داعش وأنستاس الكرملي

داعش وأنستاس الكرملي

 

 

عبد الحسين شعبان

 

 

لا أدري كيف خطر ببالي العلاّمة اللغوي والأديب والمؤرخ الأب أنستاس الكرملي وأنا أتابع بألم وأسى أخبار هجرة المسيحيين القسرية من الموصل بعد أن نفّذت الدولة الإسلامية وتنظيمها داعش تهديداتها بحقهم، ولاسيّما بعد أن أعطتهم ثلاثة خيارات أحلاها مرٌ، بل مثل السمّ الزعاف. الأول: تغيير دينهم وقبولهم الأسلمة أو التأسلم، ولا نقول الإسلام ، لأن الدين الإسلامي يحترم الأديان الأخرى ويعترف بمكانتها، والثاني:  دفع الجزّية، أي تقديم بدل نقدي شهري. أما الخيار الثالث فهو الرحيل، وهو الذي اضطرّوا إليه، ولاسيّما عشية موعد الإنذار، وقام مسلحو داعش بسلبهم ممتلكاتهم وجرّدوهم مما يحملون معهم من نقود ومقتنيات ثمينة.

 

لم تبدأ محنة المسيحيين في العاشر من حزيران (يونيو) الماضي 2014، بل إنها تمتد إلى سنوات قبل ذلك، فمنذ الاحتلال الأمريكي في العام 2003 كانوا هدفاً سهلاً  للفريقين المتصارعين، فهم لا يملكون ميليشيات وبلا دعم أو غطاء خارجي، خصوصاً في ظل تأجيج “الصراع السني – الشيعي الذي غذّاه أمراء الطوائف بعد القسمة الضيزى لمجلس الحكم الانتقالي التي قرّرها الحاكم المدني الأمريكي للعراق بول بريمر.

 

المسيحيون باعتراف الجميع، باستثناء التكفيريين والإلغائيين المتعصبين، لم يرتكبوا جرماً أو جناية لا بحق الفرقاء المتخاصمين ولا بحق الوطن في السابق والحاضر، وهم طيلة وجودهم كسكّان أصليين للبلاد كانوا مثالاً للتعايش والانسجام والتواؤم والتسامح والسلام، وتلك المواصفات  تشكّل ركناً أساسياً في الذاكرة الجمعية التاريخية والاجتماعية العراقية القديمة والحديثة، وقد عملوا طيلة وجودهم في العراق ما بعد الإسلام بجدٍّ وحيوية،  وشغلوا مناصب رفيعة طيلة قرون من الزمان، وتلك شهادة التاريخ لهم، شأنهم شأن مسيحي البلاد العربية حيث شكلوا نسيجاً اجتماعياً وثقافياً وحضارياً، هو جزء من حضارة هذه البلاد ذات التنوّع والتعددية، دون تفرقة أو تمييز وحسبما تسمح بها ثقافة تلك الأيام.

 

ولذلك فإن الشروط التي وضعتها “داعش على مسيحي الموصل، وقبل ذلك ما تعرّض له مسيحيو البصرة وكركوك وبغداد على يد الجماعات الإسلاموية المسلحة، إنما يستهدف إلغاء خمسة آلاف سنة من الوجود الحقيقي للمسيحيين، وشطب مساهمات جليلة في تاريخ الحضارة العربية- الإسلامية، والحضارة الإنسانية بشكل عام، ولاسيّما أن معاناة المسيحيين مركّبة، فهم إضافة إلى كونهم عراقيين عانوا من الاستيلاب والاستبداد والحروب والحصار والاحتلال، يعانون اليوم من العنف والارهاب والفساد والطائفية والمحاصصة، وهي وإن كانت معاناة عراقية، لكن وقعها على المسيحيين مضاعفاً، لأنها تتعلق بوجودهم واستمرارهم،وهو ما استهدفته الحملة الداعشية الإرهابية لاجتثاث المسيحيين واستئصالهم، وامتدت الحملة إلى الشبك والكاكائية والإيزيديين والتركمان وغيرهم.

