رسالةٌ إلى زعيم عربي

رسالةٌ إلى زعيم عربي
محمد الحداد
سيادة الزعيم
في البدء.. ليستْ هذهِ أولى رسائلي اليك فلا تذهلْ..فقد أرسلتُ لكَ قبلَ ذلك رسائلَ كثيرة لم تأبهْ لها.. رسائلُ فقرٍ صامت وقهرٍ صامت وذلٍ صامت حتى جئتكَ بأغلى رسائل صمتي.. قلتُ لك أنصتْ لصوتِ دمي.. لكنّي لم أكن أعلمُ أنَّ الصمتَ هو الصمت.. تعلمتُ هذا بعد فواتِ الأوان..أيقنتُ أنَّ للغةِ الصمتِ لساناً أبتر حتى لو تعمدتْ بالدم.. لأبجديتها أوتارُ صهيلٍ مثقوبة.. اليوم فقط اكتشفتُ بعد صمتي الطويل أنَّ لي فماً أنبتَ أسناناً قاطعة.. ولساناً طويلاً هو الآخر.. سأخاطبك بهِ نداً لندٍ لأول مرة.. مَنْ يدري لعلَّ الحظ يسعفني بما يكفي لتصلكَ رسالتي هذهِ قبل انتهاء اللعبة..اللعبةُ التي كنتُ طرفها الأبخس رغماً عني.. حتماً ستسأل مَنْ حولكَ مَنْ تُراهُ يكونُ هذا الذي يشوشُ الآن بطنينهِ المزعج قربَ اُذنيَّ؟ كيف تجرأ دونما اذن؟ وعن أية لعبةٍ يتحدث؟ حسناً.. من حقك أنْ تسأل.. أنا الشعبُ سيدي الزعيم.. قطيعُ عبيدك الذين ابتليتَ بهم.. ندُّكَ منذ الأزل.. عقبتكَ الكأداء.. غريمُكَ حَتِفَ أنفي..حظّكَ العاثر دون ذنبٍ مني..اقتسمنا الدنيا بينكَ وبيني نصفين.. قسمةُ عدلٍ جائرة الحياةُ لك والموتُ لي..المجدُ لك.. والذلُ لي..أنتَ الغنى وأنا الفقر… أتراك تعرفني؟ أتراكَ تذكرني؟ أنا الشعبُ سيدي..أنا عالمكَ السُفلي.. جانبكَ المُظلم.. أتفهُ مقتنياتكَ..آخرُ ما يخطرُ ببالكَ.. أنا أصغرُ من أصغرِ مُضغةِ لحمٍ لا تدري أحُشِرَتْ بين أسنانكَ أم نزلتْ قبو كرشكَ المظلم أم تطايرتْ من فمك ساعة تخمة..أنفقتُ حياتي كلها أتتبعُ بعينَيْ طمعي منابعَ يدكَ الكريمة أملاً بقضمةِ رغيفٍ يابسة تقذفُ بهما يديكَ الى صحنِ فقري من فائضِ موائدكَ حتى لو كانتْ منقوعة بلعابِ ذلِكَ وهذا فضلٌ منكَ لن أنساهُ ساعةً من ليلٍ أو نهار..أنا شعبٌ أسرفَ في الفقرِ بمراتعِ غِناك.. أشبعْتني جوعاً ولم أتعبْ من الانحناءِ باجلالٍ أقبّلُ رأسكَ مهابة وألثمُ يديكَ شكراً وأدعو لكَ بالعمرِ المديد..اعتنقتُ الذلَ مذهباً وارتديتُ الفقرَ وشماً..توسدتُ كفافي والتحفتُ عفافي وضمدْتُ جراحي بالنسيانِ والنوم الطويل..أعترفُ لكَ أنني وقفتُ طوالَ عمري حجرَ عثرةٍ بينكَ وبين مُتعٍ حَباكَ اللهُ بها في ربوعِ وطنكَ السعيد دونَ غيرك من عبادهِ..أنا مَنْ نغّصَ عليكَ هناءة عيشك.. كنتُ شوكة حشَرَتْها يدُ الأقدارِ في فمكَ رغم أنَّ كلَّ أشواكِ صحرائنا الممتدة ما وقفتْ يوماً في طريقِ ابتلاعكَ الوطن..أو هذا الشيء الذي أسميناهُ جزافاً بالوطن ..الوطن الذي أورثهُ الالهُ من أعطياتهِ اُقطوعة مجانية لكَ ولأولادكَ ولعشيرتك الأقربين.. نعم الوطن..أتراكَ تعرفه؟ أتراكَ تذكره؟ الوطنُ الذي وَسِعَ جنونكَ ونزقكَ وجبروتكَ كلهُ هو ذاتهُ اليوم ضاقَ بكَ كحلقةٍ في فلاة..وطفقتَ تبحثُ فيهِ بيأسٍ عن مخبئٍ آمن أخير انْ وسِعَ جسدكَ لن يتسعَ لخوفكَ.. تهددُ من قعرِ ظلمتهِ بنسفِ العالم حتى تنتهي الى حيثُ انتهى مَنْ سَبقكَ في قوافلِ رحيلٍ لا عودة منها.. ضاقَ الوطنُ في عينيكَ.. ذابَ كحبةِ رملٍ في بحرٍ لا قرارَ له..لكنهُ سيعرفُ أخيراً كيف يستردُّ ما بعنقكَ لهُ من دَينٍ..الوطنُ الذي اختصرتهُ في شخصكَ ها هو يختصركَ الآن الى محضِ حجرٍ مُحاصرٍ في رقعةِ شطرنجٍ بلعبةٍ لا تَنسى أبداً أنكَ اقترفتها منذ زمنٍ بعيد..رقعة بلونينِ لا ثالث لهما أسودٌ وأبيض.. معكَ أو عليك.
