دخليج ما بعد الأزمة

دخليج ما بعد الأزمة

عبد الحسين شعبان

القرار الثلاثي الذي اتخذته الدول الخليجية الثلاث: المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين بسحب سفرائها من الدوحة، جاء مفاجئاً، خصوصاً لجهة العلاقات للدول الخليجية الستة التي ضمّها مجلس التعاون الخليجي منذ 33 عاماً، ولعلّ الأزمة التي أثارها القرار الثلاثي هي الأكبر والأخطر في تاريخ العلاقات الخليجية، الأمر الذي يعني أنها كانت تحفر في العمق، وليست تنقر في السطح كما يقال .

ولربما هذا هو شعور الدول الثلاث بعد أن طفح الكيل، فقد أدّت التراكمات السلبية التي كدّرت صرح العلاقات بينها وبين دولة قطر إلى إظهار ما هو خفي إلى السطح، خصوصاً ما يتعلّق بمضمون الستراتيجية العامة لدول مجلس التعاون الخليجي وأساليب عمله المعتمدة طيلة عقود من الزمان، وإذا بنا أمام مشهد جديد حين أخذت تتجمع بوادر خلاف جدي في العمق بين دوله بشكل عام وقطر بشكل خاص، لدرجة أصبحت تلك الخلافات محرجة، ولاسيّما  بشأن احتضان قطر جماعة الأخوان المسلمين، وخصوصاً بعد إقالة محمد مرسي، حيث تم تقديم التسهيلات الكثيرة لهم سياسياً ومالياً وإعلامياً. الاتهام السعودي- الاماراتي لدولة قطر بشأن الوضع في مصر ترافق مع استمرار الشيخ يوسف القرضاوي بمهاجمة البلدين، فضلاً عن ذلك، فإن الدولتين كانتا غير مرتاحتين ومعهما البحرين بشأن علاقات قطرية مع مجموعات “جهادية” في سوريا، قيل إنها مرتبطة بالقاعدة، إضافة إلى ما تردّد عن تغذية الاحتراب الأهلي في اليمن من خلال دعم مجموعة الحوثيين، وكذلك تقديم التسهيلات لتنفيذ مهمة حلف الناتو في ليبيا بزعم القضاء على نظام القذافي، وذلك ضمن حسابات خاطئة على أقل تقدير، فما بالك إذا كانت شكوكاً تحوم حولها من جانب الدول الثلاث، بما فيها علاقاتها المتناقضة، سواء بافتتاح مكتب “اسرائيلي” في الدوحة منذ العام 1996 أم دورها النشيط في الحرب على العراق العام 2003 أو علاقاتها مع إيران وحزب الله وحماس!! وكانت الرياض قد وجّهت تحذيرات لقطر لمّحت فيها إلى إغلاق الحدود ومنع الطيران من التحليق في الأجواء السعودية وتطوّرت لتشمل احتمالات تجميد عضويتها في مجلس التعاون الخليجي، لكن تلك المحاولات والضغوط لم تأتي بالنتائج المرجوّة، بل ازداد التباعد، خصوصاً وأن الدول الثلاث تعتبر قناة الجزيرة أحد أسباب ذلك بتصعيدها الإعلامي واستضافتها المتكررة للقرضاوي، الأمر الذي دفع بالدول الثلاث إلى أخذ إجراء بسحب السفراء .

الأزمة الراهنة بهذا المعنى ليست أزمة عابرة أو ردود أفعال لخلاف ظرفي أو طارئ، وإنما يذهب الخلل إلى جوانب مهمة تمسّ ستراتيجيات مجلس التعاون الخليجي، حيث تتهم دوله الثلاث قطر بالخروج عليها. والسؤال المطروح حالياً وماذا بعد سحب السفراء؟ هل سيتم الاكتفاء بهذه الخطوة أم ستعقبها خطوات أخرى ، ولاسيّما إذا استمر التعارض السياسي في ستراتيجيات قطر مع البلدان الثلاث، فطوال السنوات السابقة ظلّت دول المجلس تسعى لاحتواء الخلافات السياسية، والبحث في كل ما من شأنه حلّها بتوافقات ودون أعلان، حتى وإنْ أدى ذلك الذهاب إلى محكمة العدل الدولية، كما حصل بشأن الخلاف البحريني –  القطري، حيث استمر الخلاف عقوداً من الزمان إلى أن وجد حلاًّ مرضياً، لكن الخلاف الجديد يعتبر أكثر عمقاً وشمولاً.

فالدول الثلاث تعتقد أن قطر خرجت على سياسات ونهج المجلس، ولاسيّما بدعمها جماعات دينية من الإسلام السياسي، كما هو موقفها من الأخوان في مصر وتسخيرها الكثير من إمكاناتها للدفاع عنهم، بعد إقالة الرئيس محمد مرسي، في حين أنها تنظر بعين القلق إلى تيار الإسلام السياسي واحتمالات تأثيراته داخلياً، ولهذا السبب سارعت إلى تأييد التحرك الشعبي الواسع في مصر،  والذي لعب الجيش الدور الحاسم فيه في الثالث من يوليو (تموز) 2013، أما قطر فلعلّها تعتقد إن لها دوراً عربياً وإقليمياً يتجاوز مجلس التعاون الخليجي، الذي يريد الحدّ من طموحاتها السياسية وفاعليتها الاقتصادية، ولذلك كانت تتصرف بمعزل عنه وبتعارض مع سياساته أحياناً.

