حوار مع القاص نجمان ياسين: هكذا أنشأت حكايتي

 

نجمان ياسين مع هدير الجبوري – الزمان

هدير الجبوري- الموصل

 

كاتب وقاص عراقي موصلي تاريخه حافل بالمنجز والعطاء الثر وعندما تراه تتقافز في ذاكرتك كل انجازاته المضيئة وعندما تتحدث اليه تشعر وكانك عثرت على كنز معرفي مميز وقاموس من الفنون والآداب ولاتملك ازاء هذا العطاء سوى الوقوف احتراماً لمسيرته الادبية الطويلة..

الدكتور القاص نجمان ياسين الذي كنت أنوي الاستعانة بسيرته الذاتية وماكتب عن مسيرته لأكمل تحقيقاً متكاملاً عنه لكن شاءت الظروف أن ألتقيه شخصياً في احدى المنتديات الأدبية وطلبت أن أجري معه هذا الحوار الشبع بالعمق الثقافي والانساني والذي خص به جريدة الزمان..

 الكتابة والاحلام

-ماذا تعني الكتابة لنجمان ياسين وماهي الادوات التي أتخذها أساساً لكتاباته؟

 

الكتابة عندي هي فن الإيجاز والإفصاح عن أشياء كبيرة بأسطر وكلمات تعتمد التكثيف وإلى هذا فالكتابة تحقق الأمن الروحي وتوفر لنفسي الشعور بالسلام ، لارقيب على الكلمة في منجزي فالكتابة في تصوري تشبه الأحلام ولا يمكن أن تخضع للمراقبة لأنها تعيش في الحرية والحرية فقط .

أذاً الكتابة تعني اﻷصالة ، ومن المهم ألا يشبه الكاتب إلاّ نفسه ، والحق اني أحرص على تكامل الكتابة في التعبير الجمالي والتوصيل ، والكتابة الحقة لكاتب يدرك أنه كائن إجتماعي وضمير مفصح عن الجماعة اﻹنسانية ، تتمثل في قدرته على تحويل ما هو مفرط في الذاتية ، والى ماهو جامع وعام وهو يغرد منفردا خارج السرب في تحليقه ، ولكنه قريب من السرب في نفس الوقت .

في الكتابة أسترسل في عفويتي ، وبعد إنجاز العمل ، أشذب وأهذب ﻷحقق التوازن ، فالكتابة هي إكتشاف أيضاً ، وما من نموذج واحد في الكتابة هو اﻷفضل ، وما من كاتب مميز إلاّ وله نموذجه الخاص وبصمته الفريدة ، والكاتب في تصوري يحكي قصته مع الحياة ، وكتابته ليست بديلاً عن الحياة ، بل هي محاولة لإعادة التوازن الى الحياة ؛ من المهم أن يواصل الكاتب الكتابة ، فهي عذاب كما افصح مرة (بوريس باسترناك ) بيد أن هذا العذاب يتوفر على لذة وحرية .

والكاتب الحق هو مثقف رسولي على حد قول (إدوارد سعيد) ولنتذكر أننا نكتب مانقدر عليه وإذا بقي من كل منا أربع صفحات فهذا أمر جيد ، وهذا ما أوضحه العبقري (خورخي لويس بورخس ) مرة في تصريح له ، الكاتب يجب أن يمتلك كبرياء وكرامة المبدع وأن يصون موهبته ، وفي نفس الوقت فإن تاج الكاتب هو التواضع فهو علامة قوة وثقة بالنفس .

