رواية فندق كويستيان لخضير الزيدي
ذاكرة الخراب ومعمارية السرد – نصوص – سمير الخليل
الذاكرة ليست مجرد محطات وقوف لتفاصيل زمنية مضت فقط ولا هي تهويل لمكونات قدسية مؤثرة في المجتمعات بل هي تراكم فكري لمسيرة بنية ثقافية ليس المقصود منها تلك التمثلات المؤرخة في لحظة معينة من التأريخ بل هي مكان وسط بين الماضي والتاريخ، ومن يحاول قراءة رواية (فندق كويستيان) لخضير الزيدي، الصادرة عن دار الحريري ، بيروت 2014 يكتشف مع تقدم أحداثها أن اشتغالات الذاكرة بنية مهمة فيها فهي ذاكرة لكل تداعيات ماضي الشخصية والأنظمة السياسية والخراب الذي شاع بعد الاحتلال، ولعل موضوع خراب المدينة (بغداد) ممثلة بالوطن (العراق) لم يكن الثيمة الوحيدة التي يسعى الزيدي لتقديمها بقدر ما كانت تجسد تداعيات المرحلة التي يعيشها الوطن والحال التي وصل إليها، الأمر الذي أفضى لأن تكون صورة معبرة عن الألم العراقي في خضم التناحر الطائفي وغياب ثقافة المحبّة والتسامح، وقد وفق الزيدي في وضع الأصبع على الجرح النازف بسخرية لاذعة حدّ البكاء، وهو يجعلنا نتحسس مأساة الإنسان العراقي في شخصيات الرواية جميعاً فكان صداها مؤثراً جلياً، ولذا كان جهد الروائي مميزاً وهو يجتلب من ذاكرته صور الخراب والبؤس التي لاحقت الوطن قبل وبعد الاحتلال .
وتكاد تكون ثنائية (الموت والحياة) مهيمنة على مجمل الأحداث سواء أكان ذلك داخل الرواية الأصل أم في ثنايا المخطوطة التي كتبها (كاكا ناصر) والذي صار من الشخصيات المحورية في الرواية وهما أعني الرواية المخطوطة
يتناوبان تلك الثنائية بما فيها من أحداث تصور الخراب الذي لحق بالوطن بسبب حروب يدفع ثمنها المواطن وحده، ولكن الزيدي باستخدامه تقنية ( ما وراء السرد) جعل في المخطوطة نفحة حب تحيل إلى التمسك بالحياة من خلال قصة الحب العجيبة التي يحملها ناصر والتي تمثلت في مخطوطة روايته (حب في الريم) بينه وبين المرأة التي سافرت معه للبحث عن زوجها المفقود، وكانت السبب في عودته من ألمانيا باحثاً عنها وكأنه يبحث عن الوطن المفقود، ولكنّ ذاكرة الخراب كانت تلحّ على الاثنين الروائي وكاتب المخطوطة داخل الرواية.
وإذا انطلقنا من الدور الفردي لفهم أداء الذاكرة سنجد أنّ ((دور الذاكرة بما تحمله من رواسب الماضي وما تشكله من حاضر فيها من الدلالة النفسية والاجتماعية مما يجعلها بعداً إنسانياً واجتماعياً يحيل إلى الإنسان كإنسان وهو يكابد تحولاته الاجتماعية)). ليست الذاكرة الفردية مجرد إعادة صور ماضية تتشكل في الحاضر بوساطة صور معنية ذات أُطر اجتماعية، بل أنها أعمق من ذلك بكثير فثمة عوامل داخلية تفرز منظوراً ووعياً إنسانياً لا يقف عند الحالة الشعورية النفسية المنطلقة من الماضي إلى الحاضر، وإنما هناك ذات إنسانية تعدّ محوراً للوجود وأبعاداً معرفية في تفسير الواقع، ولذلك سننطلق من الذاكرة الفردية للوصول إلى تفسير الرؤية الذاتية المتسيدة في المنظور الروائي كما يتجسد في رواية (فندق كويستيان) التي نجد في تعدد أصواتها شخصيات تعاني من أزمات نفسية بسبب ضغوط الواقع وخرابه فتشعر بالإغتراب الذاتي والنفي داخل الوطن والإحباط الفردي والتي تدعو إلى قمع الذات وهي تعاني من حالة الانغلاق، فكثير من الأفكار التي جسدها المخزون الذاكراتي عبر التاريخ تكابد تحلحلاً في منظوماتها الداخلية ينتج عنها وعي ذاتوي منقسم فيعاني الفرد والمجتمع نوعاً من التشظي المتزايد أمام غياب الإجماع العام ولكون الذاكرة بنية تتوالد بالمعرفة والفكر والخبرات فسنجدها تدل على مكونات إنسانية فردية كانت أم جمعية .
