محافظة ديالى نموذجاً
ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم – قتيبة آل غصيبة
ان الاحداث المروعة التي تتجدد في محافظة ديالى بأستمرار دون وضع الخطط الناجعة للقضاء على جرائم القتل الجماعي للمدنيين والاستهداف الشخصي لنخبها العلمية والاجتماعية وتفشي تجارة المخدرات والتهريب فيها ؛ ذكرتني بما كتبه الشاعر والمؤرخ ابن عبد ربه الاندلسي ( 328 ه – 940م) في كتابه الموسوعي العقد الفريد (ج1 – ص117) في رسالة عمر بن الخطاب الى سعد بن ابي وقاص قائد جيش الفتح الإسلامي في العراق؛ يقول فيها : (أما بعد فإني آمُرك ومن معك من الاجناد بتقوى الله على كل حال؛ فإن تقوى الله أفضل العدُّة على العدو؛ وأقوى المكيدة في الحرب؛ وآمُرك ومن معك أن تكونوا أشد أحتراساً من المعاصي منكم ومن عدوكم؛ فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم …….ولا تعملوا بمعاصي الله وانتم في سبيل الله…. و اسألوا الله العون على انفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم… وليكن عندك من العرب او من أهل الأرض من تطمئن الى نصحه وصدقه؛ فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدَقَك في بعضه؛ والغاش عينٌ عليك وليس عيناً لك …واجعل أمر السرايا الى اهل الجهاد والصبر على الجلاد؛ ولا تخص بها أحداً بهوى؛ فيضيع من رأيك وأمرك أكثر مما حابيت به أهل خاصتك…والله المستعان).
لقد أثبتت وقائع الاحداث ان أغلب الجرائم التي حدثت في ديالى؛ كان مرتكبيها من القيادات المحلية للحشد الشعبي وفصائلها ؛ فقد مارسوا كل الاعمال المخالفة لقوانين السماء والارض؛ وتغولوا في جرائمهم؛ حتى أضحت معظم مناطق ديالى مسرحاً للجرائم المنظمة؛ يقودها عناصر نافذة في الحشد الشعبي؛ وهو امر يؤسف له ؛ لأن الحشد الشعبي قدَّم خيرة رجاله لتحرير المحافظات التي سقطت بأيدي مجرمي داعش؛ لينتهي الامر بهذه الانتصارات الكبيرة؛ الى ممارسات إجرامية خطيرة من قبل عناصر ضالة من منتسبيه؛ عبثت بأمن المواطنين والسلم الاجتماعي في ديالى؛ والغريب بالأمر ان معظم القيادات الامنية في ديالى كان لديها معلومات تفصيلية عن هذه المجاميع والعصابات ؛ إلا ان ردود افعالها كانت شكلية؛ لأن هذه العصابات كانت على ما يبدو تحظى بدعم من بعض السياسيين والمسؤولين الحكوميين؛ وكان من الاجدر بقيادة هيئة الحشد الشعبي؛ التصدي مبكرا لهؤلاء العابثين بأمن الوطن والمواطن؛ لأن جرائم هؤلاء تسيء لسمعة القوات المسلحة والدولة عموما؛ والحشد الشعبي على وجه الخصوص بإعتباره أحد مفاصل القوات المسلحة؛ فالسكوت عن ألاخطاء والجرائم المرتكبة بحق المواطن وعدم الاهتمام بمعالجتها يؤدي الى كوارث جديدة لا سمح الله؛ وما سقوط الموصل وصلاح الدين والانبار و أجزاء من محافظة ديالى عنا ببعيد؛ فكلما كثرت اخطاء وجرائم منتسبي القوات المسلحة كلما زادت الفجوة بينهم وبين المواطنين؛ وفقدت القوات المسلحة الاتصال الايجابي بالناس؛ الذي يعتبر اهم الاسس في محاربة الإرهاب ، وفي هذا الصدد يذكر الجنرال البريطاني “روبرت سميث” في كتابه “جدوى القوة” : ( إذا كان طرف ما يدير عملياته وسط الناس؛ وكان هدفه إقامة وتثبيت حالة نظام يمكن ان تستقر فيه التدابير السياسية والاقتصادية؛ يكون بذلك يسعى ضمنا لإقامة حكم القانون كهدف استراتيجي؛ ما يعني أنك إذا عملت أمراً خارج القانون؛ فإنك تضرب بذلك هدفك الاستراتيجي ، وهذا ما حصل عمليا في حوادث إساءة الجنود الامريكيين معاملة المواطنين العراقيين؛ والاسرى في سجن أبو غريب في بغداد؛ وما فعله الجنود البريطانيون في البصرة سنة 2004. وكذلك توفر هذه الممارسات والسياسات دليلا يدعم خصمك فيما يتبعه من استراتيجية تحريض ودعاية؛ تساعده على كسب تأييد الناس و تأليبهم عليك ، وان الهدف من جميع ما تخوضه القوات المسلحة من عمليات وسط الناس هو كسب إرادتهم؛ وإذا كنا نريد دولة مستقرة وتخفيف الاعباء على قواتنا؛ يجب ان يكون الناس راضين بما فيه الكفاية عن النتيجة التي يجب ان تظل سليمة ….. وفي جميع الاحوال يجب أن يكون أولئك الذين يقومون بعملياتهم وسط الناس والناس الذين يتحركون وسطهم على بينة من القانون المطبق المبني على القانون الانساني الدولي. ) .
