جديلة موشيه

جديلة موشيه
محمد الأحمد
قال إبنُ عميّ بقيتْ تصلنا أخباركمُ أولٍّ بأولْ..

اكتشفتْ جريمة قتل العم موشيه عقب انتهاء عرض فليم الكابوي الامريكي من أجل حفنة من الدولارات1[1]”، بعد الساعة الحادية عشرة ليلاً، مع نهاية يوم حافل بالمشقة والزحام. كان فيلماً ناجحاً وقد حقق امتلاء القاعة، وعدّ من اكثر الافلام جمهوراً، لكن اليوم السعيد لم ينته كما بدأ.
بقيّت ماكينة عرض الافلام تعمل لمدة اضافية بعد كلمة النهاية التي بقيّت مرتجفة على الشاشة، فلم تشعل الاضواء الملونة اشعارا بانتهاء العرض، ولم يُطرق الجرس الكهربائي ايذاناً بالخروج من الصالة كالعادة. فبقيت أكثر الحضور في مقاعدها، تنتظر وتترقب اضافة اخرى ستلحق بالفلم. بقيت الحالة مُعلّقة، ومحيّرة، واحدثت همهمة عالية، وتذمّراً شديداً مما تطلب من ابي ان يظهر بباب الصالة، تجاوزاً الحرج، ومعتذراً
خللاً فنيّاً أصاب مصابيح الإضاءة .
حتى اقتنعوا بالخروج. وصاروا يغادرون القاعة. ثم اشار الى يسن دمعة ان يذهب ليستطلع سبب عدم ايقاف ماكينة العرض ويضيء مصابيح الصالة، فاختار الدرج الشمال القريب من باب الادارة. في الوقت الذي تزامن مع نزول اغلب الجمهور من الدرجين المتقابلين، بينما هو يصعد واجه صعوبة صعود الدرج المليء بالنازلين الى الطابق الارضي، من الطابق الأول. تمكّن بعدها الوصول الى الطابق الاول، ومنه صعد الى الطابق الثاني.. حيث غرفة التشغيل. كانت مصابيح الممرّ اليها مطفأة، وكذلك مصابيحها الداخلية، ايضاً. طرق الباب وحاول فتحها فلم يفلح، وجده مقفولاً، حاول دفعها، ولم تكن مقفلة من الداخل، فأكرّة الباب تدور في مكانها، ولا تتحرك الباب. تراجع خطوتين ثم دفعها بكتفه ولم تستجب، فحدس بان قطعة لوح من الخشب الصلب، حشرت خلفها، كالعادة عندما يريد النوم. الرجل لا تأخذه سنّة النوم طويلاً، ولا عميقاً. فأي طرق خفيف على الباب، سرعان ما يردّ عليه، ولم يكن هناك ايّ ردّ. حاول اكثر من مرة، ولم يرد سوى صرير الماكينة الهادر من الداخل. رجع بعدها الى أبي في الادارة يخبره بعدم الردّ، ولم يرقه ما سمعه منه، وكاد ان يشتمه
قالها ابو المثل تعِّبْ قَدَمك ولا تعِّبْ لِسانَك .
انتظر دقائق حتى خرج آخر زبون، وعاد يطلب من يسن دمعة ان يلحقه، وموصياً برهم ابو العنبه برجاء ان لا ينسى تنظيف الواجهة الزجاجية التي وسخها تراكم الغبار وبصمات الايدي.
اليوم قبل ان تذهب الى البيت .