لقد وفق خضير الزيدي في توظيفه للذاكرة في سرده الروائي عموماً وفي هذه الرواية على وجه الخصوص حتى لا تكاد رواية تضاهيها في كثرة استخدام مفردة ذاكرة أو مشتقاتها، وقد جسد الروائي صراع الوجود والتاريخ وصراع الأضداد باسترجاع ذاكراتي يحتفظ بالأحداث الفردية وبالتاريخ المتخيل بطريقة مذهلة، و(فندق كويستيان) من الروايات التي تدين الحرب وتمجد الإنسان لا لشيء إلا لإنسانيته، تلك الإنسانية التي غابت سماتها وطموحاتها خلف أشرعة الموت الضبابية والقتل المجاني والاغتيالات والحرب الطائفية في بغداد بوصفها أنموذجاً لوطن الشخصية (ناصر)، فالرواية تحوّلت بمعمارها السردي إلى نص (ميتاسردي) ما بعد حداثوي حين قام الكاتب بتفكيك عناصر الواقع وإعادة تشكيلها من خلال مخيلة واعية لتكون موازية أو بديلة للواقع .
النصوص الموازية
ثمة نصوص موازية في رواية (فندق كويستيان) اشتغل عليها الزيدي بذكاء فطري تمثلت بعتبة العنوان مصورة الغلاف والاستهلال، فالعنوان جاء منسجماً مع المتن تماماً فالفندق ذو اسم (كردي) والبطل (كاكا ناصر) كردي أيضاً ومن يديرونه ليسوا غرباء عن الاسم أيضاً، وصورة الغلاف عبارة عن مبانٍ متقابلة قديمة متهرئة آيلة للسقوط يتوسطها شارع تعلوه سُحب الدخان في منتصف النهار واللون المهيمن الأزرق الداكن والأسود ، وقد وضع الزيدي عنواناً باللغة الإنكليزية لاسم الفندق مما يحيل إلى توزع الشخصية بين (الكردية) و(الأوربية) وهو ما يؤكده المتن لكون ناصر الكردي عاش في ألمانيا واختار العودة إلى بغداد ليسكن في فندق يحمل اسماً كردياً.
