حرب الهويات والعقد الطائفي الجديد
مهند العزاوي
يشهد العالم متغيرات جوهرية في اشكال الصراع الدولي والاقليمي، وتبرز ملامح الحرب الباردة، ونشهد تنافس الدول المتمركزة الصاعده لتحقيق الهيمنة الدولية وشغل الرقع الحيوية في العالم العربي وعلى حساب الامن القومي العربي، ويتجسد حربيا بسباق التسليح الصاروخي والنووي وغزو الفضاء وحرب المعلومات وحرب الموارد والطاقة وتجارة الامن القومي، ويلاحظ استخدام استراتيجيات مركبة بعض منها تقليدي مثل توازن الرعب، الردع الشامل، توازن القدرات، حرب الوكالة والاخرى غير تقليدية مثل القضم الجيوبوليتيكي والهندسة الديموغرافية المعكوسة باستخدام حرب الهويات، وعسكرة الاسلام، وصناعة الفوضى التي تسهم في تفكك المحاور الجيوسياسية العربية، وفي مطلع العقد الحالي برزت ايران كلاعب متسلق يؤسس الى العقد الطائفي الجديد وحروب المائة عام عبر حرب الهويات.
يلاحظ اليوم شيوع ظواهر الحروب المعاصرة التي اسميتها منظرا استراتيجية البركان وابرز عناصرها حرب العقائد والافكار ــ حرب الدبلوماسية المخادعة ــ الحرب الديموغرافية ــ حرب الاشباح ــ حرب استنزاف الموارد ــ الحرب الايدولوجية والاعلامية ــ الدعاية والحرب النفسية ــ حرب المعلومات ــ حرب القضم الجيوبوليتيكي، ولعل الدول العربية اصبحت مسرحا لتلك الحروب المركبة والنزاعات المختلقة، والتي اضحت تستنزف القدرات العربية والموارد البشرية، دون مكسب عربي وتعويض بالقدرة العربية لادامة التوازن العربي الاقليمي.
حرب الهويات
ينزلق العالم العربي تدريجيا من نظرية الدولة الى مظاهر الفوضى الزاحفة وتعد تلك سمات العالم الرابع ، وابرزها اندثار الهوية الوطنية واستبدالها بالهويات الفرعية، وشيوع الاضطراب السياسي والامني، وتفاقم الارهاب الطائفي المسلح، وازدياد ظواهر الفساد ومظاهر الفوضى وكذلك تجهيل مؤسسات الدولة وازاحة كيانها، وتعاني المنطقة اليوم من تداعيات حروب المغامرة والتي اضحت متعددة ومركبة سيالة، وباتت تستنزف الاستثمار القيمي والحضاري، وتنحر النظريات السياسية وتتخطى المحظورات الاستراتيجية، وتؤسس لحروب القرن القادم وباستخدام السلاح الفتاك حرب الهويات الفرعية ، ويقف النظام الرسمي العربي والمجتمع الدولي متماهيا في معالجتها، ويبدو ان انفراط النسق الدولي والانفلات القانوني وسوق الحرب كان السبب الرئيسي في حرب الهويات والتمدد الاقليمي، ناهيك عن الملامح الواضحة لعودة الحرب الباردة عبر منصات الصراع المنفلتة التي توظف الاحداث لتحقيق اطماعها التوسعية ومنهجياتها الطائفية الراديكالية الهدامة للدول والشعوب.
العراق مسرحاً للصراع
دخل العراق في شبكة انفاق مهلكة تستهدف كيانه وهويته ومكانته في ظل الطوأفة السياسية، وارهبة القانون الذي يتمترس خلفه الطائفيون الجدد، وهم يشكلون خارطة العنف والارهاب الملتهبة، وتؤكد الواقعية السياسية ان الديمقراطية في العراق لفظية دعائية فقط بلا سلوكيات ومسالك تؤسس لدولة المؤسسات، ونشهد نحر نظرية الدولة والاجماع الوطني والتحول الى التسلط الطائفي وتطويع القانون والتسويق لاحتكار السلطة، ونلاحظ طوأفة القوة داخل السلطة وخارجها، ونشهد تعاظم مظاهر عسكرة الاسلام والمجتمع معا، بالتزامن مع شيوع ظواهر سياسات الالهاء المجتمعي وافتعال الازمات، وكذلك المناورات الاعلامية السوداء لصرف الانظار عن التمدد الايراني في العراق بعد الانسحاب الامريكي، ويجري ذلك باستخدام الدعاية السوداء المبعثرة عبر زعانف منتشرة داخل وخارج العراق تعمل لصالح ايران لغرض خلق واقع افتراضي وهمي وفرض عدو طائفي مزمن كي يستقطب الشارع العراقي طائفيا ويعزز الانقسام المجتمعي وفق اجندات اقليمية لخلق مفاصل لينة يجري توظيفها لابقاء النفوذ الاقليمي شاخصا في العراق العربي ومسيطرا على ثرواته وامواله.
