شهق الناس
جنون الإعلام والطب – ياس خضير البياتي
لم أشُكَّ يوماً بحقيقة أن العالم مجنون، بأحداثه وتقليعاته وتناقضاته التي تعايش معها البشر، إجباراً أو اقتناعاً، لكن جنون عام 2020 هو جنون آخر غيَّر خريطة الحياة النفسية والبيولوجية، وأصبحت جينات البشر وكأنها مرتبطة بجينات الخفافيش التي تتغير خلاياها بعطسة عابرة، وملامسة رومانسية قاتلة، ورذاذ طائر لا نعرف مصدره ونسبه وقبيلته وطائفته، كأن البشر مجبر اليوم على تلقي الصدمات المتتالية، وهو منكسر في بيته، مرعوب في الشارع وأماكن التسوق. فلم يكف البشرَ هذا الجنونُ المتوارث بفيروسات السياسة والمال، حتى استقبل اليوم فيروساً قاتلاً غريباً بأطواره ومزاجه، ليزيدهم قلقاً وكآبة، ويجعل أيامهم جحيماً لا يُطاق، وأحلامهم أكثر سوداوية، ويغلق أمامهم أي أمل في الحياة والمستقبل.
كنا نقول إن الإعلام خرب بيوتنا، وأحرق ما تبقى من أمل، ووضعنا في دوّامة الأخبار المتناقضة، وجعلنا نستيقظ كل يوم على خبر أسود، كأنه جعل العالم مقبرة تدفن فيها ضحايا الفيروس، ومكانا لقراءة الفاتحة على الأرواح، وكانوا يقولون: (حجي جرائد)، وقلنا: (حقكم)! لكننا اكتشفنا فجأة بأن الطب والعلماء والمنظمات الصحية، هم الآخرون ساهموا بزيادة قلق الناس، مرةً: ارفعوا الكمامة، ومرة: ضعوها على الفم والأنف، مرة: اكتشفوا دواء سحريّاً فرفعوا معنويات الناس، وفجأة قالوا: توقفوا عن الاستخدام، فقتلوا في التجريب مئات الضحايا! وعاد الناس إلى المربع الأول، لتختفي فرحتهم، وتبدأ سيناريوهات أخرى؛ يوم لك ويوم عليك، ونبدأ بالصلاة من جديد!
كان الاعتقاد بأن العلم له الكلمة الأولى، والقرار الأول، لا يحتمل التناقضات مثل أخبار الإعلام وسطوته، ولا يحتمل التفسيرات والنتائج المغلوطة، خاصةً إذا كانت هناك مرجعية دولية للصحة نأتمر بقراراتها، ونحترم توصياتها، وهناك علماء يفكرون بعقل العلم لا بعقل الخرافة، لكننا رأينا العجب في تعامل العلم مع تراجيديا كورونا، حيث التناقضات في التعليمات والبرتوكولات الصحية، وفي اكتشاف أنواع الدواء الذي لم ينهِ المشكلة بل فاقمها، وجعل أرقام الضحايا في ارتفاع، وازداد مسلسل التقاذفات والاتهامات.
ودخلت السياسة على الخط بين الصين وأمريكا والغرب، وتحول الفيروس إلى دكان تجاري، فدخلت دولٌ لتتبارى على رفع سمعتها التي شوهها الفيروس، وحط من قيمتها كدول متقدمة، وبين دول غارقة بالفساد والتخلف تتباهى يوميّاً بصنع أدوية ومواطنوها يموتون بالآلاف يوميّاً، وهي تعاني من عقدة نقص وفشل سياسي وحرمان مالي، فحولت المرض إلى “بازار” على حساب جثث مواطنيها.
يبدو إن صدمة التناقضات تستعصى على التصور ولا تستعصي ابدأ على الأفهام، حيث يستدرج الناس إلى معرفة المزيد من الأخبار بالتدريج، حتى يصلوا قرب النهاية إلى الإنصات لبيانات متناقضة المحتوى لمنظمة الصحة العالمية، وصلت إلى تسعة بيانات متناقضة، مع الإشارة إلى تأخرها في الإعلان عن فيروس (كورونا) منذ أول ظهور له في الصين في 17 فبراير 2019? ففي البداية قالت إن الفيروس (لا يمثل وباء عالميّاً) ثم عادت لتؤكد أنه بات (وباءً عالميّاً)، ثم أصبح (جائحة)! وأن (دواء الملاريا غير مفيد ويجب إيقافه)، وبعدها (يُسمح باستئناف العلاج به)! وأن الفيروس لا ينتقل للأشخاص (عبر ملامسة الأسطح)، ثم عادت وأكدت أن العدوى قد تنقل من خلال (ملامسة الأسطح ثم ملامسة العين أو الأنف أو الفم)! وأن الكمامات لا تحمي، ولكنها تخلق (إحساساً زائفاً بالأمان)، ثم عادت لتضع من توصياتها ارتداء الكمامات!! وهكذا أصبح المشهد وكأنه اختبار للعبة الكلمات المتقاطعة، وفك لألغاز رياضية وفوازير رمضانية!
