ذكرياتي عن الساعات الأولى لإنـدلاع الحــرب العراقية-الإيرانية – صبحي ناظم توفيق

ذكرياتي عن الساعات الأولى لإنـدلاع الحــرب العراقية-الإيرانية – صبحي ناظم توفيق

قبل 45 سنة في يوم الإثنين 22 أيلول/سبتمبر1980 كنتُ برتبة «مقدم ركن» في إحدى شُعَب مديرية التدريب العسكري بوزارة الدفاع ، عندما إندلعت الحرب العراقية- الإيرانية، التي تصوّرها معظم الخبراء الستراتيجيين أنها سوف لن تستغرق أكثر من بضعة أسابيع، ولكنها طالت 8 سنوات عُجاف!!!

ولكي لا ننسى ويفوتنا قطار العمر أضع أمام ناظرَي القراء الكرام ذكريات الساعات الأولى من سنوات هذه الحرب التي إقتبستها من مسودات مذكراتي الشخصية، لـمّا كانت ساعات الدوام الرسميّ الصباحيّ على وشك الإنقضاء لنعود إلى بيوتنا بعد ظهر ذلك اليوم، حين هاتَفَني إبن خالتي “المقدّم الركن سعد عبد الهادي العَسّاف” ضابط الركن الشخصيّ لمدير الحَرَكات العسكريّة، ليُفاجئني أنّ طائرات قوّتنا الجويّة أقلَعَتْ نحو أعماق “إيران” وهي الآن تضرب وبتوقيت مُوَحَّد وفي هذه اللحظات جميع قواعدها الجويّة غربي البلاد.

فوجئتُ بالتوقيت ولكن من دون أن أُفاجأ بالخبر، فالأمر كان مُتوقَّعاً مع تصاعد الخلافات بين نظامين سياسيين يقودهما منذ شباط 1979 وتموز 1979 على التوالي، رجلان ثوريّان عنيفان يستحيل أن يلتقيا في عقيدتيهما المُتناقضتَين بواقع 180 درجة في كل شيء… ولكنّي هَمَمْتُ أنْ أكون سَبّاقاً فأُعْلِم السيد مدير التدريب العسكري “اللواء الركن طارق محمود شكري” ثم مدير شعبتي “العميد طالِب حَمَد العَبدالله” وضباط ركن شعبتنا ومديريتنا بهذا الخبر الجَلَل، حتى فوجئتُ بالزميل «العقيد أسامة حسن» مرتبِكاً وهو يصرخ بِنَبرة عالِية في المَمَرّ الوَسَطيّ لمبنى مديريّتنا:- الحرب بدأت يا ناس… الحرب الحرب يا جماعة.. لا حول ولا قوة إلا بالله… ماذا سنعمل؟؟!! وإلى أين سنمضي؟؟!!.

ولربما كان التوقيت المُحدَّد للضربة الجويّة الأولى بالساعة الثانية من بعد الظُهر مُتَناغِماً مع ذلك الذي حدَّدَتْه القيادتان المصريّة والسوريّة عند قرارهما خوض حرب تشرين أوّل/أكتوبر1973، وذلك تفاؤلاً مع المُباغَتة الهائِلة وغير المَسبوقة في تأريخ الصراع العربي- الإسرائيلي، والتي حقَّقَتْها طائرات الهجوم الأرضي للبلدَين بنجاح مشهود قُبَيْلَ أنْ تُباشِر القوات البرّية المصريّة بعبور قناة السويس لِتَسحَق خطّ الجَنَرال «حاييم بارليف” المَنيع، الذي أُعْتُبِرَ من أحصَن المَوانِع الإصطناعيّة وأفضلها بعموم القرن العِشرين، في حين كانت دبّابات الجيش السوريّ ومدرّعاته، وبتوقيت مُنَسَّق، تجتاح  هضبة الجولان المُحتَلّة منذ نكبة العرب في حرب حزيران 1967.

