
جواد الحطّاب وقصيدته لرثاء الأم
الأرض اليباب بنسختها العراقية ..
…………………………..
أ.د حمد محمود الدُّوخي
أستاذ الدراسات النقدية الحديثة

.
إنها تجربةٌ حقيقية بالمعنى الذي يعي أن تكون التجربة حقيقيةً، رغم أنني أعي أن التداول قد أتعب مثل هكذا تشخيص للتجارب الأدبية؛ ولكن ذلك مما لابدّ منه، فهي حقيقية لأنها تعي باستمرار ما تملكه من ماضٍ وما هي عليه من حاضر ومما تعانيه من قلق المستقبل .. إن هذا العُصاب المؤلم من شأنه أن يظل مُحرِّكاً جمالياً في التناول والتشخيص لما عليه وضعُ التأمل المستمر لدى شاعرٍ كبيرٍ مثل جواد الحطاب وهو بحال الامتثال الدائم لشعور الفقد المتكرر يومياً وبصور مرعبة.
هي مرة واحدة
إن تجربة الحطاب مُتابَعةٌ وبشكلٍ متواترٍ، من قبل الحواس السبعة، لمنسوب القيمة الجمالي في البنية المركزية لكتابته؛ وبمعنىً شعريٍّ آخر أنه يعي أن القصيدة كالموت وكالولادة تُكتبُ لمرَّة واحدة؛ وهذه هي حاسته السابعة التي تحمِّله من الأمر ما لا يُعاف وهو التشغيل الكادح والمُجهِد لماكنات الكتابة معاينةً وإعادةً وتفحُّصاً وتوثيقاً للوصول للكتابة بدرجتها الصفر كما يقول (رولان بارت)، لذا تعمَّد أن يُقدِّم موجزاً له من خلال قصيدته _ الأرض اليباب بنسختها العراقية _ والتي أعرضها هنا بعنوانها الكُلي وهو (جواد الحطاب وبدرية نعمة: قبرها أم ربيئة وادي السلام) وقد قدَّم موجزه من خلالها لأنه يعي _ كما قلنا _ أن تكون التجربةُ حقيقيةً لذا وجدنا أرضه/ قصيدته ملغومةً بالقصد، إذ لا يمكن للقارئ العالِم من رفع حرفٍ إلا وانفجر عليه كمٌّ دلاليٌّ بشظايا بنفسجية تغريه بلعبة الاستمرار برفع الحروف قرائياً إلى منازلها الدلالية، والتمتُّعِ البهيجِ بدغدغة هذه الشظايا الرحيمة.
كلُّ ذلك متوافرٌ للحطاب بقصيدته هذه لأنه موقنٌ بأنها تحتلّ اسمها البارز والمُشَذَّر داخل دائرةِ شجرةِ النسب الشعري الكوني:_ الملاحم، المعلقات، البُردة، الواحدة، وصولاً إلى الأرض اليباب، أنشودة المطر، كيف كتب الأخضر بن يوسف قصيدته الجديدة، مديح الظل العالي، وجواد وبدريَّته ..
.
إن هذه القصيدة هي تجربة الحطاب فنِّيَّاً وثيميَّاً وموقفاً، فهي قصيدة تتناول الإنسان بممارسته لوجوده العسير بين الإرغام والتعامل مع الإرغام من خلال كُنهها العظيم، أي كُنه هذه القصيدة، الذي يتوضَّع في دالَّة الفقد لقيمة سماوية تشارك الله في رضاه ورضوانه .. يبدو أنني تعبت من الدفوف فأنا بحضرة قصيدة أوسع من كل التحليق والدوران؛ لذا سأستعين بتَحميد دراويشها المؤمنين، فهي هكذا، وبكل أناقتها، عندهم
شعرية تمتحن المتلقي:_
- (الحطاب يكتب في هذا النص نصاً موازياً لمتن الموت .. هو باختصار “مسودة الحياة” التي ختم بها ليتوقف، بينما تتمدد حياة النص كأعشاب وادي السلام ونباتاته غير المرئية) الناقد المُعلِّم الكبير حاتم الصكَر.
- (هذه هي قصيدة النثر التي نتطلع إلى قراءتها) المُربِّي الـ _ جداً _ صادق الكبير بروفيسور عبد الرضا علي.
- (هنا يُعيد الموت صياغة شعورنا بالطبيعة) المكانيُّ المميَّز الناقد ياسين النُّصيِّر.
