خلود القصيدة الرومانسية

رؤية الجمال في حبة رمل

 

خلود القصيدة الرومانسية

 

كتابة: دارَبت

 

 

ترجمة: فضيلة يزل جبر

 

يبقى الحديث للشعراء الرومانسيين حتى ان فات آوانهم. ربما تعكس القصيدة الفترة الزمنية التي كتبت فيها، لكن الشعراء الرومانسيين يستلهمون دائماً رؤى الخيال الأنساني بكتابتهم عن ما يمكن ان يوجد في الخيال، وفي الخيال فقط، الذي هو القصيدة نفسها تلك التي يؤكدها الاستمرار والدوام بألهام الفكر في أولئك الذين يقرأونها. حتى لو قرأها شخص واحد.

 

لقد بدأ عصر الرومانسية في أواخر القرن الثامن عشر الى منتصف القرن التاسع عشر وشهد شعراء أمثال : بليك، كيتس، ووردسورث وكوليرج. في ذلك الوقت كان العالم يشهد ثورات ومعارك دائرة في أمريكا وفرنسا كانت موضوع الحوار الرئيسي لدى الجميع. فالأضطرابات واعمال الشغب في كل مكان، والأنتفاضات في كل البلدان ، ومع قيام الأنتفاضات كان هناك أيضاً أنتفاضة في عالم الشعر. فالشعراء في كل أنحاء الأرض بدأوا يكتبون بوجدانية ، رداً على قرن الكلاسيكية الجديدة، إذ ان صيغة الشعر الشعر السائد انذاك كان يحتوي على تراكيب صارمة ومشاعر مكبوته.

 

لقد ألهبت أعمال الشغب عاطفة الشعراء بدلاً من ان تلهب الأعتبارات الفكرية، والخيال والحدس بدلاً من المنطق. وأخذوا يفضلون التعبير عن العاطفة والحرية والفعل التلقائي بشكل صريح ومن دون قيود بدلاً من التعقيد وفرض النظام. لقد فهم شعراء الفكر الرمانسي الطبيعة على أنها روح حية، تتوافق مع مشاعر الحب والرحمة الأنسانية ، وهم يتوقون الى أبدية لا يمكن بلوغها بسهولة، إذ أمن الفكر الرومانسي انه على الرغم من معرفة الأنسانية لجزء بسيط من الواقع من خلال حواسنا الخمسة، ولا زلنا نشغل أنفسنا، الى حد كبير، بالحقائق العلمية والقيم المادية التي نكتسبها بحواسنا. وسلموا بأننا لا ندرك الحقيقة الواسعة التي تقع خلف حدود حواسنا وتحقيق السيطرة الكاملة عليها ألا إذا تعلمنا الثقة بغرائزنا وطاقاتنا ورؤانا التخيلية. نجد ان العاطفة الرومانسية الملتهبة بالحياة والطبيعة تتجسد في قصيدة شيلي ” أغنية للريح الغربية” إذ كانت قصيدة تدعو دعوة جادة لحدوث ريح شديدة، وقصيدة عن روحية الفكر الرومانسي تؤكد القوة في الوجدان والريح الثورية العظيمة التي تجعل الطبيعة عاجزة عن الوقوف أمامها ـ” … ” أعرف صوتي ، يشحب وجهك فجأة من الخوف”. “لقد عبرت قصيدة ” اغنية للريح الغربية ” أيضاً عن التوق لفضاءات خيالية واسعة، ونالت عملية كتابتها بأتقان حظوة لدى شعراء الرومانسية. إذ لم يكن الشاعر شيلي وحده الذي انحاز الى مبدأ القوة لتجعل منه ” مزمار نبؤة” ، بل إلى الريح لتجعل منه قيثارة إذ قال :” أجعليني قيثارة” ـ والقيثارة رمز يتكرر لدى الفنان الذي يعزف على حالة الألهام.

 

كان السبب الرئيس وراء كتابة هذه القصيدة هو ان شيلي حالماً بتغيير يعتقد بأنه يلف الأرض كلها، حيث ان شيئاً خيراً قد يخرج من جنبات الشر والضياع ليحتل العالم كله، فهو يستلهم الريح الغربية القوية، القوة التي مثلها بالشر، عالمه المتغير دائماً، وشعوره الخاص، الذي يعمل من خلاله لحدوث التغيير الذي يتمناه للعالم، وكان يعتقد انه ممكن. فقصيدة شيلي محاولة وجدانية لجعل الريح الغربية تثير فيه الثورة.

 

هذه العاطفة التي أطلق عنانها في نفسه وفي شعراء رومانسيين أخرين أدت الى تكوين أدب يصور الموضوعات العاطفية بشكل خيالي، وبحب للطبيعة والحياة والمجردات الحسية ، وكان أعظمها على الأطلاق الحب ، الجمال ، الحقيقة والله. أوضح بليك أشتياقه لأدراك اللا نهاية والخلود والأفكار التجريدية الأخر، عندما قال : ” لرؤية الجمال في حبة رمل” والسماء في زهرة برية، تضع الخلود براحة يدك وتكون الأبدية في ساعة”. ضمن أربعة ابيات يذكر بليك اربعة مفاهيم دقيقة، جميعها تقع ضمن الأشياء التجريدية الحسية.