قراءة بيان

في تلك الساعة قطَعت وسائل الإعلام العراقيّة المرئيّة والمسموعة برامِجَها الإعتياديّة وباشَرَتْ بقراءة البيان الأوّل الصادر من القيادة العامّة للقوّات المُسلّحة، والذي سنَعلَم لاحِقاً أنّ الرئيس «صدّام حسين» قد كتَبَ عباراته الحَماسيّة بخطّ يده- مصحوباً بأناشيد وطنيّة وقوميّة تتغنّى بأمجاد العراق وتأريخ العرب وعظام الأجداد من تلك التي لم تُبَثّ من قبلُ، وتبدو أنّها أُعِدَّتْ مُسبَقاً وسُجِّلَت في ستوديوهات الإذاعة والتلفاز لِتُبَثَّ حصراً بهذه المُناسبة، وقد جَلَبَت الأسماع وسط أبياتِها ورود إسم “صدّام” في مُعظمها، وبشكل لم يَعتَد عليه العراقيّون، فمنذ زوال نظام حكم “الفريق الركن عبد الكريم قاسم”(1963)، لم يُقحَمْ أيّ من أسماء الرؤساء “عبد السلام وعبد الرحمن عارف، وأحمد البكر” ولو في أُنشودة واحدة طيلة ما يربو على(17) عاماً إنقضى.

سارَعْنا جميعاً لمُهاتَفَة زوجاتِنا وأولادِنا المُشَوّشين في دواخلهم خوفاً على أنفسهم وعلينا، باذِلين جهداً لبعث البعض من الطمأنينة في نفوسهم وإرشادهم نحو ما يستوجِب منهم من إستحضارات الإختِباء في أماكن محدّدة من بيوتنا إتّقاء الضربات الجويّة المُقابِلة المتوقعة للطائرات الإيرانيّة، والتي من المُؤكَّد أنّها قادِمة في الساعات القليلة القادمة، موعِزين إليهم بإرسال حقائِبنا الجاهِزة تحت أيديهم إلى دوائرنا صُحبَةَ سائقي سيّاراتنا العسكريّة، فلا حاجة بنا من بعد الآن إنتظار أمر رسميّ يُشمِلُنا بإنذار أقصى من مستوى “ج”.

بعد حوال ساعتين علمنا أنّ الرئيس صدّام حسين مُرتَدِياً بدلة قتال عسكريّة للمرة الأولى في حياته، قد تَرَكَ القصر الجمهوريّ بصحبة “الفريق أوّل عدنان خيرالله” قد توجّه ظهر ذلك اليوم إلى “قاعدة الرشيد الجويّة” ليستقبل العديد من الطيّارين العائدين من أعماق الأجواء الإيرانيّة بعد أداء مهمّاتهم الأولى، وذلك قبل أنْ ينتقل إلى مبنى وزارة الدفاع ليستقرّ في «قَبو» تحت الأرض يقع على مَبعَدة بضع عشرات من الأمتار عن مديريّتنا ويتّخذه مقرّاً له، وقد أحاطَ به كبار القادة من أعضاء القيادة العامّة للقوات المسلّحة، حيث حاصَرَ أفراد حمايته الخاصّة المُدَجَّجين بمُختَلَف الأسلحة تلك البقعة من الوزارة، والذين كان “المقدّم صباح مرزا” يقودهم بمُعاونة المُلازِمَين “حسين كامل حسن و عَبْد حَمِيد حمُود”، قبل أن يفرضوا أشبه ما يكون بحظر التجوال حوالي مبنى القبو، ومنع أي شخص من الإقتراب من الخطوط التي حَدَّدوها، ولأيّ سبب كان ومهما عَلَت رتبته ومنصبه.