فالقراءة المنتجة للوحة الغلاف في الرواية تحيل إلى القهر والدمار والفوضى التي تعبث ببغداد، وفندق كويستيان يبدو في نهاية سُحب الدخان وكأنّ ذلك الفندق لا يسلم من تلك الفوضى والخراب في نهاية الأمر مثل ساكنه (ناصر) تماماً. أمّا قصيدة الشاعر الأمريكي براين ترنر (شارع المتنبي) فقد احتوت مجريات الرواية وأحداثها بالكامل فهذه القصيدة تمثل شفرة (ميتالغوية) في المتن السردي، تجتهد كثيراً لتكثف وتختزل هيكلية نمو الكتابة الروائية وقد تآزرت هذه النصوص الموازية جميعها في تقديم فضاء دلالي واحد يوجّه سهم القراءة نحو متن النص ويمهد للولوج إلى عوالم الرواية وأحداثها ولاسيما تفجير (شارع المتنبي) ومن ثم تشظي الأحداث واجتماعها في بؤرة آلام الوطن المتمزق بالأحقاد، وشارع المتنبي رمز للثقافة والإنسانية والسلام والتسامح وبتفجيره إيحاء بظلامية الفكر الكامن وراء التفجير، يقول (براين ترنر) في نصه الشعري الذي أثبته الزيدي : ((ما إن مرّت لحظة الانفجار، حتى راح رجل عجوز يترنح داخل سحابة من الغبار وشظايا الحجر/ يداه تضغطان على أذنيه النازفتين/ فكأنه يحجب عنهما ضجيج العالم/ إنها الحادية عشرة إلاّ ثلثاً ظهراً/ وأصوات الجرحى ترتفع من حوله مخشوشنة بالألم/ المباني تحترق، والمقاهي، والقرطاسيات، ومكتبة النهضة/ عمود هائل من الدخان../ وقوده كتاب الأغاني، ومراثي الخنساء والقصائد المنفية لسعدي يوسف وفاضل العزاوي والكتيبات الدينية وترجمات هوميروس…/ إرث القرون الطويلة المتناقل أباً عن جد…)) .
ذلك النص يعيد إلى ذاكرتنا ما حدث لبغداد على يد المغول عند احتلال بغداد حين دمّروا فيها كل مظاهر العمران والنهضة وأعادوها إلى عصور الظلام والجهل والوحشية.
الأدوات السردية
أشعر أنّ هناك قصدية كتابية تتناول بوعي ذاتي إبداعي كل أدوات السرد ومفاصله للتعبير عن هموم الكتابة أو للتعبير عن المخاتلة الفنية التي يلعبها الكاتب في تعامله مع المتلقي، فالنص (الميتا سردي)- وهذه الرواية منه – نص (ما بعد حداثي) يشترط رؤية لقوالبه وهاجساً وجدانياً ذاتياً لكتابة سرد روائي متجاوز للتقليد، ونشير هنا إلى أننا أمام كتابة سردية انشغلت برسم واقعها من خلال توظيف ذاكراتي يستقطب وجع الماضي وصراعه ضد ثيمة الغياب وعليه فإننا سنكون أمام مغامرة كتابة تنطلق من مغامرة ذات تشتبك وتلتبس لتغاير نظيرتها في آن واحد. ورواية (فندق كويستيان) رواية استعادية تبدأ من النهاية لتسترجع الماضي في إطار الحاضر ((لهذا السبب سيكون تسلسل الحكاية من النهاية إلى البداية، تركت شقتي الدافئة في برلين مودّعاً بـ”ميووطويلة” من قطتي الأليفة (سيسو).. تخليت مؤقتاً عن حياتي في ألمانيا وبنيتي التوجه التوجه إلى بغداد على أمل أن أعود مجدداً بعد انقضاء المغامرة السرية..)). عاد (ناصر) وهو يحمل ذكريات عن وطنه ومدينته بغداد منذ الثمانينات، يقول: ((ذاكرتي تتضخم يومياً تعتاش على بقايا شريط فيلم يتحرك أمام ناظري لما عشته في العراق قبل أكثر من عشرين سنة.. كل المآسي التي عشتها هناك تحولت إلى ذاكرة وفي استعادتها لعبة حلوة مسلية.. في لحظة من هذا التضخم المنفلت تنفجر ذاكرتي كبالونة طفل عابث لأتحوّل إلى شخص متسرنم تحت ضغط فرقعتها.. ذاكرة تقودني كالأعمى من مكان إلى آخر نحو طيف رباب.. المرأة التي أحببتها من طرف واحد كحلاوتها نكهة بغدادية خالصة لا تتكرر… أنا ناصر رشيد فوزي.. هل تذكرينني؟ أنت بطل روايتي وحياتي.. هل تذكرين الأيام الحرجة التي عشناها معاً قبل أن أغادر الوطن؟ كيف كنا ندور في مواقع العسكر ووحدات الجيش على السواتر للبحث عن زوجك المفقود (حاتم علوان)؟؟… كنا لحظتها أنت تبحثين عن زوجك المفقود وأنا أحاول الهروب من نار الحرب.. أنا ناصر الجندي في مركز تسليم الشهداء هل تذكرينني؟!)) ، نلاحظ أن الذاكرة هي الثيمة الأكبر والمفردة الأكثر تكراراً فيما يتحدث به ناصر في النص السابق.
