ماذا في بستان عبد الله ؟
رؤية الزمن البهي – شكر حاجم الصالحي
قال لي صاحبي في لحظة حوار متشابك الأغراض والدوافع ما الذي يغريك في قراءة قصائد الشاعر ؟ اجبت على الفور و بدون خشية ، ان ما يغريني في هذه النصوص حميمتها وصدق انتمائها لمكان النشأة والصبا و ذكريات الشباب والأتراب ، والإستغراق في البحث عن ما هو مضيء في تأريخنا والتعلق بالوطن الذي تنهشه مخالب الظلام ، ناهيك عن حب الشاعر حميد سعيد لحلّته وورديتّها و أزقتها الباذخة بالضيق والفقر والعلاقات الإنسانية النبيلة ، فالشاعر أبن بار لمدينته الحلة وأهلها الاصلاء ، لا تجد في قاموسه اليومي غير التسامح والطيبة والوفاء ، فلا تفوح من كلماته مفردات غريبة فهو واضح وجرئ في قبول ما يراه صالحاً ولا مكان لكراهية الآخر مهما كانت الآراء متباينة مع من يحيط به ويحاوره ، وهذا هو حميد سعيد الشاعر والإنسان الذي لم يتوقف عن مساعدة من ينشدها في أحلك ظروفه حتى وهو في غربته الأردنية ظل متواصلاً مع من أحبه عبر وسائل الإتصال الالكتروني وإرسال إصداراته لمن يقرأها ويضعها في مختبر الفحص النقدي والإنطباعي الذي تستحقه ، هذا التمهيد لمدخل قراءتي الانطباعية لقصيدته المدهشة ــ بستان عبد الله ــ ، وقبل الخوض في القصيدة لابد من الإشارة الى ان ( عبد الله ) هذا هو كل عراقي صميمي أصيل امتلك بستانه الجميل ودافع عنه ببسالة رغم كل ما عاناه من طيش الصغار وشقاوتهم ، وأرى أن البستان هو إشارة دالة على الوطن المختطف مع أن بستان عبد الله هو موجود فعلاً في الجانب الصغير من الحلة . وهل يصح مثل هذا التأويل ؟ رغم أن الشاعر حميد سعيد موّه على ما في القصيدة من شفرات مخبوءة لكنها صادحة لمن يستطيع فك رموز سطورها ، تقول القصيدة :
في الشارع الليلي .. مصباحان مؤتلقان
بالـــنــور الشـــحــيــح
لم يبق غيرهما
فصيادو عصافير الحكومة
يوقعون الحارس التعبـــان
في عـــبث الـــطفولـــــــة
يدفعون به الى طرف المدينة
تم يندفعون نحـــــو النـــهر
رؤية الشاعر
مدخل يكشف عن رؤية الشاعر لما كان يجري في ذلك الزمن البهي من طفولة بريئة مشاكسة تعبر عن رفض ساذج لسلطة الحكومة من خلال إصطياد عصافيرها المتناثرة المتباعدة ، والعصافير ــ هي مصابيح الإضاءة الشحيحة الأضواء في شوارع الحلة التي لم تكن أغلب بيوتات أهلها تنعم بضوء تلك العصافير المصابيح ، وما يؤكد مهارة الشاعر في إستخداماته اللغوية يتضح من خلال إيقاع الفعلين : يوقعون ، يدفعون ، الذي منح الذائقة جمالاً باذخاً ومشاركة فعلية في تلك الأفعال التي تقع على الدوام في مدن الفقراء وأعود ثانية الى بستان عبد الله ( الدرداوي ) الذي تحوّل الى بنايات لمدارس حكومية في سنوات لاحقة ، ومازلت أتذكره جيداً ، فقد إستأجر الوالد بيتاً لنا في (( عكد النهر )) المقابل لبستان عبد الله الذي كان يضج بأصوات الطيور على انواعها ، وفي هذا البستان الجميل ظل خيال الشاعر منتجاً لهذه القصيدة التي إستحضرت الذكريات وغردت مع عنادله أجمل الألحان . ها هي القصيدة تتدفق مرة أخرى :
كلّ البساتين المحيطة بالمدينة .. لا يوافق مالكوها