ثم صعدا الدرج الى الطابق الاول ومنه الى الطابق الثاني.. حتى وصلا معاً الى غرفة التشغيل، ولم يتبدّل الحال حيث ماكينة التشغيل مازالت تعمل، وقد تغيّر صوتها الى صرير سريع، اذ وصل الشريط الى نهايته، وافلت. كرر الطرق ثانية وثالثة والصياح باسمه مرات عديدة، دون جدوى. دفع الباب فتأكد له انه لا يمكن فتحها حيث اثارت الخشبة المحصورة بين الباب من الداخل وبين زاوية الجدار، مخاوفاً وشكوكاً شتى. تحوّل الامر عندها الى محنة حقيقية، والرجل لم يكن في صلاته، كما توقع أبي . حيث يحرص على ان يتمّها بسرّية بالغة، وكلما طرق الباب، يتجنب مواصلتها، فيقطعها ليعيدها في وقت اخر. تعوّد ان لا يجمعها مع العمل. فجدد الطرق بقوة اكبر، وصاح بصوت اعلى. لكنّ المكروه السقيم قد وقع. وأصبح ابي على يقينّ تامّ بأن هذا اليوم الحافل هو الاخير في حياة العم موشي ، وخاف اكثر ان تكون الخشبة لإعاقة الدخول، متمنياً ان يكون دليلاً على إن الحادث مُقدَرْ لا مُدَبّرْ.
فسأل أبي يسن دمعة ان كان يقدر على الدخول للغرفة من الرازونة ، فاعتذر بعفوية قائلا له جبوري يستطيع ذلك بسهولة. وسبقَ ان شاهده اكثر من مرة يدخل، ويخرج لسرقة السجائر من صندوق موشي .
أجابه ماذا تنتظر هات جبوري .. لنرى ماذا حدث للرجل في الداخل .
اضطر يسن دمعة ان يبحث عنه قبل ان ينزل الى الطابق الثاني، في اللوجات واحداً تلو الاخر. تكونت من مجموعتين كل مجموعة فيها خمس خانات معزولة عن بعضها، بعازل من الطابوق المغلف بالخشب، كل خانة تسمى لوج ، ولا تشرف الواحدة على الاخرى، فلم يجده. بعدها نزل الى الطابق الأول، فوجد الجميع يريد معرفة ماذا حدث، ويحدث. فسأل جاسم الطويل عمي شقيق والدي الاكبر مسؤول الدخول صالة الدرجة الأولى، ومراقب الصالة زكي عن مساعدهما جبوري القرم . ولم يجد عندهما جواب. كذلك الحمامات فارغة. اضطر بعدها ايضا الى النزول الى الطابق الارضي، سائلاً عنه علي الدّب عمي شقيق والدي قبل الاصغر ، وهو مسؤول الدخول الى صالة الدرجة الثانية.. كذلك كريم ضوه ، و جمال قطف مسؤول الصالة ومساعده علي عطابة .. كذلك ناجي الاعرج الحارس، و برهم عنبه البائع في المتجر الداخلي الصغير، و سلام البارد بائع المشروبات الغازية..
لم يجد لديهم جواباً.
ابقى كاظم الأعرج باب المشبك الحديدي، الباب الرئيس، المطلّة على الشارع العام مفتوحاً على فتحة تتسع لشخص واحد. كذلك غلق البابين الجانبين المطلين على الشارع الفرعي. الأول كان يُفتح عند انتهاء اي عرض، ليخرج منه الناس، مباشرة. ولا يفتح الثاني إلا عندما تكون القاعة الارضية مزدحمة.
كثرت الهمهة، وبات كلّ منهم متوتراً، وقلقاً. اولهم ابي المسؤول المباشر عن كل شيء، ومعه مساعده بوجي بائع بطاقات الدخول. بقوا متوزعين ما بين الممر المؤدي الى غرفة التشغيل، وعلى الدرج بما فيهم يسن دمعة ، الذي اعلن عن اختفاء جبوري..