 مقولة همنغواي

-كيف تعامل نجمان ياسين كأنسان واديب مع الازمات الكبيرة التي مر بها وهل تمكن من عبورها ؟

من قلب اﻷزمة أنبثقُ وتسطع تجلياتي في الكتابة وأقوم بتحويل كل أزمة الى إبداع ، وﻻ أُريد للأزمة أن تأخذني الى الهاوية أو اﻹستسلام ، ﻻ أريد للأزمة أن تكسرني ، وأنا مؤمن بمقولة (همنغواي) من الممكن تحطيم اﻹنسان ، ولكن ليس من الممكن هزيمته ، أجل قد يخسر اﻹنسان معركة ما ، ولكن ﻻ ينبغي له أن ينهزم ويصاب بخطيئة القنوط ، وليفكر بمعارك قادمة ، اﻷزمات تثير وتذكي جذوة اﻹبداع في زهرة قلبي وتجعلني أشتعل بالخلق والمعرفة ، انكفئ على عالمي الداخلي وأستبطن أعماقي لكي أصنع وأولد الكتب والنتاج الذي يتجاوز اﻷزمة ، لقد أصبت بسرطان الغدة الدرقية فكان ان كتبت ، غزال الحب والموت،،كي أحول تجربتي مع المرض الى إبداع ﻻ بل أردت أن أسجن الموت في قفص ، صادقت الموت وآخيته وأصبح أليفا بالنسبة لي إن لم أقل تركته وراء ظهري،،كان بعض اﻷطباء يتوقعون رحيلي مبكرا ولكن ولله عظيم الحمد ، مضت ثلاثون سنة وأكثر ،، وبقيت أقاتل اﻷزمات وأقارعها ، أثمرت مواجهتي للموت عن كتابة روايتي ( شظايا قلب)التي أرخت روحيا لقلبي وعقلي ولوعتي أمام الفناء والزوال من جهة ، واﻹمساك بشمس الله الساطعة الهابطة على قلبي بحنو من جهة أخرى ، إنها رواية تحكي طيبة وغرور وعناد قلبي في عالم يفتقد التوازن .

الحروب قرضت عمري وتجارب الغدر والخيانة والدسائس من الصغار وناكري الجميل هم الذين استفزوا المارد في داخلي وما رافقها من أزمات هي التي فجرت نور الكلمات في تجربتي .

وكما قلت ، أنا أسعى لتحويل كل أزمة أعيشها ،،سواء اكانت شخصية ذاتية أم كانت جماعية أو موضوعية ، إلى نتاج ابداعي ؛ اﻷزمات جعلتني أكتب وأنا أشكر حسادي وﻻ أقول أعدائي فليس لدي أعداء في عالم الفن واﻹبداع ، وأنا ﻻ أتطير من الحاسدين ﻷني اعرف قدراتي وما امتلك من طاقة ، وادرك تميزي ، وما لدي يكفيني ويفيض عن حاجة مبدع ، ولي ان اشكر جميع الذين حاولوا أن يحاصروا العملاق في أعماقي والذي هو عصي على قمقم سليمان ، وأسالهم هل بمقدور أي كان أن يسجن نور العقل ونبض القلب ؟ وهل ثمة قوة تستطيع أن تعتقل الحلم وتمنعه من اﻹنطلاق في سموات ﻻ تُدرك وﻻ تُنال ؟

 

نجمان ياسين- استاذ في التأريخ وقاص وروائي

 

عالم الطفولة

-هل ماكتبته في بداياتك وماتلاها له علاقة بالمعاناة التي عشتها بمراحل معينة من العمر؟

 

