خروجُ الصفحة الثقافية عن مسارها
أحمد محمّد أمين
ما نلاحظه في الصفحة الثقافية هذه الأيام استغراقَ كتاباتها في الشأن السياسي، ولا سيما في ملاحقة الربيع العربي الذي شاخ وخرف، وجاءت نتائجه لتُكملَ سياسة َ مَنْ سبق. لكنْ برداء اسلامي لا تتحرّشُ باللاعبين الكبار، ولا تجرحُ الجارة اليهودية التي تحرقُ الأخضرَ واليابس في الشأن الفلسطيني والعربي والإقليمي. ولا أدري كيف ينساقُ المُثقفُ المُبدعُ الي هذا السياق اللاثقافي أوالمصيدة، وبدأ يُزاحمُ السياسي ويسحبُ البساط من تحته. قبلاً، قبلَ أن يأتي الطُوفانُ كانت الصفحة ُ الثقافية تشعّ وتزخرُ بألوان الإبداع الأدبي والفكري / بالنقد الرصين، بكتابات ذات نبرة انسانية عميقة، بالشعر والقصة اللذين يوقظان العقل المسترخي ويُسكتان الألم، ويُطفئان ظمأ القاريء.أمّا الآنَ فحدّثْ ولا حرج، فالصفحة الثقافية لا تختلف عن سواها من صفجات الجريدة / ما عدا استثناءات قليلة هنا وهناك / وكأنّما الابداعُ بضاعة استهلاكية لها ساعاتٌ ومواقيتُ مثل الخضار والفاكهة تُعرض علي أرصفة السوق. ففي كلّ صباح أجيء الي الصفحة الثقافية في هذه الجريدة وتلك لأري ضمورَها وتسطحها، بل موتها الفاجع. وتستخفُ موادُها الضحلة بالقاريء المُثقف…وممّا يبعثُ علي الاستغراب أنّ عديداً من الروايات والمجاميع القصصية والنقد ظهرت علي حين بغتة، وخلال فترة قصيرة من اندلاع الربيع العربي الذي اوله عسلٌ وآخرُه بصل. فأيُّ عمل ابداعي يحترمه القاريءُ ويشيد بقلم كاتبه تكتبُ بهذه العُجالة عن الثورة الشبابية التي ما زالت تتخبّطُ في المياه العكرة، واُجهضت وضاعت مضامينُها ؟. بل، كيف ينساقُ الكاتبُ الذي عرّكته التجربة ُويتكيءُ علي تأريخ ابداعي عميق وراء هذه الموجة التي لا تُعرفُ نتائجُها ومصيرُها سوي أنّ قبضة ً اسلامية سلفية أمسكت بمقاديرها ومقاليدها عبر مُخططات خارجية مرسومة سلفاً. ولا يظنّنَ ظانٌّ أننا ضدّ الاسلام / فنحنُ مسلمون، والاسلام الصحيح سلمٌ وعبادة ٌ، ومحبّة ٌ وتسامحٌ، لكنّ الأصابع الأجنبية التي تعملُ من وراء الحدود سيّستْ هذا الإسلامَ السمح الآمن والمُسالم وحرّفت مساره وصيّرته أداة َ قمع لإسكات الصوت المُعارض وتضييق مساحة الحريات. فبلدانُنا العربية عاشت سنوات طويلة من القهر والاضطهاد، وناضلت شعوبُها من أجل فسحة من الحرية يتعايشُ فوقها جميعُ الأفكار والنظريات والديانات والطوائف.
لنكتُبْ عن الزمن الجديد، لكنْ لنتريثْ قليلاً ونرَ نتائج التغيير التي تتمخضُ عن هذه الثورات وما ستُحققه للشباب الذين قمعتُهم الأنظمة ُ الفاسدة ُ وضيّعت حياتهم ومستقبلهم. والأجدي بالكتّاب المُبدعين أنْ يدرجوا كتاباتهم عن هذه التحوّلات في خانة السياسة لا في متون الآبداع الأدبي. قاريءُ الصفحة الثقافية يتطلّعُ الي قراءة ما يُغني واعيته بكلّ جديد ممّا تنتجه أقلام الكتّاب والشعراء. واذ اتصفحُ كلّ صباح / منذُ اندلاع شرارة هذا الربيع / الصفحاتِ الثقافية لا أري جديداً تعبيءُ نفسي بما أفتقرُ اليه. كما لو كان موضوعاً واحداً وبوتيرة واحدة. وما قيل في هذا الربيع الذي بلغ خريفه، قبلَ أن يتنسمَ الشعبُ العربي هواءه المُضمخُ بالحريّة والمحبّة والإنجاز علي جميع الأصعدة، أشبه بفقاعات طائفة سرعان ما تنفجرُ وتغيبُ. فما زال القمعُ والتصفياتُ والقتلُ والخرابُ علي حاله لم يتغيّر فيه شيءٌ سوي بضعة وجوه، ووجوه ٍ أخري نزعت أقنعتها السابقة لتحتل المواقع الحسّاسة.
ولا أظنّ أنّ المثقف الذي يعنيه الإبداعُ وحدَه في حاجة الي السياسة التي ترشقنا بها العشرات من الفضائيات امساءً واصباحاً. كما بلغ عددُ المُحللين السياسيّن عديدَ الحصي والرمال. وأصواتُهم فوق كلّ صوت، حتي صار بائع الخضار وسائق التاكسي مُحللاً سياسياً. ولن اُبالغ ان قلت انّ رزاماً في احدي صحف ما قبل الإحتلال تحوّلَ الي مُحلل سياسي يحملُ لقب دكتور.
فيا أحبتنا / مُشرفي الصفحات الثقافية / ابتعدوا عن السياسة، ودعوا الإبداع بكلّ أجنحته الأدبية يُعزّزُ وجوده ومكانته علي صفحاتكم، فقد شبعنا منها حتي التُخمة، وجميعنا يعلم حقّ العلم أنّ السياسة اليوم محضُ أكاذيب يُمرّرُها الساسة ُ الينا ولو تقاطعت مع ضمائرهم… فرأفة ً بحالنا وبذائقتنا التي أرهقها السجالُ السياسي اليومي المُمل والمُتكرر.. وليعُدْ الي الصفحة الثقافية رواؤها وثقلها المعرفي، ودعوا قاريء صفحاتكم يرتوِ بماء يراع مبدعينا ويراعِكم الشريف. وتعلُ نغمة ُ الثقافة والمثقف علي كلّ صوت
/2/2012 Issue 4119 – Date 11- Azzaman International Newspape
جريدة «الزمان» الدولية – العدد 4119 – التاريخ 11/2/2012
AZP09