قال إبنُ عميّ بقيتْ تصلنا أخباركمُ أولٍّ بأولْ..

سَرَتْ همَهَمَّة، وحلّ قلق كثيف. كغيمة خانقة.. صاروا يريدون البدء بتنظيف الصالتين، ثم يعودوا الى بيوتهم. اقترح احدهم ان يدخل ولد صغير من الفتحة، ويرفع الخشبة التي تُعيق فتح الباب. وتململَ آخر بأن اي منّا لن يرضّى أن يدخل أبنه في غرفة عبر فتحة العرض. خوفاً عليه من خرافات مَسَخَتْ نفسها وأخذت طابع حكايات واقعية، حكايات سهلة التصديق، لانهم صاروا يروها في كل يوم جنياً طويل الرقبة كان يختبيء في البئر التي يستخرجون منها الماء، كانه يريد ان يستفرد بأحدهم. يراقبهم دون ملل وكل ليلة ينظفون فيها الصالة، الى درجة يتجاهلون مكانه ولا ينظروا صوب البئر، فلا يجلبون الماء منها سهولة ذلك. ولكنهم باتوا يتحججون بان الماء الجاري في النهر أطهر، وصار الجنيَّ بينهم حقيقة معتادة، يشاركهم المكان، فلا يتقدم اي منهم، صوبه، ولا احد يأتمن على نفسه بان يبقى وحيداً.. فايّ جنّي مهما بلغت شراسته لا يجرؤ على الاقتراب من مجموعة اشخاص ودائما يبحث عن ضحية منفردة. تصاعدت الهمهمة، وبقيّت الفكرة الاجدّى من قلع الباب الحديدي؛ انهمُ بحاجة الى ولدٍ شجاع جسمه صغير بعض الشيء ليدخلوه الى الغرفة، ويزيح الخشبة.. اضاف احدهم
وان لا يخاف من السعلوه .
فلم يكن للغرفة سوى نافذة واحدة بعيدة عن الارض، وتشرف على الشارع العام، ومن المستحيل الوصول اليها إلا بسلّم المطافي الطويل. تواصل الجوّ متوتراً حتى وصل فؤاد الصغير، دون ان يرسل وراءهُ أحد، جاء مُستطلعاً الخبر قبل ان يصل ابيه عمي الثاني. سألوه إن كان يستطع الدخول، كان في السابعة من عمره، وجسده ملائماً للدخول، فوافق بدون ان ينتظر موافقة ابيه. سأله أبي
هل تخاف الظلمة ..
فأجاب ببراءة
لا يُخيف البشر إلا البشر، وأنا لا اخاف البشر .
كنت اتمنى ان اكون صانعاً للأحداث.. اتمنى ان اكونَ راويّاً خالقاً يخلق عالماً يتنفس، ويتفاعل تفاعلاً كيميائياً مع الاحداث، تفاعلاً يحدث تغيّراً فسيلوجياً، لا تفاعلاً فيزيائي يزول بزوال المؤثر. وليس حاكياً يُعيد حكاية صقل حكاية، حُكيَتْ له، ميتة، أكون بطلاً، روايّاً، مشاركاً، متفاعلاً بما يروي كمن شاهدَ بأم عينه. أريدُ مشاركة حقيقية بأن اصنّعها اجبلها بالحبر، والورق. أشارك فيها كأيّ بطلٍ حقيقي يصنع قدره بيديه، ليس بالخيال، لا ان يُكمّل على الحوادث التي سمعها من هنا او هناك ..
امتعضَّ البعض خوفاً عليه من الدخول، وقد شجعّه البعض الاخر على الدخول.. حتى يعود كل منهم الى بيته. كلهم تذمّروا. فصار لا سبيل إلا ان يدخل فؤاد ليفتح الباب المغلقة. وقبل ان يدخلوه جاؤا لـ ابي بعمود خشب ودفع به الماكينة الى الوراء لتنزلق على سكتها، ورجعت الى الوراء حتى استقرت عند الحدّ المصمم لها، وبذلك فسحت مكاناً تحسبّاً لأي ضيق، ويدخل منه الولد.. من اللوج2[2]” القريب من الفتحة القريبة، وبجانبها ماكينة العرض التي كانت تعرض القسم الاول من الفليم، حيث تتناوب مع الاخرى ما بين بكرة ومثيلتها. صفَّرَ يسن دمعة .. مُشجّعاً، وصفّقَ كريم مُهنئاً وصمَتَ بوجي مطرقاً.
ثم رفعه ابي وهو يوصيهِ ان يذهب مباشرة الى الباب، ويرفع الخشبة التي تُعيق فتحها، وتركهُ يحشر نفسه في الفتحة الضيّقة، بمهارةِ افعى تعرفَ طريقها الى جُحرِها. انزلق بيّسرٍ فصار في الداخل، وناولهُ المصباح الذي يعمل على البطارية، وتوجه الى الخشبة، ورفعها. كان ابي بصوتهِ الجهور يشجعَ فؤاد لأجل ان يُبعد عنه ايّ خوفٍّ ويقولُ له
ارفعْ الخشبةَ وافتحْ البابَ وسأعطيكَ فلوس يا بطلْ الأبطال ..
ارفع الخشبة ليدخل معك عمك جاسم .
ارفع الخشبة وحسب .
ارفع الخشبة ولاقي عمك جاسم .
وكان عمي جاسم ينتظره امام الباب متيقناً بأنها ستُفْتَح فؤاد سيفعلها ، وفعلها فؤاد . وصار التصفيق والصفير يرجع صداه في الصالة الفارغة. فدفعها برفقٍ وفتحت. ثم أخذ فؤاد بيديهِ الاثنين، وسلّمهُ الى من كان خلفه. تناول منهُ المصباح الذي يعمل على البطاريةِ. ودخل ليكتشف ما حدث للرجل، ولم يشاهد إلا بعد أن فتح الضوء الداخلي، للغرفة وشاهد ما جعلهُ يضع يدّه على فمه موشكاً على التقيُّئ، وصار منفعلاً يصيح بكلّ ما اوتي من قوة، كالمعتوه.. كلمات متواصلة غير مفهومة
مات.. ميت موشي.. الرجل ميّت .
عندها انحشرَ الجميع في داخل غرفة التشغيل مع ابي لمشاهدة اللحظة المروّعة، كان الرجل امامه قدح شاي بارد، وجالساً على كرسيه مائلاً الى ماكينة التشغيل، ملفوفاً حول رقبته شريط الفليم، ولسانه مُدلّى، وعينيه مبحلقة الى اعلى السقف
المسكين مخنوق بشريط الفليم .
هذه فعلة جنية شريرة .
لعنةٌ ستطاردنا جميعاً
ماكينة غدارة.. جذبته من جديلته .