يصرّح أحد الرواة (علي عبد الهادي) صديق (ناصر) الراوي المحور بأنّ ناصر كتب رواية أيام الحرب وتركها لديه وعاد الآن بعد الاحتلال وفي أوج القتل والدمار والصراع الطائفي لاستعادتها، وقبل وصول صديقه من (ألمانيا) أراد إيداعها لدى إحدى دور النشر في شارع المتنبي رغبة منه في خدمة صديقه القديم غير أن تفجير شارع المتنبي أضاع المخطوطة في خضم الدمار الذي حل به مما دفع الصديقين للبحث عنها ومن ثم تم العثور على المستنسخ منها وإيداعها لدى صاحب مكتبة مهتم بذلك للقيام بنشرها كون الأخير صديقاً لعلي عبد الهادي، ونستخلص من كل ذلك أن الذاكرة مهما كانت مخزوناً وجدانياً ومعرفياً غير أنها لا تحقق تذويتاً للآخرين لكون فهم الذات أمر صعب، فثمة مضامين مرسخة في اللاوعي مهما حاولت الذاكرة أن تتعرى أمام الآخر وتعرض ما لديها على السطوح لحاملي آليات التذكر فثمة متعينات رمزية تنمو ضمن نظام الذاكرة الداخلي لتمارس انعكاساتها على الذات، حيث لا يعرف أحد مغالق الآخرين الداخلية لأنّ ذكرياتنا ليست ذكريات غيرنا مهما كان حجم التعايش والقرب منهم، فالرواية هي بحث عن النسيان المترنح بين الوجود والوجدان عبر ثيمة الغياب، فالسرد الاستعادي الماضوي لرواية (فندق كويستيان) الذي وظفت فيه الرؤية كان يرى بأسلوب التذكر والشخصيات تحكي الأشياء والكلمات والأصوات والأوصاف بالإحساس بالشعور فجاءت الأحداث مكتوبة بوعي الكاتب حيث عبرت عن جوانب إنسانية مخزونة في الذاكرة الشخصية.
البنية والحدث الروائي
قسم الروائي (خضير الزيدي) روايته إلى بناء تراتبي تسلسلي من (1-30) وكأنه بهذا التسلسل يعطي انطباعاً عن اليوم العراقي الواحد وصولاً إلى نهاية الشهر ويكون ضمن سياق واحد، وكانت هذه التسلسلات لوحات سردية لا تخضع لتتابع الأحداث، وإنما كان الروائي دائم الخرق لمجريات السرد من خلال الانتقال من موضوع إلى آخر أو من شخصية إلى أخرى مع إحكام سيطرته على طريقة السرد وجعلها تصب في صميم الثيمة الرئيسة، فالأسلوب الذي عمد إلى تبنيه هو أسلوب حداثي متداول يعتمد التناوب والتزامن، فالكاتب يوزع سرده متنقلاً من حدث إلى آخر مع بقاء الحدث الأول معلقاً بقصد التشويق والإثارة، أي قدرة الروائي على المناورة بين السرد الأول والثاني فضلاً عن فسحه المجال لأكثر من راوٍ للإفصاح عن سرده، ولعلّ في تعدد الأصوات ميزة سردية جمالية وظفه الكاتب بشكل لم يجعل الرواية متشابكة أو مشتتة بل بما يخدم أحداث الرواية وفنية السرد، وهو يتحدث عن رواية داخل الرواية بخرائط بناء منضبطة في مبناه السردي.
