رسمت ذكرياتها.. من أشور إلى مونتريال
أفانين كبة صدمة كبرى في طفولتي غيرت نظرتي للحياة
فيصل عبد الحسن
تنقلك لوحات الفنانة أفانين كبة من مدن الخرسانة والعمارات الحديثة، وأعمدة الفولاذ في مونتريال، وأشجار القبيقبالكندية الشهيرة، إلى نخيل العراق وصفصافه، وصحرائه، وحضاراته، السومرية والأكدية والأشورية، هذه الفنانة العراقية الأصل الكندية الجنسية، التي تقيم في مونتريال منذ عام 1980 صارت إحدى أهم فنانات جماعة الفنانين العرب في هذه المدينة، والتي تسمى جمعية لو لوفان Le Levant ” التي ترأسها السيدة نسب شيا وفي العديد من معارض هذه الجماعة الفنية كانت لوحات أفانين كبة محط تساؤل الحاضرين عن أصل هذه الفنانة، التي تمزج الحاضر بالماضي، وتذكر بحضارات قديمة لها في الوجدان العالمي قيمة كبيرة، ويحاول المهتمون بها أن يعرفوا عنها المزيد من خلال ما ينعكس من وجهات نظر مختلفة عن لوحاتها، ولوحات وإبداعات فنية لفنانين قدموا من أرض المشرق. كتبت لي الفنانة أفنانين كبة في مراسلة خاصة عن سر أهتمامها بالتراث الفني السومري، والأكدي والأشوري، الذي نراه ينبض بالحياة في لوحاتها، وتساؤلي عن هذه الاضافات التأريخية في لوحاتها، إن كانت من صميم الموضوع، الذي تعمل عليه ام إنه تدخل حرفي منها لأظهار الهوية ؟ إجابت أبتدأ منذ طفولتي، وقد كانت المرحومة والدتي مُدرسة تأريخ للمرحلة الثانوية، وكانت وطنية جداً، من دون أي انتماء سياسي، وكانت لها نشاطات وطنية معروفة، عندما كانت طالبة في كلية الملكة عالية في بغداد سنة 1948 1951 ومنذ طفولتي ولحد وفاتها، وأنا أسمع من والدتي أحداثا وقصصا من التأريخ، وبالذات عن تأريخ العراق، وعن حب الوطن وقد أثرت هذه القصص والحكايات بهذه الطفولة الغضة كثيرا فيما يبدو، وأحاطت أنتاجها الفني بزخم كبير من الأفكار عن الماضي، وتأثيرات نفسية حقيقية على روحها، أثناء الرسم، وصار هذا التأريخ في لوحاتها ألوانا وأحجارا ولحى بابلية وأشورية، وتحول نهر دجلة في لوحاتها إلى بحر كبير تتلاطم فيه الأمواج، وفي شباك صياديه تلبط الأسماك، وتنظر إليهم الحسان من شرفات مطلة عليه، وهن يمشطن شعورهن الطويلة بأسترخاء، كأنما يتنسمن نسمات باردة من النهر وقت الغروب، بعد يوم صيفي قائظ، وتكمل ما بدأته قائلة عن صاحب أولى التأثيرات عليها، وهو والدها المهندس مكي راجي كبة، الذي كان يقرأ مؤلفات ل جبران خليل جبران قالت عن هذه المرحلة الحالمة، التي كونت رومانسيتها، وحلمها الدائم بالمثال، وحب أبراز الجمال، الذي خلقه الله تعالى فيما حولنا من طبيعة، ومخلوقات، وسؤالها المتكرر في جميع لوحاتها تقريبا عن معنى الوجود، وفعل الخير ومعنى الحب، والتأمل في ذواتنا لنجد فيها اجمل مانستطيع أن نقدمه للناس، ممن يشاركوننا هذه الحياة.
جبران خليل جبران
قالت عن تلك المرحلة المرحوم والدي كان يعمل في مجال الهندسة والبحث العلمي، وكان بعيدا جداً عن السياسة والدين, لكن والدي ووالدتي كانا يحُبان بولع شديد الشعر، ويقتنون الكتب الأدبية ومن ضمنها تلك الكتب كانت من مؤلفات جبران خليل جبران، التي كنت في ذلك الوقت أٌجد صعوبة في فهمها، وكان والديِّ يشرحهما لي، هذا الولع بقي معي لحد الآن، فما زلت أٌحب أن أتعمق في قراءة مؤلفات خليل جبران، ولها أثر كبير علىَّ كأنسانة، إذ دائماً ألجأ الى قراءتها . ومن التكوين الثقافي الذي تلقته الفنانة، إلى التأطير التقني من خلال دراستها للرسم الهندسي في العراق بين عامي وحصولها على دبلوم رسم هندسي بغداد، وبعد ذلك حصلت على دبلوم تصميم داخلي وديكور مونتريال وتلقيها بعد ذلك الدروس والتدريب في مجال الرسم الحر من عام 1997 ولغاية 2003 رحلة طويلة قطعتها الفنانة أفانين كبة لتستطيع التعبير عن نفسها بواسطة الفرشاة وتنقل لنا أحساسها بالفجيعة، والصدمة الكبيرة التي تلقتها حين كانت في الخامسة عشرة من عمرها حين أعتقل والدها المهندس، وعذب فرأت الشابة اليافعة آثار التعذيب على جسد والدها، وكان أعتقاله ظلما كما تقول، ولمدة سنة كاملة، فتعرفت من خلال تلك المأساة على عالم آخر، عالم يمثله سجن الفضيلية في بغداد وسجن أبي غريب. قالت عن ذلك عندما كنت في الخامسة عشرة تلقيت صدمة كبرى غيرت كُلياً نظرتي للحياة, كانت عندما أُعتقل والدي ظلماً ولمدة سنة, ورأيت وحشية التعذيب على جسده، ورأيت عالما ثانيا ولأول مرة, هو معتقل الفضيلية وسجن أبو غريب، وكم يحوي من مثقفين ومظلومين، إبتدأت منذ ذلك الوقت ألجأ للرسم وللقراءة كوسيلة للهروب، أذكر عندما كنت أزور والدي في أبو غريب, كٌنت أُريه مارسمت، وكان هو من شجعني على الاستمرار في عالم الفن، لقد صاغت الفنانة أفانين كبة من تلك المحنة الكثير من لوحاتها، ففي الكثير منها صورة وجه رجل أربعيني يظهر في شارع لا ينتهي أو بين جبال جرداء، ينظر إلى شيء مختف، وهي تقول في رسالة منها حول التأثرية في رسمها بقولها ماتجده في لوحاتي هو عصارة تجارب ومِحن ومراحل مررت بها وعشتها بمحاسنها ودموعها وهي التي عملت مني هذه الإنسانه اليوم، أية لوحة تراها وراءها قصة أوحدث مررتُ به أو إطلعتُ عليه وسمعتُ به.