إن كل ما كتبته من قصص يصدر هو اﻵخر عن معاناة ويرسم صبوات وروح إنسان ﻻ يكتب إﻻّ عما يعرف ويعايش ، ولي أن أقول إنني كتبت ، ذلك النهر الغريب ، وحاولت أن أضيء ذاك الشقاء المفجع في طفولتي وطفولتنا معاً وأردت أن أستوحي الرؤية الطازجة والبكر لعالم الطفولة والمراهقة اﻷولى من خلال عين الطفل أو الصبي الذي يتعامل مع اﻷشياء بكل حرارة ودهشة اﻷعماق بعيداً عن تصورات ورؤى وقوانين عالم الكبار المفروضة قسراً من الخارج بحيث أن اﻷطفال والصبية يجلبون معهم قواعدهم الخاصة ويرحلون في اﻷسطورة والخرافة واﻷمثال الشعبية، يحطمون صوت المنطق البارد ويتآلفون مع بعضهم عبر أحاسيسهم الصادقة ويكشفون زيف وتراخي عالم الكبار ويكتشفون مدن الحلم والرحيل إلى المستقبل ، كان اﻷبطال يعيشون في مدينة تعاني من أزمات مركبة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ، المدينة والمناخ هنا هما البطل واﻷبطال يظهرون في أكثر من قصة من خلال زاوية التقاط مختلفة ، حاولت في ذلك العودة إلى البراءة اﻷولى والينبوع اﻷول في سعي لتقييد المعالم اﻷثرية والقيم الشعبية والفولكلورية التي بدأت تندثر بفعل هجوم المدنية التي تجهز وبخشونة على معطيات مهمة تدخل في تركيب الشخصية الوطنية والقومية ، نفس بيئة واطفال ،،ذلك النهر الغريب،،الذين طهرهم الجوع المقدس وأنجبتهم نار التجربة قبل اﻷوان ، يكبرون ويتطهرون بسلسبيل الشهادة دفاعاً عن تاريخهم ووجودهم في مجموعة ، حكايات الحرب .

في مجموعة ،،رائحة التفاح،، التي كتبتها عن تجربة معاشة في لندن وكما هو شأني في الكتابة عما أعرف ، جاءت نساء هذه المجموعة لتحكي لنا إشكالية اﻹصطدام الحضاري بين الشرق والغرب عبر علاقة الرجل بالمرأة ،،البطل في هذه المجموعة لم يكن ذلك العاشق الذي يفتتح عالم النساء السحري ، لم يكن ذلك ( الدون جوان ) بل كان البطل المحبط بحبه المستحيل والذي يدرك إستحالة اﻹمساك ببرق اﻷنوثة واﻹحتفاظ بالجمال الرائق في عصرنا ، النساء هنا معذبات مختنقات نفسياً وجسدياً وإقتصادياً ، لهن عذوبة ورقة ، ولهن قدرة تدميرية مهلكة .

منذ عام 1981 شرعت بالتفكير بإنجاز مجموعة قصص تتخذ من عالم الجنون قناعاً ومناخاً لتمرير أُمور رقدت في ذاكرتي وتعود الى زمن طفولتي وصباي ، تماماً كما كان اﻷمر في ذلك النهر الغريب وهكذا بدأ مخاض قصص ( جنون وماأشبه ) وبدأت عام 1981م أستنهض وأبتعث وأستحضر الذكريات بتفاصيلها ، وﻷن تلك التفاصيل تمتد إلى أكثر من أربعين سنة مضت ، إقتضى ذلك الكثير من العناء ، وكنت أجدني وقد إنهمكت في تشكيل القصص ، وإستغرقت في إنشائها ، أضيف وأختزل وأركب وأحذف وأحلم ، وأشيد المعمار الفني لكل قصة ، ﻷقوم بإستبدال وتغيير مطلع أو نهاية أو عنوان القصة مرات ومرات ، بقيت مهموماً بقصص  الجنون وما أشبه، ومسكوناً بما يجاورها من أُمور تشبه الجنون أو هي جنون من نوع آخر .

 

-من أين أستمد نجمان ياسين روح الحكايا التي يكتبها؟

أخذتُ روح الحكواتي وسحر الحكي من جدتي لأُمي وكانت تمتلك خزيناً هائلاً من أمثال الموصل، كانت شاعرة شعبية بالفطرة وترتجل الزجل بسلاسة ، خالتي كانت ماهرة في رواية الحكايات ولسانها حلو جذاب في الحكي ، وعن امرأة خالي أخذت حكاياتها المدهشة اﻵسرة ، وقد تشبعت بروح الحكاية وسحرها وجاذبيتها عن طريقهن ، وانعكس هذا في حكايتي الخاصة التي أنشأتها .