ولأنّ الجسد يُعد الوعاء الحامل لكل ما يمكن حمله من الماضي والتاريخ وتمثيلاتهما، فقد استطاع الروائي أن يجعل جسد ناصر باثّاً لذاكرته الكلامية أو الفوتوغرافية والكتابية فقد استطاع ناصر من تنشيط ذاكرته أن يستعيد أحداثاً ومواقف مرّ عليها أكثر من عشرين سنة بعضها أحداث كلامية، والمعروف أن تصور الفرد يتأثر بالماضي والحاضر وذلك يتضح عند (ناصر رشيد) أو (كاكا ناصر) من خلال عمله في (برلين) في قسم تصميم التوابيت بعد أن فشل في قسم تصميم الكراسي لكآبته، وهذا من تأثير الماضي إذ كان يعمل في مركز تسليم الجثث في الفيلق الثالث وعمله أيضاً صنع التوابيت، وفي ذلك دلالة واضحة على بقايا تأثيرات الماضي في نفسية ناصر الكئيبة التي ما زالت تحفر في ذاكرته على الرغم من انتهاء سنوات طويلة على تلك المؤثرات .
وعندما يعود (ناصر) إلى بغداد فهو بالتالي يعود إلى ذاكرة جمعية تشكلت لديه في العراق أصلاً عندما ارتبطت بالحرب التي دامت ثماني سنوات، ومن ثم تعدّ من الإرث الماضوي الذي لا ينفك ناصر من الانعزال عنه، ناصر ابن العراق كردي القومية يحاول دائماً أن يستعيد ذاكرة الوطن بفعل الأحداث المأساوية التي مرّت به، ففكره كان ينوء تحت أحمال مضادة بما يمنع التوسع لبناء وعي جديد له القدرة على تقبل ثقافة جديدة ومغايرة تخرجه من حالة الركود التي ركّبت شخصيته، ولم يستطع التأقلم الحقيقي مع الحياة المعيشية في ألمانيا، بل بقيت ذاكرته تلحّ عليه إلى أن توصل إلى قناعة الرحيل إلى جحيم بغداد التي كانت ترزح تحت نيران مختلفة اختلطت فيها الأمور وضاعت الألوان وفاض الدخان وغاض فيها العبق، وكان ناصر وهو في ألمانيا يستذكر الماضي لتستعيد ذاكرته بعض ما حذف منها تمسكاً بها ((استعيد بعض المحذوف من ذاكرتي وخزينها، في تمرين البحث عن تفاصيل الأسطوانة الخالدة لأغنية حقول الفراولة … وزمانها الباذخ.. للمطرب المغدور جون لينون صاحب فرقة البتلز الشهيرة، قال لينون مباشرة بعد هذه الأغنية، وفي لقاء قبيل مقتله بسكين: نحن نعيش في عالم حيث علينا أن نمارس الحب في الخفاء فيما العنف المسلح نمارسه علناً في وضح النهار.. تلك مهزلة مزجت بفوضى انتجت أزمة أخلاقية ضربت أطناب حياتنا))( )، ولعل في استعادة ناصر لتلك الأغنية، ولذلك الحديث ما يشي بالوضع المأساوي الذي نعيشه جميعاً.
يتبين لنا أن الكاتب خضير الزيدي أراد أن يسترجع من الذاكرة ما هو مضيء حينما ذكّر بما يتسم به الشعب العراقي بمختلف انتماءاته وتوجهاته من تعايش سلمي وتسامح ديني في مواجهة الواقع الذي يعيشه، فمن خلال تلك الثيمة استطاع الروائي أن يبني أحداث روايته من الواقع التاريخي في متخيل سردي مقارنة بما نحن عليه اليوم من قتل ودمار ومأساة ((يا أخي المأساة نفسها والجثث المرمية نفسها سواء في الأمس أو اليوم.. نحن جثث تمشي على الأرض وفي ساعة معنية نصحو لنموت ميتة مقيدة))، فالماضي السياسي لا يختلف عن الحاضر أو بالعكس كلها حروب مدمّرة، يقول علي عبد الهادي ناصحاً ناصراً قبل المجيء إلى بغداد ((إذا تريد أن تأتي إلى بغداد فتعال في الشتاء.. صيفنا جمرة مستعرة بكف مجنون تحت ظل المفخخات ونزف الحكومات المراهقة، البلد جحيم لا يطاق مع انحسار تيار كهرباء الحكومة وطفح تيارات أخرى)).