لا زلتَ تسألُ عني؟ أنا مَنْ صنعتك..فلِمَ تُنكرني؟ بيديَّ التي صفّقتْ .. بحنجرتي التي صَدَحتْ.. بلساني الذي سَبَّحَ بحمدِ ظلمكَ وكذبكَ.. قبلَ ذلكَ كنتَ محضَ رمادٍ بارد..أنا اخترتكَ دون غيركَ لتكونَ ماردي فكنتَهُ فلِمَ تُنكِرُ فضلي؟ قلتُ أخرجُكَ من قمقمكَ وقتما أشاء وأرجعُكَ اليهِ وقتما أريد..صنعتكُ لهذا..لكنك كنتَ أمكرَ مني.. لأنكَ خرجتَ من قمقمكَ و ابتلعتني جئتَني دمية صغيرةً فنفختُ فيكَ زفيرَ تملقي وكذبي حتى صدَّقتَ أخيراً أنكَ ملهمنا الأوحد وصدَّقتُ أنا أنكَ بصمة لن تتكرر..ابتلعتَ الوطن لكَ وحدكَ وأصبحتُ غريباً في وطني..ثمَّ أحرقتَ التاريخَ كلهُ وكتبتَ تاريخاً يبدأ باسمكَ الذي ارتدتهُ بعد ذلك كلُّ الجبالِ والشوارعِ والمدارسِ والمساجدِ أنتَ معذورٌ سيدي أنا مَنْ أسلمتكَ زمامي.. وأحنيتُ رقبتي عند أبوابِ سلطانك..أنا أعطيتك سياطَ ذلي وقلتُ لكَ اضربْ لا شُلتْ يمينك ولا أمَّ لي حولتَ الوطن الى سجنٍ كبيرٍ زنزانتهُ بطولِ حدودهِ المفتوحة من الشمالِ الى الجنوبِ ومن الشرقِ الى الغربِ.. سجنٌ يطفو على بحيرةٍ من دماء..أنا أعطيتكَ ألفُ سيفٍ وألفُ مسوغٍ لقتلي كيفَ لي أنْ أسألَ ببلاهةٍ بعد ذلك من أين لكَ كلّ تلك الشجاعة لتقطفَ بهذهِ السيوف كلَّ تلك الرقاب؟ أوَ ليستْ شجاعتكَ هذهِ فائض جُبني؟أوَ ليستْ كرامتكَ فائض ما سفحتَ من كرامتي؟أوَ ليستْ حياتك فائض ما سرقتَ من سنواتِ حياتي؟أنت معذورٌ سيدي أنا أعترفُ لك بكلِّ ذنوبي.. قاتلتُ من أجلكَ أعداءً لا أعرفهم.. اخترعتَهم لأجلي لأذهلَ بهم عن ظلمكَ..قلتَ شرفكم دمائكم الوطنُ يناديكم.. فهبوا لنجدتهِ و الا استحالَ الى حقلِ سنابلٍ غضةٍ وسطَ العاصفة؟ فلبيتُ النداءَ وقلتُ غالٍ برخيص.. حيَّ على الوطن وقاتلتُ العاصفة وحدي بسُعارِ مجنونٍ مُخلص.. كنتُ وقودكَ لكلِّ معاركِ المصير..أقنعتني أنكَ من أجلي مزّقتَ عن جسدِ الوطنِ ثياب الظلم..فصدّقتكَ وصفقتُ لحكمتكَ طويلاً لكنكَ ألبستَ الوطنَ ثياباً جديدةً ضيقة الأكمامِ والأردافِ وواسعة الجيوب خيطتها على مقاسِ جشعكَ و ظلمك..أفلا تشبع؟
سيادة الزعيم
في الحربِ وفي اللعبةِ أيضاً يحِقُّ لكم من حيثُ لا يحِقُّ لسواكم أنْ تقفزوا من فوقِ الحقائقِ والأسوارِ والرقاب.. أن تناوروا الأقدارَ.. تكّرونَ و تفرون..أما الجنودُ فكما تعلم..لا يحِقُّ لهم الا ما خُلِقوا لأجلهِ التقدم الى أمام وهذا الأمام لا يعني عندكَ الا الموت في محرقةِ شرفكَ وكرامتكَ لأنهم قرابينٌ رخيصة لنزقكَ.. لكنكَ نسيتَ أنَّ الجنودَ في الحربِ وفي اللعبةِ أيضاً اذا ماتوا سقطتْ كلُّ الأحجار تترى أتعرف لماذا ؟لأنَّ اللعبة ستستحيلُ من دونهم الى محضِ جنونٍ أصفر.. ستغدو انتحاراً ..