ومثلما تظهر النقطة السوداء بأوضح ما يكون على خلفية من بياض فاقع، يبدو أن سلوكيات المنظمة أرهقت الدول والعباد، وأثارت الرعب دون أن نحتاج إلى خدع خاصة أو مؤثرات بصرية ضخمة في تفاصيلَ اعتادت عليها أعينُنا تماماً في الحياة اليومية، لأن أسئلة التباين عندما نكتشف رموزها ودلالاتها، نصل إلى قرار بأن العلم تحول إلى اختلافات غير منطقية، وحروب سياسية، وصراعات تجارية، أغلقت منافذ العيش والأمل.
هناك في الجانب الآخر مئاتُ الأخبار التي تنشر يومياً حول فيروس كورونا، وعشرات الدراسات التي تثبت معلومة وتنفي أخرى، وتناقضات مستمرة بين اليوم والأمس عن كورونا لتطل علينا دراسة تثبت جدوى عقار معين، وتبث الأمل في النفوس، وبعد تجارب سريرية تُدفن تلك الآمال.
لكن الأصعب اليوم أننا نجد التناقضات في الدراسات والأبحاث الطبية وكأنها صارت مجرد شائعات، أو أبحاث في العلوم الإنسانية والاجتماعية! ومع ذلك هناك من يقول إن ما يحدث ليس تناقضاً في المعلومات، وإنما هو تجارب نتعلم منها، وأن بروتوكول العلاج المتبع لا يخضع لتناقض المعلومات، وإنما يخضع لتحديثات الدراسات والتجارب العملية! لكنها أرواح البشر يا ناس!!
نعم، نعرف علميّاً، أنه كلما زاد حجم الدراسات ومدتها زادت المعلومات والحقائق حول الفيروس، بحيث لا تعطي الإنسان الفرصة للتفكير في تلك الحقائق، وبالتالي تعتبر مرحلة طبيعية، بسبب توفر المعلومات الهائلة التي لا تمنح فرصة للعقل الإنساني لاستيعابها، ولا تستطيع قدرات الفرد التمكن منها.
مما يزيد القلق أيضاً، آراءُ الأطباء الذين يظهرون في الفضائيات، فالكل يناقض الكل، إلا ما ندر، فهناك من يقول: هي جرثومة، وآخر يصر على أنها فيروس، ليس من صنع الإنسان، وهناك من ينصحنا بتناول فيتنامين سي ودي يوميّاً، وآخر يستهزئ بالوصفة، وهناك من يحدد متراً للتباعد الاجتماعي، وآخر يحدد مترين وأكثر، هناك من يمنع القُبلة بين الزوجين، وآخر يشجع عليها! وهناك من التناقضات ما يضحك، وما يبكي، حتى وصل الأمر أن أخانا المنجم أبا علي الشيباني (المرجع الطبي والديني) كما يلقب نفسه! بدأ يستهزئ بما يقوله الأطباء، ويتحدى بروتوكولات الصحة العالمية، ويخرج بنظريات للفناء البشري بفعل الكورونا، ويبشر باختراع مضاد حيوي يرفع المناعة وقادر على (شلع وقلع) الفيروس طبّيّاً، على طريقة شعار السياسة الذي تم رفعه منذ سنوات، فلم (تشلع) أحزاب الفساد، ولم (تقلع) الوجوه الكالحة! المشهدُ اليوم فيه جوهران متعارضان، لا جسور بينهما ولا حوار: فمن جهة نجد الإعلام الذي ينتقي الأخبار بلا علم ولا تخصص، وينشرها كحقائق علمية دون تفحص! فلا هو ساعد الناس على المعرفة، ولا منع عنهم الخوف، ومن جهة نجد الطب الذي ما زال حائرا في اكتشاف الفيروس، وينشر الوصفات المتناقضة، وكأنها حقائق ثابتة، كأنه الغباء الذي يعرفه إينشتاين على أنه (تكرار التجربة ذاتها ونتائج مختلفة في كل مرة) !!
كلاهما يصنعان اليوم عالماً محكوماً بالفوضى والقلق وتدمير العقول! ما عاد اليوم فكرنا مشغولاً إلا برعب الكورونا وأخبارها الإعلامية والطبية في الضد والترادف، وفي جولاتها المكوكية، ومناظر جثث الموتى، ورعب كمامات الأوكسجين حتى بتنا اليوم نهرب من ركوب سيارة كورونا، ونمتنع عن أكل المعكرونة!