- (قبرها أم ربيئة وادي السلام نصٌّ يمكن أن تنطبق عليه كل السمات الحداثوية) البروفيسورة أريج كنعان حمودي.
- (إن الحطاب يتقصَّد بهذا النص رفع نسبة القصدية بشعرية تمتحن القارئ المُدركَ، ذلك لأنه _ الحطاب _ يضع هذا القارئ أمام مسؤوليةٍ عليا تكمن في الحفاظ على التدفق الدلالي المنساب من كل جهات القول في نصِّه) أنا حمد الدوخي.
- (رحلةٌ في أسفار موت الإنسان ومدوَّنات الخلود على وفق أنساق الإرث الحضاري لوادي الرافدين) الكاتب عباس باني المالكي.
- (في قبرها .. أم ربيئة وادي السلام تطل علينا تجربة جواد الحطاب بخصوصية متفردة وكتابة شعرية لها مناخها الخاص) الناقد زهير الجبوري.
- (في هذه القصيدة يتخلى الصوت النادب عن مهمته ووظيفته ليحضر صوت الراحل وهو يسمو بصفاته الجليلة وأفعاله التي تتعالى على أفعال البشر بدءاً من تاريخ وجوده) الناقد جميل الشبيبي.
- (هذا نص تراجيدي صاغ فيه الشاعر جواد الحطاب ما عرفته الحضارات الشرقية من مراثٍ مازالت حاضرة ومتداولة) الناقد الكبير ناجح المعموري.
- (هذا التزاوج بين الثقافة والنص، أي بين المحيط والمبدع والنص الإبداعي خلق المعالجة التي تجعل المتلقي والنص ومبدعه في إشكالية المشاركة والتأثر والتأثير) الناقد العراقي وجدان عبد العزيز.
- (ما فعله الحطاب هو أنه أضاف إليه _ كشاعرٍ _ وإلينا _ كقرَّاء _ شاعراً آخر داخل النص، هو غيره وغير القاريء، شاعراً حقيقياً غير متخيل، ومتخيلاً غير حقيقي، هو أمه بدرية نعمة، موضوع قصيدته) الناقد د إيهاب حمادة.
- (ثمة ميل قصدي يتماهى بمهارة روح من الوثوق والتحدي لدى (جواد الحطاب) وهو يقارب ما بين فكرة ترك القصيدة، على سجيَّتها، أو كما هي _ على حد تعبيره _ ومابين إلقاء المهمة على عاتق الناقد أو المتابع من أجل أن يأخذ دوره) الشاعر الكاتب حسن عبد الحميد.
- (في البناء الشعري يعي الحطاب أن لابد من تحطيم الواقع وتسمياته وقوانينه وافتراضاته؛ بل يعي ذلك كلما ازداد هذا التحطيم إيغالاً ازداد الإيغال في تلمس الأبعاد الماورائية كنتيجة لعد قبول، أو على الأقل عدم الرِّضا من تعقيدات الموت ومرارة نكهته التي أحالها الحطاب إلى معرفات جمالية) الأديب قيس مجيد المولى.
- (إن في مثل هذا قدرة نصية على اشتغال الرؤية الخاصة الخالصة، التي تفتت المدركات العرفية، لتبني بناءً فنياً، قادراً على إقامة الفن الذي يغادر المألوف) الناقد البروفيسور عبد الكريم راضي جعفر.
- (يمكننا التأكيد أن جواد الحطاب تمكَّن، في هذا العمل الشعري المميز، من إيداع تراتيل قرآنية، وحداء عربي، وإنشاد سومري، في سبيكة حزائنية نادرة) الشاعر المميَّز فضل خلف جبر.
تنوع خلاق
وهنا نجدنا أمام نصٍّ عالمي يتمتع بميزة التنوع الخلاق والوضوح العميق، لذا لاحظنا تنوعاً خلاقاً في تناوله، إذ تناولته القراءات بمختلف المستويات؛ وأنا هنا لا أقدِّم هذه القراءات الجادة بقدر ما أجدني أقدِّم النص؛ فهذه قراءات تقدِّم نفسها لأنها الأدرى بشعابها المسكونة بالتأويل وآبار الدلالة، لأنها لرعيل من الكتاب المَهَرَة الذين تشهد لهم الكلمة على منصة الإبداع الملتزم.