حرباً مكشوفة دونَ غطاءٍ ودون معنى أيضاً.. وهذا ما يحدثُ أخيراً.. ما يحدثُ دائماً.. قيمة الجنودِ تكمنُ هنا.. فهُمْ غطائكَ.. درعكَ البشري.. لكنْ هل سمعتَ يوماً بتمردِ الأحجار على اللاعبين؟يحصلُ ذلك حينما تقتربُ من بعضها البعض فينفذ الهواء وتضيقُ الحياة بهم حدَّ الاختناق فتقفلُ مفاتيحُ اللعبةِ وتصلُ الى طريقٍ مسدود وتنتهي اللعبةُ على الفور ليحِلَّ محلهُ قانونٌ أخرق يولدُ هكذا دونَ موعدٍ مُسبق.. مثل موتٍ ينسَلُّ فجأةً من بينِ ثقوبِ الحياة لا يُستطاع حيالهُ فِعلَ أيَّ شيء.. تُقلبُ الطاولةُ على الجميعِ ويقذفونَ خارجَ اللعبةِ و خارجَ الحياةِ أيضاً.. سَمّهِ انْ شئتَ قانون التمرد..يحدث ذلك أيضاً حينما يَمَلُّ الجميعُ من سطوةِ قانون اللعب.. من ظلهِ الثقيل هل تخيلتَ حجم الكارثةِ؟
أيها الزعيم
أزِفَ الموعدُ منذ زمنٍ بعيد ودقَّتْ ساعةُ رحيلكَ.. انتهت اللعبة وتعبتُ أفلا تتعب؟ارحل الآن..غادرها قبلَ أنْ تغادركَ فالفائز فيها اليوم مَنْ يرحلُ أولاً لا مَنْ يبقى أخيراً..ارحل دونَ وداع.. دونَ ندبٍ أو لطمٍ أو شقِّ جيوب..احزم حقائبكَ ولا تترك لنا شيئاً يُذكرنا بك ..ابتعدْ قدرَ ما تبسط الأرضُ أفقها أمام عينيك..قدرَ ما يمكنُ لقدميكَ أنْ تصلا..ابتعد.. ماذا تصنعُ بوطنٍ يبتعدُ عنكَ.. يفرُّ منك.. وسيبتعدُ أكثر حتى يستحيل عصياً كضحكةِ أمٍّ أثكلتَها بجرةِ قلم.. قصياً كحلمٍ قديم….اللعبة انتهتْ.. لن ينفعَ بعد الآن أنْ تتلاعبَ بأحجاركَ.. تدفعُ هذهِ الى أمام وتسحبُ تلك الى الخلف كما كنتَ تفعلُ طوال عمركَ الطويل يا طويل العمر ..فلابد لكلِّ لعبةٍ مهما طالتْ من نهايةٍ ينفضُّ فيها اللاعبون ليُعرَفَ الفائز من الخاسر والنهاية دائماً أجمل ما في اللعبة بأسرها. ارحل سيدي فالدماءُ تملأ الشوارعَ ولن يسمحَ الوقتُ الا لمزيدٍ من الدماء فلا خيار لكَ الا في اختيارِ رحيلكَ.. أتراك قادراً اليوم على ذلك؟ستسمع ممن يتنططونَ بين يديكَ وقدميكَ يقولونَ لكَ أنْ رحيلكَ باهضٌ.. سيدعونكَ أنْ تُقامرَ بهم حتى النصر أو آخر ما تبق من أوراقٍ ..من أحجارٍ.. من دماءٍ.. سيدفعونكَ من الخلفِ ليطيلوا بقائكَ.. يطارحونك حبَّ البقاء فلا تنصتْ لهم..ثق أنكَ في لحظةٍ ما ستتلفتُ يمنة ويسرة لتحصيَ كم بقيَ منهم معك فلن تجدَ أحداً..احفظ ما تبقَ من ماءِ الوجهِ وصارحهم بالحقيقة ..قل لهم انتهى كلّ شيء.. قوانينُ اللعبةِ صارمة وصادمة أيضاً ولن تسمحَ لنا بالمزيد.
أنت الآن محاصرٌ خارجَ الزمانِ والمكان..ورقة محروقة..أملٌ من رماد..فأنصتْ أخيراً لصوتِ الدم..لا تعجبْ ولا تذهلْ لأنَّ لونهُ أصبحَ صوتي.. ووعدهُ نبوءتي……
فاليوم ..لا أقدس من دمي…. ولا أصدق من نبوءتي..
/6/2012 Issue 4219 – Date 6 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4219 التاريخ 6»6»2012
AZP07

مشاركة