كان يهوده يدرك جيداً بأنَّ العقل والمنطق دائما يوجهان التاريخ. ثمة ثقب للتاريخ ينزل منه عمود الضوء. ذلك الثقب هو ما يتضمنه التاريخ من حركية للعقل. في خفاياه بُعد، في أحشائه تمرّد، كتب ليكون ظاهراً، ولكنه تبطّن ليثبّتَ انه استطاع ان يخترق رقيب السلطان. هو ذاته الذي ابتلع الاماكن في شرقنا كما كان يؤكد هيرودتس ، فالرقيب اكثر وحشية من السلطان، رقيب مُبرمَجْ على محاربة الحقائق، او ازالتها. يُبدع اكثر كلما غاب سيده معتمداً عليه، فيظهر شراسته اكثر ليثبت لسيده السلطان بأنه صاحب الولاء الأكبر، وان تغير الزمان بسلطانه، يكون اول من يدعسه. ويبصق من عليه.
اتخيلُ يهوده المثقف العارف، يُطفأ سيجارته في منفضة، ويكمل حديثه الى أبي بابتسامته العريضه قائلا
صاحبنا هيرودتس قال ما يكفي فيما يخصّ أمن السلطان، وما يمسّ سمعتهُ البهيّة. هو دائما ينسى بان هذا الرقيب هو مجرد عين، وكلّ عين فيها زاوية عمياء. مساحة يستغلها العقل لتصبح مساحة حرّة. هنا أوهناك تتجمّع فيها المُحَرّضّات كبركة تتجمع فيها المياه، فتغرق كلّ ما كان تحتها.