وبينما عادت طائراتنا بخسائر طفيفة مُستَغرِقةً حوالي ساعتَين في تنفيذ كامل الخطّة الموضوعة للضربَتَين الجويّتَين، وذلك بعد أنْ أُسقِطَتْ طائرتان فقط من مجموع ما يقارب 200 طائرة ما بين قاصفة وهجوم أرضي كانت قد شاركَتْ بالقصف وحماية أجواء العراق بالمقاتلات الإعتراضية،  وحققت مُباغَتة عملياتية نظراً لمحدوديّة عدد المقاتلات المُعتَرِضة الإيرانيّات التي حاولت اللِّحاق بطائراتنا وضآلة الدِفاعات الأرضيّة التي إستطاعت فتح نيرانها نحوها، فإنّ أعظم الآمال والتقديرات خابَتْ في القضاء على القسم الأكبر من طائرات القوّة الجويّة الإيرانيّة مثلما دَمَّرَ الطيران الإسرائيليّ العمود الفقريّ للقوات الجويّة المصريّة حَاسِمَاً الحرب لصالح الكيان العبري في غُضُون ساعاتها الأولى من صبيحة يوم 5 حزيران 1967، فقد كان الإيرانيّون في قواعدهم الجويّة القريبة نسبياً من الحدود العراقية حَريصِين تماماً على إيواء جميع طائراتهم في ملاجئِها المُحَصَّنة التي حَمَتْها من القصف العراقيّ، لذلك لم تَقَع خسائر كبيرة في الطائرات الإيرانيّة الجاثمة على الأرض، ولم يُقْصَمْ ظهرها… وبمعنىً يقيني آخر فإنّ التَفَوّق الجويّ العراقيّ لم يتحقّق في سماء البلدَين معاً، وبالمُحَصِّلة الأوّليّة فإنّ الطيران الإيرانيّ الأكثر حجماً وعدداً وإقتداراً وكفاءة سيظلّ متفوقاً وفعّالاً يُحسَب له ألف حساب، سواءً في أخذ الثأر بضربات مُقابِلة من جهة، وسوف لن تتمتّع تشكيلات الجيش العراقي بالحرّية الكافية لدى تقدّمها المفترَض ومعاركها البرّية، وينطبق الحال نفسه على قوّتنا البحريّة.

وقد فَسَّرنا أسباب ذلك التَحَوّط الإيرانيّ أثناء مُناقشاتنا الليليّة بعدئذٍ -كأصدقاء- في أكثر من منحىً… أوّلها:- يحتمل أنّ مُخابراتهم العامّة وكذلك إستخباراتهم الجويّة قد وَصَلَتهُما الأخبار مُسبَقاً، فأُحِيطَتْا عِلْماً بخطّة الضربة العراقيّة وموعد تنفيذها، وليس ذلك بالمُستَغرَب مُطلَقاً ما دامت لهم عيون في العراق وقوّاته المُسلّحة، بما فيها القوّة الجويّة… وثانيها:- أنّ مُنتَسبي القوّة الجويّة الإيرانيّة المُدَرَّبين منذ عهد الشاه المخلوع محمد رضا بهلوي المُتحالِف مع الغرب والمُتاخِم بدولته التي كانت إحدى البلدان الأعضاء بحلف “سِـنْتو SENTO”، قد حِرصوا على تطبيق هذا النهج في قواعدهم بإيواء جميع الطائرات في ملاجئها المحصّنة مع إنقضاء الحاجة اليومية، وبالتأكيد قبل إنقضاء ساعات الدوام الرسميّ بعد الظهر…. فإستنتَجنا أنّ واضعي خطّة العمليّات الجويّة والموافقين عليها، والذين حدّدوا ساعات ما بعد الظهر-حسب توقيت إيران- موعداً لبدء الضربة، لم يكونوا مُوفَّقين أبداً، وأنّ الذي أمَرَ بذلك قد أخَذَتْهُ العاطِفة فَتَيَمَّن بـ”حرب تشرين/أكتوبر”، ومن دون أنْ يضع نُصب عينيه وعقله نقاط الضعف والقوّة وعوامِل موضوعيّة أخرى وقَدِّر الموقف على أساسها، قبل أنْ يتّخذ قراراً نِهائيّاً حيال جميع الأمور وبضمنها التوقيتات، لأنّ الحرب مصير شعب ووطن للّذي يعرف معناها، وليست ألعوبة أطفال أو عِراك أشخاص يقرر عليهما الجهلة الذين لا يعرفون معنى الحرب، ويتصورونها مجرد حمل بندقية أو إستخدام سلاح شبيه في خلاف عشائري أو  بين الأقارب والجيران.

