ذوبان السكر وعبور الديمومة

ذوبان السكر وعبور الديمومة

معتصم السنوي

بغداد

يدعو الفيلسوف المتفرد/ هنري برغسون 1859-1941  الى  ان نختبر تماما حركة الحياة في داخلنا وعدم ثباتها الخالص. او انه ايضا – كي نعبر بكلمات اخرى عن الواقع نفسه.. يبحث  عن الخاصية  المتحولة  للحياة والوعي، (فنحن  نعيش  في وقت واحد في الحاضر،  وفي الذكرى، وفي  التوقع)، ونشوؤهما المستمر. هذا الاكتشاف للبديهيات المفقودة هو قضية  تجربة مباشرة، وحدس، وانتباه بارع الى الباطن  وليس بقضية نظرية  خالصة على الاطلاق.

ما يكتشفه (برغسون) على هذا النحو ويدعو كل قارئ الى  تجربته من جانبه،  انما هو (الديمومة) وما من علاقة لهذه الديمومة  مع زمن الساعات المتكون من تتابع للحظات متساوية في هذا الزمن الموضوعي، يمكننا ان نقيس  فوارق دقيقة   – الفائز في سباق 100 متر حواجز على سبعة اعشار من الثانية  من الرقم القياسي العالمي. ويمكننا ا ن نحسب مسافات  محدودة (بهذه السرعة، سيصل القطار الى وجهته خلال 12 دقيقة و33 ثانية) والواقع اننا اذا امعنا النظر، فسوف نرى ان هذا الزمن الرتيب والقابل للحساب ليس الا..المكان! لا شيء يجعله مختلفا عنه : نمثله بخط  مستقيم، واجزاء من مستقيم، ونتخذ ارقاما  لهذه الاطوال فتغيب عن نظرنا طبيعة الزمن الخاصة.حين نفكر بالزمن على النموذج المكاني، نفقد الجوهري الذي هو (الديمومة) التي تمثل  زمننا المعاش المختلف  جدا عن زمن الساعات الرتيب والثابت، والمتواليات  القابلة  للحساب، والحق ان الزمن الذاتي، كما يعرفه كل انسان  بالتجربة، يتسارع  او يتباطأ n بحسب مشاعرنا . واثارتنا،  وسامنا (فلا نرى مرور الزمن) او على  العكس، يبدو الزمن متوقفا ويصير (بلا نهاية).

تتميز هذه الحركة الداخلية والمعاشة بالانتظار حيث لا نستطيع ان ننقل انفسنا واقعيا الى اللحظة اللاحقة. كان (برغسون) يقول : (يجب انتظار ان يذوب السكر). من خلال  الفكر استطيع ان اتخيل  ان الذوبان قد حصل. وفي الواقع، علي ان اعبر (الديمومة) من دون ا ن استطيع ادخار الانتظار (لا احد يقفز فوق الزمن) الا في الاحلام، وفي الحكايات الخيالية، وانتظار ذوبان السكر، تماما كوصول الحافلة، انما يؤكد عدم امكانية  الغاء الحركة الزمنية التي تحيي من الداخل الواقع الذي نعيشه، وعدم امكانية تفاديها، او تخطيها باية طريقة.

التمييز بين  (المكان والديمومة) هو الاكتشاف الذي لا  يكف  (برغسون/ عن متابعته، الى حد يمكن القول ان (حدس الديمومة) هو (الطريق الرئيس) بفكره. يشدد الفيلسوف  في اخر مجموعة دراسات الفن بعنوان (الفكر والمتحول) (1939) قائلا: اما هذه الديمومة  العصية على القصور والتعبير، التي يلغيها العلم ، فنحن نشعر بها ونعيشها).

يرتكز جهد (برغسون) باكمله على التامل في داخل اثر الديمومة، وعلى التفكير  في صميم الحي الذي  يتحرك  فينا، وعلى  محاولة عدم خلق تشابك تصورات مشوهة، وهكذا ينكب على اخراج الاسئلة، وحتى على طريقة طرحها من الاطار السكوني السائد. وباختصار  يجهد في اعادة الفكر الى المفاجأة، الى البروز الممكن لما هو غير متوقع. هو ذا  ما قد يزعج ويربك . (وبرغسون) لا يجلهله : (الحقيقة  ان الفلسفة لم تعترف علنا ابداً بهذا الخلق المستمر للحداثة  غير المتوقعة) ..! وما يهمنا الان، وبعد ان اصبح الانسان في هذا الزمن  يعيش في زاوية حادة ودائرة مغلقة تضيق عليه كلما حاول المطالبة بحقه المشروع ليجد نفسه المتعبة وسط (حيتان) المال والسياسة وهي تمارس شريعتها (السمكة الكبيرة تاكل الصغيرة) وتحول الوطن الجريح  الى مزرعة  مشاعة يدخلها من يشاء ويخرج منها متى شاء ..! ليس امامنا ونحن بين الحياة والموت الا ان تتضافر جهود الخيرين من القوى الحريصة على بناء مواطن واع لاهمية صوته الانتخابي ودوره في صنع القرار  لضمان وصول قوى ديمقراطية  تتعامل  (بروح المواطنة) وليس شعارتها ما يعزز ثقة المواطن ببرلمانه وحكومته واشراكه  في كل  عمليات سياسة الدولة عبر نوابه وممثليه الحقيقيين واستبدال كل من لم يثبت جدارته وقدرته على الابحار بسفينة العراق  الى شواطئ الامان وعبر التحالف  الواسع القوى الديمقراطية وقواعدها الناشطة وبين صفوف  الجماهير  الباحثة عن الخلاص من دعوات وشعارات (التهيج الطائفي) المخيف والمتربص بامالنا وما يجنبنا تكبد خسائر اضافية من ارواح ابنائنا..!

علينا تجاوز (الديمومة) وعدم انتظار (ذوبان السكر) ونحذر من (القفز فوق الزمن) فأنه يؤدي الى فقدان التوازن والسقوط في الهاوية..!

مشاركة