كذلك تعتبر الدول الثلاث إن الدوحة كانت تقف خلف حكم حزب النهضة في تونس، الأمر الذي تعتبره خطراً على مستقبل المنطقة، وعلى بلدانها، حيث ينشط الأخوانيون فيها ويحاولون تهديد الاستقرار السياسي كما تقول، بل أن هذه السياسة تشكّل أحد مصادر التهديد للأمن الوطني لكل بلد وللأمن الخليجي بشكل عام، وهو ما تعتبره خطوطاً حمراء في العلاقات البينية  بين دول المجلس، كما تذهب إلى ذلك الاتفاقية الأمنية الخليجية، وكذلك حسبما يقول البيان الذي صدر من الدول الثلاث بخصوص سحب السفراء، والأمر كان قد تكرر في ليبيا من تدخّلات قطرية، وهو ما عبّر عنه محمود جبريل رئيس الوزراء في المجلس الانتقالي لحين الإطاحة بنظام القذافي.

لقد اندفعت الدوحة خلال السنوات الثلاث الماضية، فراهنت على حكم الأخوان في مصر وعلى حركة النهضة في تونس وعلى مجاميع مسلحة في سوريا وليبيا واليمن، إضافة إلى تقاطعات سياستها مع الدور الإقليمي لكل من إيران وتركيا و”اسرائيل”، لكن الإطاحة بحكم مرسي أوجد محوراً جديداً لم يكتمل بعد وهو المحور الخليجي –  المصري، وقد يكون هذا المحور متغيّراً جديداً أفرزته الأزمة الخليجية الراهنة، ولكن سؤالاً حساساً يُثار اليوم بعد اندلاع الأزمة: هل ستجد الأزمة حلحلة ويتم فيها تسوية المشاكل في البيت الخليجي أم أنها ستقود إلى تجميد عضوية قطر في مجلس التعاون الخليجي وإلى غلق الحدود وإعادة التأشيرات وإلغاء التسهيلات وغير ذلك من إزالة الحواجز بين بلدان المجلس؟

وبعد: كيف ستتصرف قطر إزاء ذلك؟ هل ستتجه نحو إيران مثلاً وتقيم تحالفاً معها وربما مع تركيا أيضاًَ، أم أنها ستحسب ذلك تاريخياً بحكم علاقاتها مع دول الخليج ومستقبلها السياسي، فتبادر إلى احتواء الأزمة ومراجعة سياساتها، لكي تنسجم مع محيطها وتضع بعض طموحاتها جانباً، حفاظاً على مستقبلها السياسي؟ أم ستتصرف بردّ فعل يؤدي إلى انسحابها من مجلس التعاون الخليجي، وهو المجلس الذي لم يشهد في تاريخه مشكلة مستعصية مثل الأزمة الحالية التي قد تؤدي إلى خروج دولة منه، بالترابط مع تحفظات عُمان إزاء العملة الخليجية الموحّدة وإزاء تحويل المجلس إلى اتحاد فيدرالي، وهو ما تدعو إليه المملكة العربية السعودية بالدرجة الأساسية ودولة الإمارات العربية وغيرها، وقد يتعلق الأمر أيضاً بوساطات قد تقوم بها الكويت وعُمان، لكن الأمر يحتاج إلى إعادة تأثيث للبيئة الخليجية، خصوصاً للدور القطري الذي لم يعد مقبولاً من جانب المملكة العربية السعودية ودولة الامارات.

إن إعادة قراءة وثائق مجلس التعاون الخليجي والتوقف عند بعض مشكلاته وتطور دوله قد يساعد في تفهم الأزمة الراهنة وحساسيتها، خصوصاً بالترابط مع الأسئلة المطروحة أمامها في مرحلة ما بعد الربيع العربي والتغييرات التي حصلت في العديد من دول العالم، وهي أسئلة جوهرية تتراوح بين التصعيد أو التهدئة، لكن ذلك كلّه مرتبط بالقدرة على التوافق مع المحيط ومع وضع الطموحات في سياق الإمكانات البشرية والعلمية والجغرافية والمادية، وهو ما ينبغي التفكير به بجدية وواقعية سياسية، سواء بإمكان حلّ بعض المشكلات أم تأجيل بعضها الآخر ام حتى استعصاء بعضها الثالث، والذي قد يحتاج إلى إعادة ترتيب الأولويات، إي بمراجعة مسيرة مجلس التعاون الخليجي في ضوء المستجدات والمتغيرات التي حصلت في الســنوات الأخيرة، وفي ضوء تطور العــلاقة بين دولة!

{كاتب وباحث عربي