وفي تلك الساعات المُحرِجة جَلَبَ أنظارنا عدد من الجنود الحامِلين على أكتافهم سلاحاً يُسمّى “سِتْريلاّ/سام-7” وقد قرأتُ عنه بالمجلاّت والدوريّات من دون أنْ أراه عن قرب حتى تلك اللحظة، وهو مُصمَّم ليُطلَقَ منه مقذوفات مُسَيَّرَة برأس راداريّ نحو طائرات مُعادية تحلّق ولو بأخفض الإرتفاعات وبسرعات عالية، ويصل مداها الأفقيّ إلى 4500 متراً، وقد إتّخذوا مواقع مُحَدّدة على السطوح العُليا لمباني الوزارة، فيما كان آخرون يرصدون جميع أجواء بغداد بنواظير مُكَبِّرة وبإشراف ضابطَين مُختَصَّين، في حين كنّا توّاقين لسماع أخبار أحدث عن إنطلاق تشكيلاتنا البرّية نحو العُمق الإيرانيّ ، وننتظر في كلّ لحظة أنْ نسمع هدير طائرات إيرانيّة وهي تقتحم أجواء عاصمتنا، حيث لا بدّ من أنْ نحسب بأنّ مبنى وزارتنا سيكون من أولى أسبقيّات الأهداف المُدرَجة في قوائم القصف الجويّ القادم لأسراب الطيران الإيرانيّ!!!!

قوة عراقية

ولكن، لا طائرة إيرانيّة إخترقت سماء “بغداد” عصراً ومساءً وليلاً، ولا قوّة بريّة عراقيّة تقدّمَتْ نحو “إيران” طيلة 16 ساعة مَضَتْ منذ بدء الغارات الجويّة…. وفيما كانت الإستحضارات الكبرى في قواعدنا ودفاعاتنا الجويّة والبحريّة والأهداف الستراتيجيّة والمُنشآت النفطيّة في عموم البلاد، فقد كنّا نتهيّأ في تلك الليلة لنستقبل الفجر، والذي ما أنْ سطَعَتْ شمسه صبيحة الثلاثاء 23 أيلول بحدود الساعة السادسة حتى إنطلقت صفّارات الإنذار المُزعِجة والمُحَذِّرَة من الغارات الجويّة، والتي لم يتوقّف نَعيقُها المزعج حتى المساء، إذْ إستهدَفَتْ أولى الضربات “قاعدة الرشيد الجويّة” بالساعة السادسة والنصف بـ(4) طائرات أُسقِطَتْ إحداها بفعل المُقاوِمات الأرضيّة، وجاءت الضربة الأُخرى على المدينة السكنيّة لعوائل الضباط في “حيّ المُثنّى/زَيّونَة”، فهاتفتُ زوجتي مع بناتي اللواتي كُنَّ يرتعدنً من هَول الإنفجارات وإنفلاقات مقذوفات مدافع مقاومة الطائرات المُنتَشِرة في كلّ أحياء بغداد من دون إستثناء، حيث لم يكن العراقيّون قد عاشوا حرباً بهذه الشاكلة طيلة أعمارهم.

 وذلك قبل أنْ يشن الطيران الإيراني على عموم العراق غارات ثالثة ورابعة، وعاشرة….