 

كانت هذه الكتابات العاطفية عن المحسوسات غزيرة بحالات الوصف التعبيرية . فالصور التي يكونها العقل عن تلك المحسوسات تكون أكثر تأثيراً من أي كلمات وصفية تحاول دائماً وصف الصورة نفسها. بالوصف الموجود في القصيدة، يتمكن القراء من أخذ الخبرة من الطرف الأخر من خلال تكوين صورة خاصة بهم ـ وبالأسلوب والنبرة العاطفية للكتابة الرومانسية.مثل هذه الكتابات سيكون لها القدرة على التذكير بالنص دائماً.

 

ليس هناك شاعر سواء كان رومانسياً أم من اتجاه أخر يستطيع ان يعرف ما هي المعاني التي يستقيها القراء من كتاباتهم. لأن كل قارئ له مفاهيمه، والقصيدة تشبه الصورة نلونها بمفاهيمنا الحياتية الخاصة . على أية حال، لأن القراء سيستخدمون المعاني الخاصة بهم لفهم القصيدة، فسيكون للقصيدة تأثيرها الثابت والمستمر في أذهانهم. ان “عين العقل” والتركيبة الشعرية التي ترافق دعوتها هي الأداة الرئيسة للخيال. لقد كان كوليرج أحد الشعراء الرومانسيين الذين صنفوا الخيال الى جزءين : الخيال الأولي الذي يكون المعرفة والأدراك الحسي الممكن؛ والخيال الثانوي، وهو الخيال الشعري الذي يوصل العقل المُدرِك الى حالة الأنصهار بالشيء المُدرَك بعيداً عن العالم المحيط به. فالخيال الشعري هو قدرة العقل على احتواء “مشاعر عميقة وأفكار متبحرة”  تعطي تفسيراً للأشكال وتعيد صياغة التجارب والخبرات. ولأن الخيال الثانوي لدى كوليرج كان مشابهاً بدقة للأفعال الأبداعية الأساسية في الكون التي وجودها في شاعر يعد مهم جداً بالنسبة له، وفقدانها في قصيدة ” أنكسار الخاطر : أغنية” شيء محزن جداً.

 

في العقل والنفس الإنسانية ، توجد رغبات أساسية عديدة، وبتعريف فرويد تقع ضمن الأنا المثالية. إذ تعمل الأنا المثالية لدى فرويد على مبدأ اللذة وهي رغبة الأفراد في تلبية الأحتياجات الأجتماعية الأساسية (الغذاء ، العائلة والجنس .. الخ) . والأنا المثالية هي أيضاً مصدر كل الأعمال الأبداعية وتشبه كثيراً الخيال الثانوي لدى كوليرج، الذي هو مصدر كل الأستجابات للقدرة الأبداعية. أنها هذ الأتساع الذي يكون الخيال الثانوي أو الأنا المثالية ـ حيث يقع السر في بقاء الشعر خالداً . وأنها أيضاً ذلك الخيال الشعري الثانوي / الأنا المثالية التي تساعد على صياغة المعاني والأستجابات للقصيدة ـ لأنه ليس الشاعر هو من يمنح المعنى في قصيدة ما للقراء، بل القراء أنفسهم هم من يصوغون المعنى. أعتماداً على السياق والثقافة الأجتماعية لدى القراء، إذ يمكن استنتاج قراءات لا حصر لها تستنتج من النص ، مع وجود بعض النصوص المعروفة أكثر من غيرها.

 

لكن هذا الاتساع لم يكن هو الذي كون المعاني والأستجابات والأفكار النقدية التي بثت روح الخلود في القصيدة. بل الحقيقة ان المعاني والأستجابات والأفكار النقدية هي التي كونت هذا الاتساع. فلا يعود خلود الشعر إلى كونه يحمل قافية جيدة، بل إلى كونه مستلهماً بصورة جيدة. قال كيتس : “ان الشعر يجب ان يكون عظيماً ومتواضعاً، شيء يدخل روح الإنسان، ولا يباغتها أو يحيرها بنفسه ، بل بموضوعه”. أنه موضوع الأعمال الرومانسية التي تلهم مثل هذه الأفكار العظيمة في الإنسان ـ فبالنسبة للموضوع الرئيس في كل الشعر الرومانسي تقريباً هو موضوع مجرد. سواء كان هذا الموضوع عن ، الحقيقة، الجمال، الحب أو حتى التوافق بين المحسوسات المجردة، فكل الأعمال الرومانسية كانت خاضعة للمفاهيمية بشكل معتدل تقريباً. ولكونها مواضيع مفاهيميـة ـ ولدت من المفهـوم ـ فالمجال الوحيـد الذي يمكن ان توجـد فيه وهو العقـل وحده ـ وفي وجودها ، حتى ان كان للحظات المذاكـرة القليلة بعد قراءة القصيـدة ، تبقى مؤكدة خلودها الى الأبد.