يؤكد الراوي على ثنائية الموت والحياة عند استخدامه رمز (الحية والدرج) اللعبة التي ترتبط بذاكرة الطفولة وتتحول هنا إلى لعبة الموت والنجاة في الواقع العراقي: ((كنت مؤمناً بحتمية لعبة (الحية والدرج) بنسختها العراقية ومحاولة الأبناء المغتربين العائدين إليها طوعاً بقوة المغناطيس، حيث صعدوا لأعلى سلّم حياة المنافي الهادئة ثم سرعان ما هبطوا فجأة في فخ بين فكي أفعى الوطن وذيلها الذي ينتهي إلى مربعات حضيض الحياة الأولى..))( )، ولو دققنا النظر في حدث عودة (ناصر) من المنفى الاختياري الذي لم يكن بسبب طباعة المخطوطة فقط وإنما بسبب علاقة حب قديمة نخرت ذاكرته حتى أقنعته بالعودة إلى جحيم بغداد، مع أن حبّه لرباب لم تكن تعلم به كما يظهر من مسار الأحداث، أراد ناصر أن يمثل الانتصار للحياة من خلال حبه لتلك المرأة وعودته لوطنه وسط الخراب الذي يعم عاصمته بغداد، وعلى الرغم من المصير الذي آل إليه في نهاية المطاف غير أنه مثل بالفعل قوة الحياة في مواجهة الموت والخراب.
فالروائي بحسّه الفني وظف في سرده لأحداث وأماكن واقعية في محاولة منه لإعطاء قيمة حقيقية للوقائع التي اجتلبها بالتذكر والاسترجاع، وفي ظني أن الراوية بشخصيتها الرئيسة استطاعت أن تصل إلى مبتغاها في تسجيل المشهد العراقي اليومي بكل تفاصيله فقد جاءت البُنى السردية متنازعة متصارعة بين صوت الواقع الحاضر الذي تعيشه الشخصية وصوت الماضي الذي يعبئ ذاكرته.
وقد لجأ الروائي خضير الزيدي إلى تقنية التقطيع الحدثي فضلاً عن اللجوء في أكثر من مرّة إلى تقانة التوالد الحكائي عن (الحكاية الأولى/ السرد الأول) ثيمة الرواية الكبرى وهو أسلوب مهم في صياغة أسلوبية الرواية عنده، وقدرة الروائي اتضحت حينما جعل تلك الحكايات المتوالدة إطاراً لحكايته الرئيسة (الأم)، فهذه الحكايات الفرعية تنبني على إضاءة الحدث الرئيس وتصب في صميم التجربة: ((في كراج النهضة أيام زهوها الحربي..
كان هناك شخص يدعى عباس زروقة له حكاياته العجيبة في خط حروف وكلمات بعينها دون غيرها، رجل أمي لم يتعلم أبجدية اللغة مطلقاً لكنه تعلم رسم الحروف التي حفظها عن ظهر قلب)) وهو يحاول أن يجعل المتلقي يشاركه من خلال تقانة الحذف التي يصر على توظيفها مع كل شخصية في تشكيل الحكاية الفرعية فالواقع واحد بالنسبة للعراقيين.