وفي مبنى وزارة الدفاع، وبينما هَرَعَ جميع الخُبَراء السوفييت، الذين يستضيفهم البعض من دوائرنا، إلى الخنادق التي حُفِرَتْ سراعاً وبشكل بدائي بإستخدام المعاول والمجارف لإتّقاء تأثيرات الضربات الجويّة، فقد كنّا -نحن ضبّاط الوزارة جميعاً- واقِفين بقاماتِنا في أرصفة الشوارع، نَتَرَقَّب الطائرات الإيرانيّة وهي تتسلّق عالياً نحو السماء بعد تفريغ حمولاتها من القنابر والصواريخ على مواقع لم نكن مُقتدِرين على تشخيصها، وذلك قبل أنْ تَتَلَقّف قذائف دفاعاتنا الأرضيّة عدداً منها لنَراها وقد تحوَّلَتْ نِثاراً فوق “بغداد”، حتى صرخ خبير سوفييتيّ برتبة “مُقدّم»، وقد فَقَدَ بعض أعصابه:-

((يا رِفاق، هل أنتم مَجانين؟؟؟… عليكم أنْ تعلَموا بأنّ قنبرة واحدة زِنَة ربع طن فقط، لو إنفلقتْ وسط هذه المباني العتيقة وغير المُحَصَّنَة بالمَرّة، فإنّكم ستُدفَنُون بين أنقاضها، ولن يُعثَرَ على شُتات أجسادكم!!!))…. ولكن، وعلى الرغم من ذلك التحذير الواقعيّ والمَنطقيّ، فإنّ عدداً يسيراً من الضباط فحسب إرتضى على نفسه أنْ ينزل إلى إحدى تلكم الحُفَر، وبالأخصّ بعد أنْ باتوا يُشاهدون “صدّام حسين وعدنان خيرالله والفريق شنشل وأحد معاونيه” وعدد من كبار قادة الجيش والقوات المسلّحة لدى وزارة الدفاع، وهم واقفون عصر ذلك اليوم في شُرفة ديوان الوزارة ينظرون إلى السماء، وعلى وجوههم إبتسامة عريضة، مُكرِّرين ذلك باليوم التالي في ظلّ أحلك الساعات الساخنة لأعنف الغارات الجويّة الإيرانيّة!!!.

 أمّا أنا، فقد كنتُ أكثر تَهَوّراً من زملائي لشغفي بالطيران وحاصلاً على شهادة الطيران الخصوصي P.P.L، وتوّاقاً من كلّ أعماقي لأراقب بأمّ عينايَ ولو إشتباكاً جويّاً واحِداً كنتُ أنتظره بفارغ الصبر من كلّ صميمي يمكن أنْ يحدث بين طائراتنا المُقاتِلة المُعتَرِضة من طرازَي “ميك-21 و ميك-23” سوفييتيّة المَنشأ، ومقاتلات إيرانيّة أمريكيّة المنشأ من الطُرُز “فانتوم F-4، تايْـكَر F-5، توم كات F-14”، وقد تسلّقتُ إلى سطح المبنى الوزارة لأقف على مقربة من جنود قاذِفات الصواريخ “ستريلاّ” أتَرَقَّب عن كَثَب تلك المَناظر غير المسبوقة لأشاهدها بشكل أفضل بكثير مِمَّن ظلّوا في باحة الوزارة… ولكن أية طائرة عراقيّة لم تقلَع لِتَشتَبِك مع الأعداء، فقد وقَعَتْ القوّة الجويّة الإيرانيّة في((الفَخّ)) الذي هُيِّءَ لها، وسنعلم بعدئذٍ أنّ الخُطّة العراقيّة قَضَتْ أنْ تُجابَه الطائرات الإيرانيّة بالدفاعات الأرضيّة -التي كانت مُعَدَّةً من حيث الأساس لمواجهة “إسرائيل”- وغَدَتْ فاعِلةً، بل وفَتّاكةً بإمتلاكها منظومات مُقتَدِرة تشتَمِل على المقذوفات المُسَيَّرة «فولْكا/سام-2، بِيجُورا/سام-3، كَفادْرات/سام-6، سِتْريلاّ/سام-7 «، فضلاً عن المئات من مدافع مقاومة الطائرات عيار 57 ملم المُوجَّهَة بالرادار موزعة بعناية في كلّ موقع ذي أهمّية يقع ضمن مسؤوليات قاطع دفاع جوّيّ يُغطّي بالمجموع جميع أنحاء العراق، وبكثافة هائلة في العاصمة “بغداد” وضواحيها المُكتَظّة بمواقع ذات أهمّية ستراتيجيّة بالغة.