وأخذت الكثير من أسرار وخفايا العمل القصصي من خلال قراءتي الجادة لعيون اﻷدب العالمي  فضلاً عن انني أفدت من قراءتي العميقة والمدققة لتراثنا العربي اﻹسلامي ولتراث وحضارات الشعوب والأُمم ، ولي ان اقول ان قراءاتي الجادة والنهمة متواصلة فالقراءة خلاص وهي صنو الكتابة والكاتب الحقيقي مطالب بأن يقرأ أكثر مما يكتب .

هنالك صلة وثيقة بين اﻷديب والمؤرخ في منجزي السردي ، فأنا أحس بوجود تكامل بين الباحث التاريخي وبين اﻷديب في داخلي ، وهذا أمر طبيعي ،ذلك أن تفحص جذور التدوين التاريخي في حضارتنا ، يرينا أن القصاص واﻹخباري وراوي القبيلة في البواكير اﻷولى من اﻹسلام وتحديداً في اﻷمصار ، كان هو القاص الحكواتي الذي يقدم المرويات قصصياً لتجمع وتدمج في روايات تاريخية ﻻحقاً ، وإلى هذا كان أغلب المؤرخين القدامى الكبار ، أُدباء وأصحاب لغة عالية  كإبن حبيب وابن قتيبة والبلاذري والطبري والمسعودي وغيرهم ، أي أنهم كانوا يحققون التكامل بين شخص المؤرخ واﻷديب في أعماقهم ، الباحث التاريخي في مشغلي السردي ، قدم لي بوصفي أديباً، خدمة عميقة وجعلني أمتلك القدرة على التبصر ، وحَدّ من جموحي اللغوي والعاطفي ، ولجم بعض خيالي ليقربني من الموضوعية ، فضلاً عن أنه وفر لي الغزارة في المعرفة اﻹنسانية والتغلغل في جوهر اﻷحداث والوقوف عند السببية وعلاقة ذلك بالنتائج ، أما اﻷديب في أعماقي ، فقد جعلني في الكتابة التاريخية ، ﻻ أقف عند حدود اللغة الباردة والصنمية والميتة أحياناً والتي تشبه الحجارة الصماء ﻻ بل مكنني اﻷدب من ضخ دم وإبداع الكلمات الصافية في جسد  النص التاريخي البارد والسكوني كي أجعله متحركا ملونا مختلجا بنبض روحي، وإلى هذا وفر لي القدرة على الخيال ، فالمؤرخ من دون خيال وثن ، وفي اﻷدب والتاريخ كنت معنياً باﻹنسان البسيط المهمش، وقد قلت مرة في حديث اجري معي ، أنا صديق النهر والفقراء والمبدعين .

اﻷديب أقرب إلى روحي ، وأحب من الباحث التاريخي ، أما لماذا أنحاز الى اﻷديب أكثر من المؤرخ ؟ فذلك ﻷن العرب المسلمين منذ القرنين الهجريين اﻷول والثاني كانت تقول : إن الكتابة إنشاء وإخبار أو إعلام ، فاﻹنشاء يعني الخلق واﻹبتكار في الشعر والقصة والرواية ، بينما اﻹخبار يعني أن تروي وتخبر وتنقل وليس أن تبدع وتبتكر وتخلق ، اﻹبداع في اﻷدب أكبر من اﻹبداع ، إن وجد ، في حقل التاريخ مع ملاحظة أن المؤرخ قد يبدع إن أعمل العقل والنقد والتحليل والتسلح بثقافة موسوعية ليخرج بنتائج جديدة ، إلاّ أن طبيعة التاريخ وطبيعة اﻷدب ، تقومان على اﻹختلاف في جوهرهما ، فالمؤرخ معني بما هو كائن وبما حصل وحدث وكان ، بينما اﻷديب معني بما ينبغي أن يكون ومعني بالمثال والحلم ، وباﻵتي من اﻷشياء أجد نفسي وروحي في اﻷدب ، وأجد ذاكرتي وهويتي في التاريخ .