ضامن وحيد
من المؤكد ان تطبيق القانون على الجميع بعدالة وشفافية دون تردد او محاباة هو الضامن الوحيد للحد من هذه الجرائم المتكررة؛ ووجوب معالجة ومحاسبة مرتكبي صغائر الاخطاء والمخالفات قبل ان تنمو لتصبح مُعدية وتنتشر لتصيب ألآخرين من المنتسبين؛ وعند ذاك يصبح الامر أدهى وأمر؛ فإن معظم النار من مستصغر الشرر.
وهنا لابد من الاشارة الى شمول جميع منتسبي القوات المسلحة بما فيها الحشد الشعبي؛ للإلتزام بالقانون وعناصر التنظيم والادارة والضبط العسكري؛ فجميعها تعتبر العمود الفقري للقوات المسلحة؛ ولا يمكن لأي جيش قوي في العالم ان يتخلى عنها؛ وان الضبط العسكري المستند الى التنظيم الجيد والقوانين العادلة يعتبر المعيار الحقيقي لحسن إداء وكفاءة القوات المسلحة؛ فقد ابدى الكثير من القادة على مر التاريخ اهتماما متزايدا وأستثنائيا بالضبط العسكري؛ حيث جاء في مقدمة كتاب “فن الحرب” للقائد العسكري “صن تسو” ( ت : عام 496 ق.م) : (ان ملك الصين طلب من صن تسو ان يضع اختبارا عمليا لنظرياته في إدارة الجنود؛ فاقترح على الملك إجراء التجربة على جواري الملك؛ فوافق هذا الاخير؛ وعلى الفور؛ تم تجهيز 300 إمرأة من جواري قصر الملك؛ قسمهن صن تسو الى مجموعتين؛ وعيّن على رأس كلتا المجموعتين إحدى المحظيات من الجواري؛ ثم ألبسهن الدروع وأمرهن بأن يتسلحن بالسيوف والحراب في أيديهن؛ ثم خطبهن قائلا ” أعتقد أنكن تعلمن الفرق بين الامام والخلف واليد اليمنى واليسرى ؟ ” أجابته النسوة “نعم”، فمضى صن تسو قائلا : ” عندما أقرع الطبول وأقول انظرن للأمام؛ فيجب عليكن النظر للأمام”؛ وعندما أقرع الطبول وأقول “دُرّن لليسار” فيجب الدوران بإتجاه ايديكن اليسرى… وهكذا باقي الاتجاهات ، فأجابته النسوة بأنهن قد فهمن الاوامر المذكورة ، ثم على دقات الطبول اعطى أوامره “دُرّن لليمين” لكن النساء انفجرن في الضحك ولم ينفذن الامر؛ ثم كرر المحاولة وأعطى أوامره دُرّن لليسار ؛ لكن النساء انفجرن في الضحك ولم ينفذن الامر ؛ ثم كرر الاوامر ثلاث مرات وقرع الطبول ولكن دون جدوى؛ فقال ” إذا كانت الاوامر واضحة ومميزة ومفهومة ولم ينفذ الجنود الاوامر فالخطأ يقع على الجنود ” ؛ ونتيجة لعدم تنفيذ الاوامر ؛ أمر صن تسو بإحضار القاضي العسكري الى ساحة الميدان؛ وسأله في ساحة الميدان؛ ما جزاء عصيان الاوامر العسكرية فأجابه القاضي: العقوبة الاعدام ؛ وعليه أمر صن نسو بإعدام قائدتي كلتا المجموعتين أمام زميلاتهن؛ وعلى الرغم من عدم رغبة الملك في خسارة جاريتيه المحظيتين عنده؛ و أبلغ صن تسو بذلك ؛ فأجابه صن تسو : ” بتكليفكم لي قيادة قواتكم العسكرية؛ فإن هناك بعض أوامركم التي لا يمكنني قبولها وأنا تحت هذا التكليف “؛ وتم إعدام القائدتين أمام النسوة ؛ ثم أمر على الفور تعيين من تليهن في الحظوة لدى الملك كقائدتين للمجموعتين؛ وتم إستئناف التدريب على صوت الطبول فلم يضحك أحد؛ وتقدمت النسوة في التدريب العسكري بكل دقة وانضباط ، ثم ارسل صن تسو الى الملك قائلا : ” لقد تم تدريب وتنظيم النسوة وهن الان على اتم الاستعداد لكي تستعرضهن؛ ويمكنكم الان استخدامهن في أي واجب ؛ حتى اذا تطلب الامر ان يخضن خلال الماء والنار …ثم أمر الملك بتعيين صن تسو القائد العام للجيوش …وتشير المخطوطات الصينية كذلك كيف انتصر صن تسو بجيش قوامه 30 الف جندي على جيش عدوه الذي قوامه 200 الف جندي؛ بسبب افتقار عدوه الى