منظومة الاختراق الأيديولوجي
برزت ايران بشكل لافت في ساحة الاحداث العربية، وسرعان ما انتهزت الفوضى السياسية الدولية والصدمات الحربية لتشغل رقع نفوذ تفوق قدراتها، لتحقق بذلك تاثيراً ايديولوجياً مباشراً وباستخدام منظومة الاختراق الايديولوجي الاصلية والمكتسبة، وتتجسد على شكل تنظيمات سياسية ومسلحة ومنابر دينية من الطرفين وكذلك وسائل اتصال مختلفة بلغت 200 وسيلة اتصال، وكذلك رشت كتاباً مغمورين ومولت مراكز دراسات مشبوهة لشرعنه نفوذها اللاشرعي في العراق والمنطقة، وبذلك حققت اهدافاً سياسية واقتصادية وعسكرية تفوق قدراتها ومواردها، وبنفس الوقت تخطت محظورات استراتيجية دولية ذات طابع سياسي وعسكري وامني، وكان ابرزها خرق التوازن العربي الاقليمي الذي اسس وفق مبدا توازن التوافق والاضداد ويفترض ان تتجه المنطقة الى توازن بالاكراه وليس التوازن الهش المرن كما نشهده اليوم، وكان غزو العراق هو السبب الرئيسي في ملء الفراغ الاقليمي.
قوة تبحث عن هدف
شكلت ايران على مدى عقود منصة متقدمة في الصراع الدولي، وقد غيرت بوصلتها التحالفية الى جهة الشرق صوب روسيا والصين المعسكر الشرقي ومغازلة الولايات المتحدة، وتتميز بتكامل قدرتها الحربية، وخصوصا القدرة العسكرية والشبحية، وتمتلك اليوم اقوى جيش بالمنطقة من حيث العدة والعدد والاحتراف ومؤدلج طائفيا، وتحتكم على موارد مكتسبة ذات طابع ايديولوجي طائفي، وتستغل حاجة روسيا والصين لموقعها ودورها في تحقيق التاثير الايديولوجي والمسلح لتغير الخارطة السياسية في المنطقة والسعي لدور فوق الاقليمي.
يلاحظ التطور المتعاظم في قدرة ايران العسكرية وتطوير الاسلحة الاستراتيجية وخصوصا القدرة الصاروخية، بالتزامن مع الاحتكام على الذراع الطويلة الضاربة الحرس الايراني واتساع مؤسساته السياسية والاقتصادية والعسكرية والمخابراتية وترهل مفاصل القدرة مما يجعلها قوة باحثة عن عدو دائم، واضحت تسير النزاعات والحروب الخاصة عن بعد، ويمكن وصفه بالتوغل الذكي عبر شبكة الاحزاب والمليشيات الطائفية المسلحة في سدة السلطة كما في لبنان والعراق، واخرى مهيئة كخلايا نائمة تنشط عند الضرورة الحربية وافتعال الازمات السياسية، وتنتشر غالبية تلك الخلايا في خط الصدع العربي الايراني، وكذلك في اوربا وامريكا وافريقيا لتؤمن الاستقاء المعلوماتي والاختراق المجتمعي والدعم الاعلامي واللوجستي للخلايا العاملة والنائمة معا، وبذلك اصبحت ايران قوة منفلتة تبحث عن رقع حرب في العالم العربي وتؤسس للعقد الطائفي الجديد.