كان في غاية الوداعة، والهدوء. فلم تبدر منه اي اساءة لأي أحد. وظفيته تشغيل ماكينة عرض الأفلام السينمية.. كان الرجل مستقراً في غرفة التشغيل، ولا ينزل منها إلا فيما ندر، ولم يكن على خلاف مع احد في يوم من الأيام. محدود الاختلاط والتجوال. لا يكثر الكلام، ابداً. كان يُجيب باقتضاب مع ابتسامه شفيفة، ثم يسكت إلا اذ سُأل مرة أخرى، ليجيب على قدر السؤال، بقيّ لا يرغب العيش في دربونة التوراة ، وحيداً.. بعد ان هاجرت زوجه مع اولادها الى اسرائيل الوجبة الاولى في منتصف الخمسينيات3[3]. رفض ان يصحبهم ومهما كلف الامر ، كان يشتهر بجملة تكاد تكررها يومياً على لسانه، بمناسبة او غير مناسبة
بيت الله عقب بيتي لا والله .
ولم يبدّ عليه الخوف او القلق مما كان يحدث في الجوار. بقيّ يعتاش على راتبه من العمل في السينما. كان له بيت ملك صرف، ويقع في دربونة التوراة التي تبعد دقائق عن بناية السينما.. بقي فارغاً بعد ان تعرّض الى النهبِّ، وخوفاً من أن يتحوّل الى وكرٍّ للآثمين، والمارقين. أسكنَ فيه كاظم الاعرج ، شرط ان يتزوج، وسرعان ما تزوج، فبقي يسكنه، ولم يأخذ منه ايّ اجرّ. كذلك له بستان مسجلة بأسمه ملك صرف محاذية لنهر ديالى .. لم تعد عليه بأيّ وارد مالي، ولم يطالب بحقّه خوفاً من العواقب. كما بعهدته بيوت اخرى لأخوته، وبعض أقربائه.. اشترط الزواج ايضاً على من رغب بالسكن فيها، دون اي اجرّ. هذا ما جعل له سمعة طيبّة.
هنا ولدتُ كما ولد اجدادي وهنا اموتُ كما مات اجدادي .
كان قد شارف على الستين من عمره. وبقي دقيق العمل، دائم البسمة، قوي الذراع، مفتول العضل، ومسالم.. كان الوحيد الذي يقدر على تشغيل مولدة الديزل، والتي كانت بغرفة مُلحقة بغرفة خاصة مبنية بجانب السينما من الخارج.. كان المولدة بعجلة أولية كبيرة لبدء تشغيل المحرك الكبير، تتطلب الى شخصين متقابلين لبرمِّ دولابها الكبير، وسرعان ما يجعلها تهدر.
وكان مغرّماً بأغاني فريد الأطرش فغالبا ما يُسمع داخلين الدور الأول اغنية الربيع الطويلة التي كان يقول عنها بأنها تلخّص له مجرى حياته التي شهدت تغيرات جمّة.

بقيت كلماته العفوية مثيرة للاعجاب، تدور على الالسن وتدور في ذهني..
لا يُخيف البشر إلا البشر، وأنا لا اخاف البشر .