 الانسان المهمش

 

كذلك كتبت عن اﻹنسان المعذب في قصصي ، وعن البائسين والمعزولين والمهمشين المنفيين ، ولعلي في بحث متواصل عن النماذج اﻹستثنائية ، فكاتب القصة القصيرة معني باﻹنسان المستوحش المتوحد باﻹنسان المهمش وإنسان اﻷقبية المعتمة وانسان الخانات وإنسان المناطق النائية ، إنسان الجبال المنقطعة وانسان الصحراء الشاسعة المعزولة ، ولنتذكر اﻹنسان المهجور المتعب ، وسنبصره في قصص أدغار اﻻن بو الذي بوأ انسان القصة عنده القلق والفزع من غرائبية الوجود وﻻ معقوليته ، وقصص موباسان التي حكت عذابات نسائه المتعبات المنزويات مع امراضهن العصية كبائعات هوى،كذلك يوقفنا غوغول وانطوان تشيخوف أمام الموظف الصغير المنسحق ، بينما كان البير كامي في ،، المنفى والملكوت ،، يجسد عزلة ونفي بطله أمام رعب وعبثية الوجود، ولنا ان نتذكر ابطال جاك لندن وهمنغواي في مقارعتهم لبطش وجبروت الطبيعة وعزلتهم وفشلهم البطولي وتحديهم لعوامل الزوال والفناء .

 

-هل تعتبر نفسك من الأدباء المحليين أم العالميين؟

 

أنا كاتب محلي ، أنطلق من المحلية إلى العالم وأنا مغرم حد العشق والوله والوجد والهيام والفناء بالموصل ، إنطلاقاً من المحلة ومروراً بالمحلات واﻷحياء العتيقة والناس البسطاء المعذبين .

المكان يظهر في أعمالي السردية بقوة ويفصح عن عبقريته ، وقد قمت أكثر من مرة بإكتشاف الموصل والدخول الى أزقتها ، زقاقاً ، زقاقاً ، ومحلة محلة ، لأتعرف عن كثب على الجوامع والمساجد والحسينيات واﻷديرة والكنائس ، واﻷضرحة ومراقد اﻷنبياء واﻷولياء والقديسين والشهداء، وأعرف أن مدينتي خصيبة بالموروث الشعبي ، وقد اتاح لي تكويني الفئوي واﻹجتماعي ، أن أعيش في بيئة شعبية إذ عشت في محلة الشيخ فتحي ومحلة دكة بركة ومحلة الشهوان ومحلة الميدان وحوش الخان وهذه اﻷماكن غنية بالموروث الشعبي والبطوﻻت اﻹنسانية ، ومترعة بالحكايات واﻷمثال الشعبية ، وألعاب اﻷطفال وأغانيهم الجميلة العذبة ، وهذا السحر الخاص بالمكان الموصلي ،منقوش في ذاكرتي .

إن الفنان الصادق يستطيع أن يصل من خلال عبقرية المكان وسرها المحلي البسيط العميق في نفس الوقت ، إلى العالم أجمع ، واتذكر ان الشاعر الداغستاني (رسول حمزاتوف )

 عاش في بلد صغير أشبه مايكون قرية وإستطاع أن يكتب عنها كتابه العظيم (داغستان بلدي) لينتشر في كل بقاع اﻷرض ويبرهن أن المحلية هي الطريق اﻷمثل إلى العالمية .