ولكن، وعلى الرغم من كل تلك الإجراءات فقد ظلَّ العديد من الثغرات والسلبيّات التي لم تظهر عمليّاً إلاّ عند التطبيقات الميدانيّة والقتاليّة، حيث تَسابَقَ الطيران الإيرانيّ لإستغلالها والنَفاذ منها إلى الأجواء العراقيّة، فيما عملت الدفاعات العراقيّة جاهدةً بُغية إحكامها وتلافيها مع إنقضاء الأيام بتحريك أجزاء من الوحدات إلى مواضع جديدة لم تكن مُهيّأةً مُسبَقاً، ولذلك لم تكن الخسائر في صفوف الطائرات الإيرانيّة وطيّاريها الذين أثبتوا بحقّ شجاعة نادرة في غضون الأيام والأسابيع الأولى من الحرب ضئيلةً، بشكل راوَدَنا-نحن ضباط الوزارة- الشكّ في مصداقيّتها عند قراءتنا للحقائق المُسطَّرة في تقارير العمليّات اليوميّة المُجْمِلة للأحداث الجارية، تُقابِلها خسائر طفيفة لدى الطيران العراقيّ وطيّاريه، والذي خطَّطَ لِيَشُنَّ معظم غاراته اللاحقة بالعمق الإيرانيّ في وقت إقتحام الطيران المُعادي لأجواء العراق بحيث دَوَّخَ القادة الإيرانيّين في تَدَبُّر أمورهم.

لكن مُعضِلات عديدة فَرضَت أوزارها في عُقْرِ عدد من القواعد الجوّية العراقيّة، فقد إستطاع عناصر من “حزب الدعوة الإسلامية” الإقدام على العديد من العمليّات الظاهرة، ففي حين فجَّروا ست هليكوبترات في صبيحة اليوم الثاني من الحرب كانت جاثمة على أرض قاعدة الرشيد الجويّة، وهي أهمّ القواعد القريبة من بغداد، وإغتالوا أو حاولوا قتل البعض من الطيّارين، فقد أقدموا على سواها من العمليّات غير المنظورة، والتي تَمَثَّلَتْ في وضع مادّتَيّ السُكّر البَلّوريّ أو الرمل الناعم في خزانات وقود الطائرات، واللذان يتسبَّبان-بعد دقائق من التشغيل وربّما الإقلاع- في غلق منافذ الوقود المُتَدَفِّق من (البَخّاخات NOZZLES) إلى غرفة الإحتراق ليتوقَّف المُحَرِّك عن العمل مُؤدِّياً إلى سقوط الطائرة… وفضلاً عن إحداث عطل محدّد في آليّة “الكُرسيّ القاذِف” الذي يمكن أنْ يُنْقِذ الطيّار عند إضطراره التخلّص من طائرته إذا ما تعرَّضَت لخلل فنّي أو إصابة مؤثرة على الأداء.