وقع خبر موت العم موشيه اشبه بنزول صاعقة من السماء، وكادت ان تزلزل الارض تحت اقدام كلّ العاملين في السينما، اذ تبيّن فيما بعد انها جريمة قتل من الدرجة الاولى مع سبق الاصرار والترصد حسب المصطلح القانوني.. لم يعرف ابي الدافع الرئيس وراء قتل العم موشي .
احتجزت الشرطة تلك الليلة جميع العاملين، لإكمال التحقيق. خاف البعض ان تمسه الجريمة من قريب او بعيد، وكان احد اصدقاء عمي القدامي ضابطا في الشرطة، هو الذي انجزّ التحقيق المباشر، بعد ان تثبَّتَ غياب جبوري ، فصار موضع الشك الاول. وخاصة بعد ان اجمع اغلب العاملين معه، دخوله غرفة التشغيل من رازونة فتحة العرض. وبعد ساعة من انتشار خبر تلك الجريمة… عثروا عليه كان هارباً مشياً على الاقدام يروم الذهاب الى بغداد، ولم يصل حتى ربع الطريق في ساعتين ونصف الساعة، والذي لم تصادفه اية سيارة تقله من الطريق. فأخذوه الى المخفر، وفارق الجميع شبح ظل الجريمة المرعب.
يومها تفحص ابي الصندوق الذي يضع فيه العم موشي اغراضه، فوجده مبعثراً، وأغراضه كلها مدسوسة دون ترتيب في الصندوق، ولم يكن الصندوق مغلقاً، بصورة جيدة. وكان في الصندوق صندوقاً اخراً يحوي على قبعة كيبا 4[4]، التي تستخدم في الصلاة5[5]، وهي رمز للتديّن، كذلك فيه شال من الخام الابيض الناصع البياض، يوضع على الكتف أثناء الصلاة، يسمى طاليت ، وكذلك لفائف التفلن ، وهو صندوق صغير أسود به نصوص من التوراة تربط فوق الجبهة، ويلّف أطراف خيطها الجلدي، ويبرم عدّة برمات حول الساعد، ثم يوثق بالإصبع الأوسط لليد اليسرى، ومعه السيدور6[6]”، و بعض المزامير مكتوبة بالعبرية.

قال إبنُ عميّ بقيتْ تصلنا أخباركمُ أولٍّ بأولْ..

الحوادث تترى سواء كانت مكتوبة، مختلقة، او منقولة، او منحولة.. انها تتسارع، وتتصاعد، وتتصارع. اسأل نفسي ان كنت مائلا لجهة ما. خائنا لجهة على حساب جهة اخرى ومنتصرا على حساب ذاتي. كالتاريخ الذي لابد وان يكون مائلا لجهة ما. اعرف باني اكون مخطئاً كلما رغبت بان اكون احد المشاركين في سرد هذه الأحداث.
اريد ان اكون خالقا مبتكراً للشخصيات والأحداث، وأجلس على كرسي القراءة لاستمّتع بقراءة ما خطتّه أناملي و انتجه عقلي.

فعلا دخلت من الرازونة عازماً على ان اسرق المال الذي شاهدته ذات مرة، وأنا اسرق السكائر من صندوق العم موشي ، كان مبلغا كبيراً، ولم اكن ارغب في سرقة نقود ذات يوم. سكائر، وحسب، ولكن صاحبي اراد ان يَبعيني الى مراد عربيد بعد خسر كلّ ما يملك في القمار، ارادني ان ابقى ذليلا تحت ذلك الرجل الذي يصفونه بكبر آلته، وسوء خلقه. فقررت ان ادفع له الملبغ، واحرر نفسي من عبودية البيع والشراء، فليس ذنبي ان يكون جسدي ابيّضاً وابدو ناعماً كطفل لا يكبر ابداً. فانا منذ ان ولدتُ، لا اعرف إلا هذا او ذاك مالكي، ولم يكنْ لديَّ عائلة الجأ اليها. ولم يكن بوسعي ان اخلص نفسي من هذه الخانة الضيقة، المقيتة، المهينة، ففكرت بان اسرق المال من العم موشيه ، واترك هذه المدينة البائسة الى غير رجعة. ولا سبيل عندي الا ان ادخل اليه اثناء تشغيل الفلم، ولا يمكنني ان افتح الصندوق لانه يستخدم الصندوق كسرير للنوم. انتظرت موعد البكرة الاخيرة، في العاشرة والنصف، ودخلت الى الغرفة بسهولة. كان هو منهمكا في عمله، يُرجع البكرات الى عِلِبها. فتحت الصندوق، واخذت منه النقود، وشاهدت الصندوق الصغير الاخر الصغير اذ ظنّنته يحوي على مال ايضاً. ولما اردتُ العودة محمّلاً، هجمَ عليّ بغضب وهو يرعد
تأخذ النقود ما همّني إلا ان تأخذ تلفني.. فلا وألف لا
فرميت الصندوق الصغير نحوه فأفلتُّ من يديه وصرت خلفه، فامسكهُ مخافةً ان لا يلامس الأرض، فتعثر بشريط الفليم الممدود على الأرض، ثم سقط متسطحاً وجهه اليها، وهو يرفع ييديه الحاملة الصندوق الصغير الى اعلى كسابحٍ لا يريد ان تطول ملابسهِ الماء. ثم صرتُ فوقه، جالساً على ظهره، وقد لففت الشريط حول رقبته بكل قوتي، وهكذا حتى اختنق. ثم بعدها زحفته واجلسته على الكرسي، بعناء، ونثرت الفليم حوله، واعدتُ الصندوق الى الصندوق بعد صار عندي الوقت الكاف لمعرفة محتواه.