وحكاية شيخ حمادة هي الأخرى من بين الحكايات التي برزت في متن الرواية، فقد أصبح حمادة شيخ الجامع بعد مقتل شيخه ((في اليوم التالي مباشرة ذهب حمادة مستغلاً فراغ جامع العاقولي وحاجته إلى دائرة خدمة الجوامع والمساجد في الأعظمية إلى دائرة الوقف الديني.. مقدماً أوراقه لتنصيبه بديلاً عن الشيخ المقتول))، ففي شخصية الشيخ حمادة وحمدان وعلاوي (السكن) ما يشير إلى أنهم كانوا من شخوص حقبة السبعة وقد رسمهم بطريقة ساخرة تهكمية انطلاقاً من لعبة شعبية تمارس في الأعياد تسمى (فوق السبعة وتحت السبعة)، فالشخصيات المذكورة بعد سقوط النظام صاروا فاعلين أساسيين في الواقع ما بعد السبعة، من خلال مهنة جمع مخلفات الانفجار والمتاجرة بها، وفي الحدث الرئيسي هم من خططوا لتفجير شارع المتنبي عن طريق (محمد عساف وعصابته)، فالراوي يرسم صورة ساخرة لشيخ حمادة وحكايته ((شيخ حمادة هذا هو من ثلة المخضرمين القافز على مرحلتين زمنيتين منفصلتين من تاريخ البلد المحتدم..
يحلم الشيخ حمادة بعد أن أصبح شيخاً رسمياً بتعويض ما فاته فلم يتخل رسمياً عن مهنته في جمع سكراب المفخخات أو مخلفات المعسكرات الأمريكية إنما أعطى وكالة إدارتها إلى صبحي ابن عمه))، هذا التوالد الحكائي يشارك بشكل مميز في إغناء النسيج النصي بشقيه الجمالي والدلالي فهذه البنية بتداخل علاماتها الدالة على حداثتها تجعلها تتجاوز النظام التعاقبي للنسيج السردي وتتجه به صوب الحداثة بعيداً عن نمطية الرواية الكلاسيكية في كثير من نماذجها، ويبقى الجامع بين جميع الحكايات الثانوية هو البؤس والشقاء والمعاناة للإنسان العراقي وعبرت عن الألم الفردي والجمعي .
البنية المكانية
تبدو بنية المكان وتحولاته موازية في بناء الرواية وتمثل هذه البنية الواقع المكاني (النواة الأولى) لظهور تلك البنية، فالمكان الأول في السرد الروائي هو (ألمانيا) الجنة الوردية، ويعدّ هذا المكان موقعاً رامزاً للراحة والأمان والسلم وصلاح البال، ومنه ينتقل الشخصية (ناصر) إلى بغداد الملتهبة ككرة نار متوهجة بالحرب والرعب والاغتيالات والانفجارات ، وهو انتقال نفسي يمثل تضاداً موقعياً مهماً تطرحه الرواية، فالهجرة يفترض أن تكون معاكسة لكن حبه الجنوني لـ(رباب حسن) ابنة الثلاثين ربيعاً عصف به فجعله يختار العودة إلى بغداد بحثاً عن حب ضائع لعلّه معادل موضوعي لوطن ضائع أيضاً ((تقلني الطائرة السابحة الآن في السماء لتعيدني نحو البقعة الأولى يقودني جنوني إلى مسقط الرأس كذلك تقودني مراهقتي الصبيانية في أُخريات العمر فتدفعني ذكرى طيف قديم لصورة حبيبتي رباب حسن)) يلقي هذا الحب ظلالاً مهمة على أحداث الرواية وشخوصها وتحديد الموقع النهائي وما آل إليه مصير بطلها (ناصر رشيد)، فالتحولات المختلفة والمتعددة في شخصية ناصر ألقت بظلالها على مسارات مختلفة ومتنوعة في السرد الروائي، لكن توظيف هذه الشخصية في البناء الروائي كعراقي مهاجر منذ عشرين عاماً عصف به الحب وأعاده إلى بلاده منحه هذا التحول طابعاً مميزاً عن بقية شخوص الرواية، فالروائي بفعل الارتدادات المتكررة قد جعله