 

وهكذا أصبح حرف نون”نصراني المكتوب في أعلى أبواب المنازل، تهمة بحد ذاتها إن لم يبرئ صاحبها نفسه، بالتأسلم أو الجزية أو الرحيل، وإذا فعل الأولى أو الثانية فسيتم تزويده بهوّية غير كافر وإن لم يفعل ، فسيرسل إلى المجهول أو إلى السماء استحقاقاً لشريعة داعش، ولعلّ مثل هذه الكارثة التي حلّت بالمسيحيين سوف تترك تأثيراتها على الفرز السكاني والعزل الاجتماعي والتركيب الديموغرافي، حيث يتم العصف والإجهاز على آخر أركان المواطنة بحدها الأدنى،خصوصاً عندما يتم زرع الأحقاد ونار الكراهية بين الأديان والطوائف والأعراق، ولعلّها هي الوجه الآخر لمشروع التقسيم العراقي، لاسيّما بعد التفتيت والتشظي واندلاع حرب أهلية، حيث سيكون الوصول إلى النهاية بإقرار التقسيم والاعتراف بما هو قائم كأمر واقع، وهذا ما سعت إليه القوى الصهيونية ومشروع برنارد لويس منذ أواخر السبعينات والذي توجّهه جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي، الذي فصّل العراق على هواه كمشروع ثلاثي مشرعٌ للتقسيم وفق المشرط الأمريكي- الصهيوني.

 

عشية وخلال وعقب موجة التغيير التي شملت الوطن العربي، ابتداءً من تونس ومروراً بمصر، طُرحت مسألة المواطنة والتنوّع الثقافي كنتائج لتبلور أطروحات تتعلق بالدولة العصرية، خصوصاً في التعامل التاريخي الخاطئ مع المسيحيين ، منها تجاهل كونهم عرب، والعرب أغلبية في أوطانهم بغض النظر عن دينهم، وبالتالي فإن أية محاولة لفصلهم عن العروبة إنما هي محاولة مغرضة وخبيثة. وثمة مسألة أخرى ولكنها مغرضة أيضاً، تتعلق باستصغار دورهم والتشكيك بمواطنتهم والغمز من قناة علاقتهم بالمسيحيين في الغرب، بل إن البعض يعتبرهم طابوراً خامساً، ولاسيّما في فترة الأزمات، يضاف إلى ذلك فإن دعواتهم للحداثة والتنوير والعصرنة تفسّر باعتبارها أدوات خادعة وواجهة للنفوذ الغربي- الصليبي .

 

أما المحاولة الإغراضية الثالثة، فهي من جانب الإسلامويين ومنهم وعلى رأسهم جماعات داعش والقاعدة وكل قوى التكفير مهما اختلفت تسمياتها، وهي التي تقول إن على المسيحيين الإنصياع إلى قدرهم وعدم المطالبة بالحقوق المتساوية والمواطنة المتكافئة، لأنهم ذميون ولا ولاية لذميّ”، وإذا أرادوا البقاء في “دار الإسلاموتأمين حمايتهم ، فعليهم إما الأسلمة أو دفع الجزية.إن التيارات الإسلاموية حتى لمن هي أقل تطرّفاً من داعش والقاعدة، إلاّ أنها تنظر إلى المسيحيين باعتبارهم “رعايالا مواطنين، وكونهم أقلية في العالمين العربي والإسلامي (عددياً وكميّاً)، فعليهم الانصياع والقبول بما هو سائد دون التفكير بمبدأ المساواة النوعية بغض النظر عن الحجم والعدد، وذلك في إطار ثقافة استعلائية مؤدلجة. الإسلامويون لم يقرأوا التاريخ العربي- الإسلامي، لا فيما يتعلق بدستور المدينة الذي أبرمه الرسول (ص) لتأسيس المجتمع الجديد وضمان حقوق الأديان والتكوينات الاجتماعية التعددية ولا العهدة العمرية ، ولا مقاومة مسيحي الشرق للغزو الفرنجي لبلاد العرب (مسلمون ومسيحيون) ولا بعد استقلال وقيام الدولة العربية الحديثة، حيث رفعوا لواء الأدب والثقافة والفنون والتاريخ والاجتماع في العالم العربي، وحملوا المعارف والعلوم القانونية والاقتصادية والمالية والتكنولوجية.

