاً أن نوقفه فلم نفلح .وقف على رأسه ، ورفع الرجل وجهه اليه مبتسماً .. وإذا برشيد يقول له :” ألم تستحِ وأنت في هذه السن ، أن تكتب مثل هذا الهذيان ؟ ولا تكتفي بكتابته ، بل تطبعه ، وتنشره ، وتهديه للناس ؟!” ثم عاد بعد أن ألقى الكراس على الرجل الذي ظلت ابتسامته تشحب تدريجياً حتى استحالت إلى ما يشبه البكاء..

– رشيد ياسين ( 2 )

 هذا لا يعني بالتأكيد أن رشيداً لم يكن مرحاً . لقد كان إذا ضحك يضحك من كل قلبه .. حاضر البديهة ، سريع النكتة ، مدججاً بالأجوبة المفحمة التي غالباً ما يصاحبها تعبير وجهه الساخر .

 ورشيد كريم باذخ الكرم ، حتى في أشد حالاته عسراً .. إنه يفتح لك باب بيته ، ويقدم لك كل ما لديه دون تحرج ، حتى ولو كان ما لديه رغيف خبز وقليلاً من الأدام . ولعل أنبل ما فيه ، وهذه مسألة كنت أحس بها دائماً في بيته ، أنه ينشغل عن نفسه بضيفه .. وقد يختلف معك حدّ الغيظ ، ولكنه لا يغـــفل لحظة عن القيام بواجب ضيافتك على أتم وجه .

 في ليالي الصيف غالباً ما كنا ، أنا ورشيد ، نجلس في مقهى الصالحية قرب الإذاعة ..وكثيراً ما كان يشاركنا جلساتنا تلك صديقنا الفنان الرائع يحيى جواد . نظل حتى تغلق المقهى أبوابها، وتكون الساعة قد جاوزت الثانية بعد منتصف الليل ، وجمع صبيّ المقهى جميع الكراسي والمناضد ، وقد خلت المقهى منذ زمن إلا منا .. عندها نخرج حائرين ، كيف نكمل السهرة ؟! . كنت أوصل رشيد إلى البيت .. ويصر هو على أن يعود معي حتى أصل بيتي .. ونظل رائحين غاديين بين بيتي وبيته حتى قريب الفجر ، عندها نسلم أمرنا إلى الله ، ونتخذ نقطة وسطاً بين بيتينا ، نصافح بعضنا عندها بطريقة مسرحية ، ثم نفترق ! . من يصدق أننا كنا نقطع معظم تلك المسيرات الليلية مرتجلين الشعر ؟! . نجد موضوعاً .. أو يقول أحدنا بيتاً في شيء مما نمرّ به ، فيعقبه الآخر مباشرة ببيت جديد .. وتبلغ القصيدة في موضوع مضحك مائة بيت ! .

 إلى الآن مازلت أذكر مطلع قصيدة من أغرب تلك القصائد ، إذ وقعت أعيننا في أواخر ليلة صيفية على بائع زلابية يدفع عربته وعليها طبق مثقل ، فاشتهيناها حدّ وجع البطون ، وما كنا نملك فلساً واحداً ! . قال رشيد :

 أيتها الزلابية .. فأكلت فوراً : لو تعلمين ما بيه !

 ولمعرفتي بالذاكرة الرهيبة التي يتمتع بها رشيد ، فأنا واثق من أنه مايزال يحفظ معظم تلك القصيدة التي تجاوزت الخمسين بيتاً عن ظهر قلب كما يحـــــفظ الكثيرات من أمثالها ! .

 كانت تلك المسيرات الليلية تمريناً رائعاً على الإرتجال الذي كنا نمارسه للدعابة حتى خلال حياتنا اليومية ، وكان عدد من أصدقائنا يحاولون مجاراتنا ، ثم ما يلبثون أن يتخلوا عن المحاولة حين يروننا ما ينتهي أحدنا من البيت ، حتى يكمل الآخر ببيت جديد دون أن يترك أية فاصلة زمنية بين البيــــــتين ! .

 أغرب متنفَّس كان لرشيد ( التحايا ) ! . والتحايا قصائد هجائية بالغة القسوة ، غير متعففة في عمومها . ابتدأناها مرة في مقهى الرشيد معارضين بها معارضة ساخرة قصيدة لبلند الحيدري مطلعها :

 أتحدّاكَ ، لن تعود .. فضجّت

 كبريائي ، وغمغمتْ .. مسكينه

لقد كان بلند غائباً فاغتبناه ! . وكان القدح المعلى في تلك الهجائية الفريدة للشاعر أكرم الوتري ! .

 كانت العصبة كلها ، حيثما اجتمعت ، تشارك في ( التحية ) حين يقتضي سوء حظ شاعر أن نحييه ! . من يومها ، وجدنا أجمل لذائذنا في أوقات الفراغ ، أن نأخذ قصيدة لواحد منا ، ونحييه على رويّها ، ساكبين في تحايانا تلك كل غيظنا من الحياة ، وكل حنقنا على خيبتنا فيها !. أما رشيد ، فقد ذهب به الأمر حدّ اقتراح ( تحايا ) لكل شعراء العربية بدءاً بامريء القيس ، وانتهاء بأحدث شاعر !

 أذكر مرة أنني كنت أشرح لطلابي درساً في النحو ، وكنت آنذاك مدرساً في متوسطة الحلة للبنين ، إذ دخل عليّ الفرّاش الصف ، وهمس في أذني أن شخصاً اسمه رشيد ياسين ينتظرني في غرفة المدرسين .  عجبت وأنا أصافح رشيد من تجشمه عناء السفر من بغداد إلى الحلة ليراني ! .. وإذا بي أكتشف أن رشيد قد جاء وبيده جريدة .. الجريدة,فيها قصيدة للجواهري نشرت في ذلك اليوم ، مطلعها :

 عدَتْ عليَّ كما يستكلبُ الذيبُ

 قومٌ ببغداد أنماطٌ أعاجببُ

لم ينتظر رشيد أن نجلس قليلاً في غرفة المدرسين ، بل أصرّ على الخروج معه للتوّ .. وأن نذهب إلى أي مقهى ، لا إلى بيتي . وما أن جلسنا في المقهى ، حتى نشر رشيد الجريدة قائلاً : إقرأها لكي نبدأ بتحيته ! . أعترف أنها كانت واحدة من أقسى حماقاتنا تلك .. وما أن انتهينا من كتابتها ، وكنا غالباً نحيّي الشاعر بيتاً ببيت .. حتى جمع رشيد الأوراق ، وطلب مني أن أدلّه على موقف السيارات لكي يعود إلى بغداد! .

 للتاريخ أسجل هنا ، أن رشيد ياسين ترك عليّ أعمق البصمات أثراً .. لا في شعري وحده ، بل حتى في الكثير من تفاصيل حياتي اليومية .

 لقد كان رشيد ياسين واحداً من أمهر الذين صنعوا الأجيال الشعرية اللاحقة ! .