يشترك في كثير من مجريات الماضي وعند عودته جعله مشاركاً في حكاية تفجير شارع المتنبي من خلال مخطوطة روايته (حب في الريم)، فالروائي صير من تقنية الزمن امتداداً بسعة التاريخ المتغير للبلد وإن متواليات سردياته الثلاثين التي نسجت فيها أحداث الرواية لا تنتظم إلاّ عبر وحدة الزمن الكلية المتشظية، أمّا الشخصيات الأخرى فكانت عوناً له ودليلاً ومرشداً في بيان وضع بغداد وهو في هذا التحول كان حاضراً لكنه في مجمل سير الرواية الحاضر كان يخفي شيئاً ما لكونه يسعى في اتجاه آخر ، وقد طرح الزيدي علامات تشي عن تلك العلاقة غير المتكافئة العواطف مع امرأة التقاها ناصر صدفة لكن الخط الآخر ظل مغيباً في بناء الأحداث الكبرى، ويبدو أنها تكنيك من الكاتب احتفظ به لجعله خاتمة لروايته، وما يميز هذه الرواية أيضاً لجوء الكاتب إلى أسماء حقيقية متداولة في الوسط الثقافي أعطت المتلقي انطباعاً مؤثراً مثل: كريم حنش، خالد المعالي، حسين علي يونس، وجعل هذه الشخصيات تتفاعل فيما بينها كما هي فعلاً مما أضفى عليها انطباعاً واقعياً.
تقنية الزمن
إنّ ما يميّز هذه الرواية زمنها المختلف الذي يؤكد فاعلية الخطاب السردي الذي يمزج أبعاد الزمن بأنماط مختلفة، وسنعرض لأهم المظاهر الزمنية كما وردت في الرواية، فقد مارس الراوي (كاكا ناصر) سلطته على مجريات الزمن السردي حينما أطرها بتحولات زمنية منحت المروي حضوراً فاعلاً فلولا هذ التكنيك لكل السرد عبارة عن نسق رتيب لا يحظى بقيمة في المدونة السردية، لذا يفتتح الرواية بقوله: ((في هذه اللحظة بالذات تجاوز عمري الخمسين سنة عراقية.. وعندما أقول عراقية فقد عنيتها تماماً))، فقد أكد حركة الزمن عبر تقانة الحذف التي أوحت بزمن محذوف يكشف عنه المتن السردي المعلن فيما بعد، ثم يتحول الراوي إلى نمط سردي بَعدي ليكشف من خلال هذا النمط الانطباع الجمعي عن البؤرة المركزية وثيمة الرواية بالكامل ((عندما أخبرت صديقي عن نيتي في السفر إلى بغداد في هذا الوقت بالذات قال: يا أخي ناصر هل أنت مجنون؟..
الصحفيون من جميع أنحاء العالم والوكالات الإعلامية العريقة لا يجازفون هذه الأيام للوصول إلى بغداد))، ثم يسيطر على الرواية في بعض الأحيان (المونولوج) أو حوار فردي في المتن السردي يقارن بين رؤيته الذاتية للمكان في الماضي والحاضر، وهو معالج بطريقة شعرية حول ما سيقوله (كاكا ناصر) لحبيبته التي لا تعلم به حين يلتقيها : ((رسمت سيناريو اللقاء بعد هذه الغياب سأقول لها وأنا على الباب: أنا ناصر رشيد فوزي هل تذكرين..))( ) ويواصل الراوي سيطرته على زمن السرد من خلال تمديده زمن الحكاية لكي يدخل عنصر التشويق والرغبة لما سيأتي فيما بعد .
أمّا اللغة المستخدمة في الرواية فهي مزيج بين اللغة العامية واللغة الشعرية (الميتالغة) في السرد وجاء ذلك بطريقة تصب في مصلحة النص ((على الفور أمنت الاتصال بجاسم قلت له جاسم الحمد لله على السلامة، شلونك.. فقال : هله خوية شلونك أبو حسين))، وبذلك جعل لكل شخصية صوتها المناسب ينسجم مع ثقافتها ومستواها الاجتماعي .



