 

فلماذا يريدون تجريد العراق من هذا الامتياز ودفع المسيحيين للهجرة وتهديم الكنائس والأديرة ورفع شعار “الدولة الإسلاميةفوقها، فالمسيح (ع) ولد في الشرق وفي مدينة بيت لحم ونشأ في الناصرة، وهو “يسوع الناصريولم يولد أو يعيش في الغرب.

 

إن غياب المسيحيين يعني طوفان الصراع الطائفي على السطح، وهو ما تريده “إسرائيل التي تسعى لتصوير الصراع في المنطقة باعتباره صراعاً دينياً بين المسلمين والمسيحيين، مثلما هو بين المسلمين واليهود، وصراعاً طائفياً بين الشيعة والسنّة وليس صراعاً بين الصهيونية و”إسرائيل من جهة والشعب العربي الفلسطيني المهضوم الحقوق من جهة ثانية.

 

“المسيحيون ملح العرب وهو عنوان كتاب كنت قد أصدرته، بعد حملة الاستهداف ضدهم، مشيراً إلى أن وجودهم في العراق كان قبل الإسلام وهو الذي أعطاه الطابع المتنوّع والتعددّي، دينياً مثلما هناك أقوام شريكة إلى جانب العرب، ولا نريد استعراض دورهم التاريخي سواءً في الإسلام الأول أم عند تأسيس الدولة الأموية أم في العصر العباسي، ويكفي الإشارة إلى دورهم المتميّز في النهضة الحديثة من رفع لواء القومية العربية واللغة العربية ضد حملة التتريك العثمانية، بوضع المعاجم والقواميس والمناجد.

 

في غمرة الحملة الداعشية استذكرت أنستاس الكرملي، فهو نموذج لما أعرفه من المسيحيين من أصدقاء، منذ أيام الدراسة الجامعية والعمل السياسي والثقافي، في داخل الوطن وخارجه، وفي إطار عربي، إذْ لا بدّ من استذكار مساهماته الجليلة كلّما جرى الحديث عن اللغة والأدب والثقافة، وكان صديقنا المؤرخ والأديب جليل العطية، دائم الاستشهاد بهذا العلاّمة البغدادي الولادة والنشأة، حيث ولد الكرملي في العام 1866 لأبٍ لبناني ولأم عراقية وتوفّي في العام 1947.

 

اضطلع الكرملي بمهمة ريادية لا يقدر عليها شخص واحد، وكان عمله أقرب إلى مؤسسة ثقافية كبرى بأقسامها المتعددة، حيث كان يتقن عدّة لغات، وكان مؤلفاً لعشرات الكتب منها: الفوز بالمراد من تاريخ بغداد1911 وخلاصة تاريخ بغداد – البصرة 1919 و”أغلاط اللغويين الأقدمين و”نشوء اللغة العربية ونموّها واكتمالها والمعجم المساعد وكتاب “العين (الجزء الأول) للخليل بن أحمد الفراهيدي و”الإكليل للهمداني.

 

وإضافة إلى ذلك فقد كان رائد الصحافة اللغوية، فأصدر مجلتين وجريدة واستمرت مجلته لغة العرب وهي مجلة شهرية اشتملت على اللغة والأدب والمصطلحات والتاريخ وعلم الاجتماع والانتربولوجي، بين 1911-1931 والمجلة الثانية هي “دار السلام وهي نصف شهرية وتعنى بشكل خاص بشؤون العراق الاجتماعية والتاريخية والأدبية، وصدرت لمدة أربعة أعوام 1918-1921، أما الجريدة فهي “جريدة العرباليومية، وصدرت لمدة أربع سنوات أيضاً بين العام 1917-1920، وكان له مجلس أسبوعي كل يوم جمعة تحضره نخبة من الأدباء، والمثقفين. وامتاز الكرملي بمراسلاته مع كبار شخصيات عصره مثل أحمد تيمور وأحمد زكي باشا ومحمد شكري الآلوسي.

 

لعلّ شعوراً “بالخيانة يصاحبنا، عندما نسكت عن جرائم داعش في اضطهاد المسيحيين واستهدافهم ومحاولة قلعهم من جذورهم، ونحن نستعيد شخصية الكرملي الأثيرة كرمز للتعايش المشترك الانساني والتواصل الثقافي والتفاعل الحضاري.