قال إبنُ عميّ بقيتْ تصلنا أخباركمُ أولٍّ بأولْ..

بعد ليلة مقتل العم موشيه ..رغب ابي ترك ادارة السينما، وفعلاً افتتحَ مطعما ً صغيراً، في وسط البلدة، ولم يستطيب له الاستمرار في وظيفته؛ خاصة بعد ان هاجر يهوده ، وشقيقته سناء الى فلسطين.
واستقر حسقيال في العاصمة بغداد ، اذ نال درجة دينية متقدمة، فلم يعد باستطاعته ان يبقى مسؤولا مباشراً عن أملاكهم، ولم يعدّ متفرغاً للأمر الدنيوي حتى اقتضى به الامر ان يوّكل محامياً لجباية الإيرادات.
1[1] الفيلم بطولة النجم العالمي كلينت ايستوود Client Estwood
2[2] جناح خاص بالعوائل.
3[3] . في البداية لم تكن الهجرة خياراً واضحاً في عموم يهود العراق حيث تعرضت عدة دور للعبادة اليهودية في بغداد للدمار مما أثار حالة من الهلع بين أبناء الطائفة. في البداية لم تسمح الحكومة العراقية لليهود بالسفر لكن لاحقاً أصدرت آنذاك قراراً يسمح لليهود بالسفر بشرط إسقاط الجنسية العراقية عن المهاجرين منهم. وقد هاجرت غالبية الطائفة من العراق خلال عامي 1949 و1950م في عملية سميت عملية عزرة ونحمية إلى أن تم إغلاق باب الهجرة أمامهم وقد كان في بداية الخمسينيات حوالي 15 آلاف يهودي بقي في العراق من أصل حوالي 135 ألف نسمة عام 1948م. وعند وصول عبد الكريم قاسم للسلطة رفع القيود عن اليهود المتبقين في العراق وقد بدأت وضعيتهم تتحسن وأخذت الأمور تعود إلى طبيعتها. لكن انقلاب حزب البعث واستلامه للسلطة أعاد الاضطهاد والقيود عليهم وفي عام 1969م أعدم عدد من التجار معظمهم من اليهود بتهمة التجسس لإسرائيل مما أدى إلى تسارع حملة الهجرة في البقية الباقية من يهود العراق والتي شهدت ذروتها في بداية السبعينيات.
4[4] قلنسوة
5[5] ليس هناك تشريع يحدد نوعية الملابس اليهودية في الصلاة.
6[6] كتاب الصلاة
/6/2012 Issue 4234 – Date 25 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4234 التاريخ 25»6»2012
AZP09