غير عبد الله ……… ان تمتدّ أيـــــــديـــنا اليـــها
لم نخشــــه يـــومــاً … وهــم يخشــــون غضبتــه
فإن جعــــــــنــا يضيفّـــنــا
وان خفـــــنا تـــــــذكــرناه
عــــــــبــدُ اللـــــــــــهِ
عــــــبـــدُ اللـــــــــــهُ
كيف رضيت أن تطأ المنازل سلّة الرطب الجنيِّ
وأن تصير النخلة العيطاء ……… بعض خواء
نشيج الافكار
وهكذا يتواصل نشيج الإستذكار لزمن لذيذ تعلمنا منه قوانين المحبة والبراءة والتسامح رغم ما في تلك الأيام من حوادث أسرفت في محاصرة طفولتنا بأعرافها الموروثة ، والشاعر حميد سعيد في هذه القصيدة يتشبث بمفردات ذلك الزمن من لهو برئ وسطو جرئ على ثمار بستان عبد الله التي مازالت طازجة في اذهاننا رغم بشاعة الحاضر وقسوته ، ومع ما في النص من وجع و حنين ، فان الشاعر حميد سعيد ظل أميناً على تأريخ مدينته وبساتينها الوارفة الظلال ، وهذا ما يؤكد صدق الانتماء الحقيقي للمكان والزمان الذي شهد ( شقاوة ) الأطفال وبراعتهم في السطو على الثمار :
ماذا ســـتحــرس ُ ؟
دع لهذا الليل حرمتـــه ……. ودعــنا
أنتَ تعترض اللصوص .. لتتقي جوعاً
يشــــاركــنا ليــاليــنا
وعندي ما سيكفينــنا
وعندي ما أقـــــــولُ
فبندقيتك العجوز عصا
وليــــلك هــــــــــينُّ
ليل العراق هو الطويلُ
والمســـــــــــتحيـــلُ
نعم ان الشاعر يبلغ ذروة تألقه وصدق معاناته في هذا المقطع المعبّر عن رؤية واضحة لما سيجري لهذا البستان من تحولات مجهولة ومبهجة ، فصاحبه عبد الله ( الدرداوي ) مازال يقظاً رغم أنه يدرك أن ليل العراق طويل ومستحيل ، ولكنه يظل حذراً بوجه أصحاب النزعات الشريرة والأطماع الدفينة ، وتلك الوقائع ليست إلا الدليل على وعي متقدم بضرورة التصدي لمن يريد الشر ببستان عبد الله وبساكنيه الكثر :
وهـــــذه بستان عبد الله قادمـــة أراها
طلعت من الزمن الجديد ……. يمامه
ومن الحدائق …. وردة ……. وطنــاً
ومن قلبي قصيدة
مزهوة بالمجـــــــد واللغـــــة الجديدة
النخل و الزيتــــــــون يبتدئان منــــها
والسرور الصعب يوقظ في الاغاني البور
ذاكــــــرة الربيـــــع
ويدفع الأخطار عنها
ولا يكلُّ الشاعر الرائي من انتظار تحقق الأحلام وبلوغ ما يتمناه هو و عبد الله ، ففي القلوب الحلّيه أمل بغد أجمل و زمن أفضل كما يرى الشاعر مقاوم للرداءة رافض لما تنتجه من انكسارات و خيبات فــ :
كل غصن صار بستاناً
وعبد الله يعرف كل داليةٍ
ويعـــــرف كلّ ســاقيـــة
ويفتح قلبـــــــــه للقادمين
ويفتح الأبواب للشعراء والفقراء والعشاق
تمتلئ الســـــــــلال ويضحك الأطفال
نعم أن عبد الله بستانه كله ، اشجاره ، سواقيه ، أثماره وهو كغيره من الحراس الأمناء والكرماء سيظل فاتحاً قلبه و بيته و بستان عمره لكل الفقراء و الشعراء و العشاق وهذا هو ديدن العراقي منذ فجر التاريخ والى يوم الناس هذا ، أن قصيدة (( بستان عبد الله )) تعبير عن رؤية واضحة وايمان عميق بقدرة الخيرين على خلق مساحات شاسعة من الأمل والوضوح والصبر ، وقد تألق الشاعر حميد سعيد في ملحمته هذه التي تعسفت في قراءتها بهذا الانطباع الودود ………..