 

مثال واحد على مثل هذه القصيدة التي تلهم الأفكار حول موضوعها قصيدة كيتس ” أغنية  على قارورة يونانية ” . تبدأ القصيدة بالحديث عن قارورة يونانية قديمة كتبت عليها أغنية، مع مشاهد للأله “ديونيسيس” رسمت على جانبيها.عند نهاية الأربعة مقاطع الأولى، وبكلماتها المتتابعة بشكل تناغمي جميل والتعابير الوجدانية المكثفة كونت الصورة المذهلة في خيال القارئ، وتكون الصورة الجميلة للقارورة قد سلبت القارئ عقله بشكل مسبق وفي المقطع الخامس والأخير، يظهر لنا كيتس عبارات مكثفة تبحث باستفاضة في جميع مجالات الشعر الرومانسي:

 

( “الجمال هو الحقيقة، والحقيقة جمال”، ـ هذا كل شيء

 

فأنتم تعرفون عن الأرض ، انت تحتاجون حتى أخركم المعرفة).

 

قال تي. أس. أليوت بأنه قرأ حتى الآن أكثر من خمسة وعشرون تحليلاً مختلفاً ومفصلاً عن هاتين البيتين فقط.

 

يمكن رؤية القارورة على انها جمال ” وكأنها منظر” وعلى انها فن أيضاً. فالحقيقة في معناها السطحي، تكون اجابات على أسئلة كيتس حول منظر مرسوم على القارورة، لكن الحقيقة هي أيضاً حقيقة كل الأسئلة الكبيرة، عن الحياة والخلود (التي يذكرها خلال القصيدة) فالسعي وراء الحقيقة يعمل على “أخذنا بعيداً عن الفكرة” كما يفعل الشعر ذلك، لكن عادة دون أقناع. على أية حال، الوجدانيات التي تستحضر الجمال والفن والشعر والدرجات السامية التي يثير الشعراء بها عواطفنا والتأمل الخيالي لديهم، يمكننا من معرفة كل هذه المدركات على الأرض وهذا كل ما نحتاج الى معرفته.

 

بعيداً عن كونها مَثْلاً يلهم الفكر كان لقصيدة ” أغنية على قارورة يونانية ” ثيمات عديدة عن المجردات الحسية وعلاقتها بالشعر، مثال واحد على هذه الأشياء التي رسمت بشكل مادي على القارورة كانت سلسلة من المفاهيم المجردة (مثل الهرب والذهول أو الأستغراق) . فالقارورة هما تمثل الفن والشعر، عندها يقول كيتس : “عندما تُضيع الشيخوخة هذا الجيل ، يجب ان تبقى انت” ـ لأن قصيدة القارورة (فن وشعر) يجب ان يدوم بقاؤها في ذهن كيتس وفي ذهن قرائها الآن وفي ذهن قراءها فيما بعد.

 

كان كيتس يؤمن أيضاً بمفهوم أسماه ” المقدرة السالبة” ، إذ قال انه ” لا شيء في هذا العالم يمكن اثباته”. لذلك يجب على الإنسان ان يكون قادراً على ان يتواجد في الأشياء غير المؤكدة والغوامض والشكوك من دون أية أنفعال وصولاً الى الحقيقة والمنطق”. ما قاله هو يجب علينا بلوغ نوع من التقبل والأقتناع بما هو غير مؤكد. فليس بوسعنا التأكد من حقيقة العواطف والشيء المجرد، كما هي في فكرنا، وما هو في فكرنا هو شيء واحد يمكن ان نصرح به لنعرف اننا حقيقيون. لذا فأن الجمال هو الحقيقة، والحقيقة جمال.

 

لكن ربما تكون البينة الكبرى على ان الشعر الرومانسي يؤكد على خلـوده من خلال ألهامه فكر كل من يدرسه. على ان المناقشات الكثيرة التي تكتب عن الشعر أكثر من أي شكل فني أخر وبالخصوص الشعر الرومانسي الذي يخلد نفسه من خلال وجدانيته ومفاهيمه التي تبقيه خالداً الى الأبد.  فلازال الشعراء الرومانسيون قادرون على ألهام الفكـرة في أذهـان قـراءهم من خلال أطلاق العنـان للعاطفـة واستخدام المحسوسات المجردة، واحياناً الأستغراق في التفكرات والتأملات المكثفة، فلألهام الفكري هذا حتى ان حصل لدى شخص واحد فأنه يخلد القصيدة والشاعر والشعر بأسره.

 

مشاركة