نحن نتعلم من البيئة المحلية ، البيئة كانت المدرس اﻷول لي ، وتعلمت من جدتي وجدي لأُمي الصوفي ملا فهمي بن ملا سعيد النقشبندي العمري الذي كان صوفياً يؤلف ويكتب بقلم القصب ، أما جدي لأبي فقد كان أميا وكبير قومه وجاءتني عن مآثره وبطولاته حكايات كثيرة رواها لي اعمامي ، حكايات تشبه اﻷساطير وقد إدخرتها في نفسي وتسللت الى كتابتي، جدي ﻷبي إنحدر من الخابور في سوريا إلى أعالي المياه في  مناطق زمار حيث القرى المعانقة للمياه قبل أن تغمرها مياه سد الموصل ، ولعل حبي للماء والنهر يقترن أيضاً بجدي وأعمامي ، وبطفولتي في القرية إبان عطلات الربيع والصيف ، حيث أمضي أيامي في قرية  (إدحلة)..

 

  • ماذا يعني النهر لك وهل كان لصيقاً بكتاباتك ونال حصة من مجموعاتك القصصية سواءً كمحتوى أو عنوان؟

النهر بالنسبة لي ، يعني نفسي ، وجهي ، صوتي ، ويعني جذري اﻷول ، والمصبات الفاتنة التي أرنو إليها كي أصل مدن الجمال .

في أُسطورة يونانية وفي إحدى معجزات ( هرقل ) يواجه أحد التيتان من العمالقة ، وكلما صرعه ، هرقل ، وألقاه على اﻷرض ، إستمد العملاق قوة إضافية من اﻷرض وإزدادت طاقته ، أنا أشبه ذلك العملاق ، ولكني أستمد قوتي من النهر ، النهر ملاذي وجسر الخلاص وهو يشكل حالة حضور باذخ في كتاباتي وقد إنتبه أكثر من ناقد وباحث إلى أن أغلب قصصي ورواياتي وقصائدي تستحضر النهر الماء بأشكال عدة وتحمل رموزاً كثيرة .

يحدث أن أعيش تجربة روحية ونفسية معقدة وشائكة جراء مواجهتي للسوء وخيانة من افترضت أنه صديق ، وفي مثل هذا الجحيم ،ﻻ أجد ملاذاً أكبر من النهر ليمتص همومي فأنا وكلما هطل الثلج الأسود على روحي وغمر قلبي ألوذ بالنهر لأسترد روحي من جديد ، أحس أنني أعرف طقوس النهر ، ومنذ طفولتي كنت سباحاً ماهراً أمتلك طاقة ومهارات خاصة في السباحة وفي علاقتي مع النهر، كنت أسبح في شهر آذار والماء عكر طيني وبارد ، وأصدقائي وهم أحياء يعرفون ذلك ، فقد كنا منذ أربعين سنة مضت ، نسبح من منطقة الرشيدية إلى الجسر القديم قرب الميدان ، نسبح من دون أن نأخذ معنا أية مساعدة في السباحة تحوطاً ، علاقتي مع النهر روحية ، فكلما دهم السخام روحي وكلما نث الرماد في أعماقي ، أنفض روحي وأستعيد ذلك القميص اﻷبيض الذي هو نفسي كي أطأ وأسحق الغدر والخيانة والتواطؤ وكل النذاﻻت والتفاهات التي تورثني القلق وتثير غضبي وربما يصل اﻷمر أن أجدني وقد إرتفع ضغط دمي .

 