المحظورات الاستراتيجية
اغفل المجتمع الدولي ومجلس الامن المحظورات الاستراتيجية والتداعيات الخطيرة الناتجة عن غزو العراق، وقد نسف معادلة التوازن العربي الاقليمي واسهم في غياب الاستقرار في المنطقة، وادى الى انهيار البعد الرباعي المتوازن واستبداله بالبعد الثلاثي المبعثر الفوضوي، وقد ادخل المنطقة في حزمة الاضطرابات السياسية والامنية، وبنفس الوقت يلاحظ تنافس القوى الاقليمية الثلاث لملء الفراغ بالعراق، وتجسد على شكل نفوذ سياسي ومخابراتي مليشياوي، ولعل التمدد الايراني هو الاكثر وقد اذكى صراعات ونزاعات اهلية ذات طابع طائفي عبر شبكة المليشيات والتنظيمات المسلحة، واضحت تلك التنظيمات الارهابية تنتشر بشكل هلامي في العالم العربي كسلطة مسلحة سائبة واداة وخذٍ لخلق بيئة الاضطراب السياسي والامني لصالح ايران، الساعية لتفكيك النظم السياسية العربية وترحيلها من النظرية الدولاتية الى الدويلات الطائفية التابعة لها، وعند متابعة سلوكياتها سنلاحظ انها تعمل على قضم الحدود السياسية العربية، وتفكك الديموغرافية العربية الموحدة الى هويات افقية طائفية متحاربة تنخر مفاهيم المواطنة، ولعل ابرز المحظورات الاستراتيجية الحالية هي
1 ــ التمدد السياسي واتساع خارطة النفوذ والتاثير الاقليمي.
2 ــ تخطي خطوط الامن والسلم والتوازن ضمن النسق العربي الاقليمي.
3 ــ اتساع نطاق الحروب الايديولوجية عبر منافذها الاتصالية الواسعة لتهديم المنظومات القيمية الاسلامية والعربية والوطنية واستبدالها باساطير وهمية تذكي الاحتراب الطائفي وتفكك التلاحم الشعبي.
4 ــ الاسهام المباشر في حرب الازاحة للمحاور الجيوسياسية العربية.
5 ــ التمدد المليشياوي خارج الحدود المتاخمة لها لفرض الاحاطة في حروب المشاطئة وخلق مناخ الاضطراب السياسي والامني وتوظيفه لعرض خدماتها على الدول المتمركزة للحصول على دور فوق الاقليمي.
6 ــ خطورة تطور الدرع الصاروخية الايرانية دون ردع عربي متبادل.
تؤكد نظريات توازن القوى الدولية ان كل دولة يجب ان لا تكتفي فقط بالتصرف لاحباط تفوق الآخرين الذي يتم التهديد به، بل عليها ايضا ان تقدر مسؤوليتها في عدم اخلالها هي بالتوازن، وينطوي ردع الآخرين حتما على علاقة تضاد بينما يفترض ضبط النفس المتبادل بوجود علاقات توافق، ويشدد على ديناميكية التضاد على ان ابسط اشكال توازن القوى المقصود هو توازن بين قوتين تتبع فيه احدى القوتين سياسة لمنع القوى الاخرى من احراز التفوق العسكري وهذا ما لم يجسد في التوازن والردع بين العرب وايران، وتتفوق ايران بقدراتها الحربية التي تكاملت مكننة الحرب ــ النووي ــ المعلومات ــ الفضاء ناهيك عن احتكامها على وسائل الاضطراب السياسي والامني عبر توظيف القوة اللامتماثلة المليشيات الطائفية ، وبذلك لا رادع لايران وهي تتخطى المحظورات الاستراتيجية وتملئ الفراغ هنا وهناك، وتعمل بقوة على تغيير ديموغرافية المنطقة واندثار المحاور الجيوسياسية العربية، لتنفرد بالمنطقة وتهيمن على مصادر الطاقة، وبذلك تدخل المنطقة في آتون حرب الهويات الفرعية والعقد الطائفي الجديد الساعي لتفكيك الدول العربية والمجتمعات، خصوصا بعد نجاح السيناريوهات الدامية في لبنان والعراق والسعي لنقلها الى دول عربية اخرى.
مدير مركز صقر للدراسات الاستراتيجية
مفكر عربي عراقي
/4/2012 Issue 4172 – Date 12 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4172 التاريخ 12»4»2012
AZP07