وكانت هناك ثمَّة نقاط مَيدانيّة بَرَزَت في عمليّات القصف الإيرانيّ، فبينما كان طيّارونا قد تَدرَّبوا جيّداً منذ ما يُقارِب 10 سنوات متتالية على الطيران الواطيء للغاية ذهاباً وإياباً (50-60 متراً فقط فوق سطح الأرض) وأتقَنوه، لِيَتَلافُوا كشف الرادارات المُعادية لهم قبل وصولهم إلى أهدافهم، وأنْ يَفلُتوا بسرعات عالية من الدفاعات الجويّة رجوعاً إلى قواعدهم، فقد كان الطيّارون الإيرانيّون يتَّبِعون أُسلوباً أشبه بما كان عليه إبّان الحرب العالميّة الثانية (1939-1945) أو حرب كوريا (1950-1953)، فقد كانوا يُحلِّقون في أجواء بلادهم ويخترقون الحدود العراقيّة بإرتفاعات عالية، فتكشفهم راداراتنا بسهولة وتتوضّح لها وُجْهاتُهم بِيُسر، ولا يُخفِّضون إرتفاعاتهم إلاّ قُبَيْلَ قذف ذخائرهم على مواقع حُدِّدَتْ لهم، ثمّ لا يلبثون حتى يرتفعون عالياً مرّة أُخرى ويُجْرُون مُناورات إستعراضيّة شبيهةً بالألعاب الجويّة الأكروباتيّة حيث يكونون أهدافاً سهلة لقذائفنا، في حين كانت مُقاتِلاتنا تقطع عليهم الطريق وتعترضهم عند عودتهم لِيُصِيبُوهُم بمقذوفات جَو-جَو من طراز “ماترا ماجيك» فرنسيّة المنشأ ذات مدى 33 كلم، ومن دون أنْ يستطيع الطيارون الإيرانيون الإفلات منها.

ويُضافُ إلى ذلك أحداثٌ إستغربناها كثيراً، ليس بمطلع الحرب بل بعد أسابيع عديدة من بدئها، حيث أنّ العديد من القنابر والصواريخ الإيرانيّة لم تكن تنفلق لتنفجر بعد سقوطها على أهدافها، حتى تصوّر البعض أنّ أذرع المُخابرات العراقيّة ربّما إستطاعت إختراق الطيران الإيرانيّ في واحد من أهمّ مفاصله، بحيث لا يسحب بعض القائمين على تسليح الطائرات مسامير أمان الأعتدة التي يعلّقونها تحت أجنحتها وأبدانها، وقبل أنْ تتَبَيَّن بعدئذٍ وإستناداً إلى نتائج تحقيق رسميّ أجراه القادة الإيرانيّون بعدئذ، أنّ المسؤولين عن مستودعات أعتدة الطائرات ومخازنها قد أهمَلوا نقطة ينبغي أنْ تُحاط بجدير الإهتمام، ففي حين يُفتَرَض أنْ تُخْزَن الأعتدة الجديدة التي تُدخَل في المستودعات-المُستَورَدة منها أو المُصَنَّعة- في الأسفل ليحلّ القديم محلّها في الأعلى كي يُزَجَّ بالإستخدام  قبلها، فإنّ أولئك كانوا يُكَدِّسون على العكس تماماً وربّما منذ عهد الشاه… فلمّا إندلعت الحرب بَغتَةً لم يأتِ ببال أحدهم أنّ الأعتدة المُكَدَّسة تُصرَف بتلك الكميّات الضخمة بمعدّلات يوميّة من الصُفوف العُليا حتى لمّا أتى الدَور على مخزوناتها في الأسفل فقد إنبثقت هذه المُعضِلة، إذْ كانت هناك أعتدة فَسدَتْ مُتفجّراتها بمضيّ زمن غير يسير على خزنِها بحيث لا تنفلق بالضرورة عند إلقائها… ولكن المشكلة لم تَدُمْ طويلاً حتى تمكّن الطيران الإيرانيّ من مُلافاتها.

مشاركة