ذلك النهر الغريب- نجمان ياسين -قصص

النهر وحكاياته 

ان النهر يقدم لي ، ينابيع الفتنة وينابيع الدهشة واﻹبداع ، وبدوري أحسن العلاقة مع النهر ، ولعلي أدرك بحدسي وبنوع من اﻹستبطان ، زمن فيضان النهر واعرف طقوسه ومتى يتغير وينقلب لونه، واين يرق ويصفو وأين يتعكر مزاجه ، أعرف أين يكون عميقاً ، واين يكون ضحلاً غير عميق، إنها حياة كاملة عشتها مع النهر ومع طقوس اﻷسماك والصيادين وعالم الجماسة وعالم مربي الجواميس ، وغير ذلك من متممات العلاقة مع النهر، فالنهر صديقي اﻷول واﻷخير، وهو وجهي كما أسلفت ، والقراء يفكرون أن مجموعة قصصية لي قد حملت عنوان ،، ذلك النهر الغريب،، يتغير اﻹنسان والنهر لايتغير ، ولايكف عن الجريان،إنه كائن يعدو بلا قدمين ، البيئة تتغير، المكان يتغير ، وديان النهر ومساراته تتغير ، أما النهر فلا يتغير، إنه يعلمنا الحكمة والدهشة والجنون ويدعونا لمخاصرة جنيات الماء والرقص مع سحر اﻷعماق .

  • هل شكل السفر متغيرات عميقة أثرت حياتك بالكثير وكيف؟

في السفر يكتشف اﻹنسان نفسه ومن ثم يكتشف الدنيا في وجوهها المتعددة ، والحق أن السفر والعيش في بيئات ذات ثراء روحي وعقلي قد أتاحا لي أكثر من فرصة لمعاينة قناعات معينة في حياتي .

أسفاري الى لبنان وسوريا واﻷردن ومصر وليبيا وتونس والكويت والبحرين وتركيا ولندن ، إنعكست في كتاباتي بشكل مباشر أو غير مباشر، وأثمرت عن علاقات ثقافية مع مبدعين ومفكرين عرب وأجانب ، أوقفتني أمام شخصياتهم وجهاً لوجه ، وفتحت هذه اﻷسفار عيني على اﻹختلاف واﻹئتلاف ، ومنحتني القدرة على تبين الثنائية والنسبية في اﻷشياء ، ناهيك عن تطوير وتحديث ذائقتي وإغناء عقلي .

ولعل السفر الى لندن والعيش فيها ﻷكثر من أربع سنوات ، أتاح لي التعرف على أعمال عظيمة ومبهرة في شتى أشكال الثقافة ، فلندن تختصر ثقافة الدنيا .

في لندن كانت روحي إسفنجة تمتص ما عرفت من آداب وفنون ، وفيها كتبت ونشرت مئات المقاﻻت في صحافة لندن وصحافة العراق وبعد أن كنت أقرأ عن النحات العالمي ،، هنري مور،، إستطعت أن أبصر أعماله في الهايد بارك في لندن ، حيث عرض اكثر من مائتي عملاً شاهقاً ، وكان اﻷطفال يتسلقون هذه اﻷعمال ووجدتني ألمسها بيدي وأعاينها بعيني ، وقد ﻻحظت تأثر مور بالفن العراقي القديم واﻵشوري تحديداً ، وأتيح لي أن أشاهد أعمال ،، جياكوميتي ،، وإنسانه الشبيه بالصرصار وأن أقف امام اعمال ،، بيكاسو،، الأصلية في مراحل ابداعه الثرية في ( تيت كاليري)  وبهرني ( رينوار) بنسائه الشامخات العذبات المتألقات تحت ألوان اﻹنطباعية ، تلك اﻷلوان التي غادرت كآبة ورتابة ونمطية القصور والعقل الكلاسيكي الجامد والطبقة اﻷرستقراطية البليدة وخرجت بألوانها الحارة إلى طلاقة وحرية ضوء الطبيعة وسحر النهر والشمس وأصفر الحقول وأخضر الغابات ، ناهيك عن أعمال ( تيرنر) عن تحوﻻت البحر وأسراره وكيف رسمه بوجد صوفي ، وأوقفتني أعمال (سلفادور دالي) المذهلة الجارحة أمام جنون الفنان فيه ، فضلاً عن أعمال ( رمبرانت ) و ( روبنز) و(غويا )

 وغيرهم ممن سُحرتُ بلونهم ورؤيتهم .

 

مشاركة