عناصر التنظيم والادارة والضبط.). في هذه الحادثة تجربة عملية ومثالا واضحا على أهمية الضبط العسكري؛ فالضبط العسكري يشير إلى النظام الذي يتم فرضه على الجنود والقوات المسلحة خلال العمليات العسكرية والتدريبات والمهام الأخرى. يتمثل هذا النظام في مجموعة من القواعد والإجراءات التي تهدف إلى تنظيم سلوك الجنود وتوجيههم نحو تحقيق الأهداف المنشودة؛ والحفاظ على سلامة الجنود والحفاظ على الأمن القومي ، ويعتبر الضبط العسكري من أهم العوامل التي تساعد في تحقيق النجاح في المهمات العسكرية وتطوير الأداء العسكري بشكل عام، ويعمل أيضا على تحسين الأداء العسكري من خلال تعزيز التدريب العسكري والإعداد للمهام القتالية، وتوجيه الجنود نحو تحقيق الأهداف بأفضل الطرق الممكنة؛ فقد أشار الفيلسوف الايطالي ميكافيلي ( ت : 1527م)؛ في كتابه فن الحرب؛ عن افضل الجنود؛ قائلا:( بلا شك الرجال الشجعان غير المنضبطين أضعف بكثير من الجبناء المنضبطين؛ لأن الانضباط يطرد الخوف من الرجال ولكن عدم ألانضباط يقلل الشجاعة لديهم.).
ان الضبط العسكري للقوات المسلحة؛ يحافظ على الثقة العامة التي يحتاج اليها المواطن والمجتمعات المحلية؛ بجيشهم وقواتهم المسلحة، كما انه يعمل على الحفاظ على هذه الثقة، وتوفير الدعم والتأييد اللازم للعمليات العسكرية المختلفة.
وبلا شك فإن الاجراءات الاخيرة والمتابعة الميدانية من قبل القائد العام للقوات المسلحة؛ قدمت للناس في محافظة ديالى نجاحا امنيا ملحوظا؛ وستكون بالتأكيد ناجحة في باقي المحافظات؛ التي تعاني من مشاكل العابثين بأمن المواطنين وسلامتهم.
وكذلك يتطلب الامر إجراء مراجعة شاملة ودقيقة وحملة إصلاح للقوات المسلحة بما فيها فصائل الحشد الشعبي، دون محاباة ومجاملة لأي حزب او جهة سياسية؛ ولضمان ذلك كخطوة اولى استبعاد القوات المسلحة بكافة تشكيلاتها ومن ضمنها الحشد الشعبي عن الانتخابات والادلاء بأصوات منتسيبها لصالح اي جهة او شخصية سياسية في الدولة؛ لأن القوات المسلحة مسؤولة عن حفظ امن البلد بعيدا عن السياسة والاحزاب.
وبناءً على ما سبق، فإن ضعف الضبط العسكري المقترن بالفساد ؛ يعتبر عاملاً سلبياً يؤثر على أمن المواطنين والدولة؛ ويجب أن تعمل الحكومة والمؤسسات الأمنية والعسكرية بشكل جاد على تحسين الضبط ومكافحة الفساد والمحافظة على الأمن والاستقرار في الدولة ، ويجب أن يتم تعزيز الشفافية والمساءلة وتطوير أنظمة الرقابة والمراقبة لتحسين أداء الأجهزة الأمنية والعسكرية وضمان الحفاظ على أمن المواطنين والدولة بشكل فعال.
برامج تدريبية
علاوة على ذلك؛ يجب أن تعمل الحكومات والمؤسسات الأمنية والعسكرية على تطوير برامج تدريبية لتحسين كفاءة العاملين في هذه الأجهزة وزيادة وعيهم بأهمية دورهم في حفظ الأمن والاستقرار؛ ويجب أيضاً تشجيع الابتكار والتحول الرقمي في الأجهزة الأمنية والعسكرية لتحسين أدائها وزيادة كفاءتها وتحسين عمليات الرصد والمراقبة.
وفي النهاية؛ يجب أن يكون هناك إرادة سياسية قوية وجادة لمكافحة الفساد وتحسين الضبط العسكري، وهذا يتطلب تعاوناً وتنسيقاً بين الحكومة والمؤسسات الأمنية والعسكرية والمجتمع المدني ووسائل الإعلام؛ ويجب أن يشعر المواطنون بالثقة في قدرة الحكومة على حمايتهم وحفظ أمنهم واستــــقرار بلدهم؛
وهذا لا يمــــــكن تحقيقه إلا برفع مستوى الضبط العسكري ومكافحة الفساد …..والله ثم الوطن من وراء القصد.