في جماعتها الفنية لو لوفان Le Levant ” في مونتريال تجد فنانين من أقطار عربية مختلفة، ومنهم، الفنان التشكيلي السوري أدهم بو زين الدين، والفنانة اللبنانية مارلين فياض، والتونسي أنور الهيبي، والمغربي عبد الرحمن بن حليمة، وقد كتب عنهم الناقد الفني الكندي ألكسندر ماتييه في جريدة تصدر في مونتريال، قائلا عن المعارض الجماعية لهؤلاء الفنانين العرب إنها تمثل بركانا يثور ببطء وأرتداداته تعم العالم العربي، وتؤسس لمزيد من الحرية والديمقراطية والسلام لشعوب المنطقة وقد هزته فيما يبدو أعمالهم الفنية، التي عرضوها في مونتريال بمناسبة ثورات الربيع العربي تحت أسم ألف ليلة وليلة وهو المعرض الجماعي الحادي عشر لهم، والذي أقيم في أروقة متحف الأساتذة والحرفيين الكيبيكيين في سان لوران في مونتريال، وفي معظم المعارض التي عرضت فيها الفنانة أفنانين كبة لوحاتها في متحف تجمع الفنانين والحرفيين في كوبيك عام تحت أسم الف ليلة وليلة، وفي معارض جماعية مع جماعة لولوفان صرخة الجسر عام 2009 ومعرض ألأرواح المتمردة عام 2008 ومعرض مابين البارحة واليوم 2007 ومعرض مركز الجالية العراقية في مونتريال عام 2007 ومعرض الفن والحرية عام 2006 وفي معظم المعارض التي شاركت فيها الفنانة ظهرت في الكثير من لوحاتها أمرأة صغيرة حزينة تحمل ملامح العراقيات، وقد رسم التأمل فوق وجهها مايشي عن اسئلة خطيرة عن الوجود والغربة، وعن التألف مع مايحيطها من طبيعة، وقد أبدعت الفنانة برسمها لتلك اللوحات، وجعلتها نابضة بقصص تحكيها عن حضارة العراق وتأريخه، وما اصاب أهله من كوارث كالفيضانات والحرائق وتدمير الجيوش الغازية لهذا البلد، وقد اتسمت ألوان لوحاتها بتأثر واضح بالمدرسة الأنطباعية، مع محاولة للأيحاء بالهوية من خلال مايدهش العين من لقى وآثار وملابس، وهيئات متوارثة من رسوم الجدران الأثارية من مدن عراقية قديمة. لكنها تنفي هذه الأنطباعية بقولها في إحدى رسائلها لي لا أرى نفسي أنتمي لأية مدرسة فنية كما هو متعارف عليه, لأن عادةً مشاعري وأحاسيسي هي التي تسيطر على الفرشاة وليس الخطوات الأكاديمية لذا بلا شك هنالك في لوحاتي بعض الأخطاء الفنية، لأني عادةَ أُركز على الموضوع، و الفكرة الرئيسية ولا أريد أن أفقد الروحية الفنية التي أكون فيها، لذا أيضاً تجد ألوان بعض اللوحات براقة والعكس للأُخرى، وليس بتأثير الفن الأنطباعي بل يعتمد على الموضوع وعلى مزاجي في ذلك الوقت. لكنها تؤكد في مقطع آخر من رسالتها ماأوردناه حول التعبير عن هويتها العراقية بقولها لا أرغب بالفن الذي ليس له صلة بواقعنا ولا ثقافاتنا وأذواقنا وحضاراتنا بالرغم من إني مارسته لعدة سنين لكن كنت دائماً أحس أني غريبة عنه، إثبات الهوية العراقية، والاهتمام بالشأن والتراث العراقي، والأرتباط بالتربة عن طريق الفن من أهتماماتي، ووسيلة لأُعرف وأُذكر أولادي, الآن وعلى المدى البعيد بإنتمائهم الدائم للعراق .
/4/2012 Issue 4166 – Date 5 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4166 التاريخ 5»4»2012
AZP09