جدنا المتنبي..تهزمه السلطة قبلنا

وهم ابو الطيب ووهم المثقف اليوم

جدنا المتنبي..تهزمه السلطة قبلنا

نوزاد حسن

أربيل

يشعر المثقف اليوم بأنه وحيد في عالم السياسة الصاخب.يشعر بأنه لا دخل له في كل ما يقع ويحدث وكأنه زائد عن الحاجة ولا يمثل قيمة جمالية وانسانية في هذا الزمن الذي تتكرر فيه كلمة الديمقراطية كثيرا. وقد عبر المثقف عن هذه المشكلة المعقدة وحاول ان يفسر غرابة الموقف الذي وجد نفسه فيه.

فالسلطة هذه الكلمة المخيفة التي لها قوة خمبابا في ملحمة كلكامش تسرق من المثقف دوره او تتركه بلا دور بمعنى ادق.وهو يعي هذا الاقصاء والحجر الذي حاصر حركة المثقفين التي ما كان احد يتوقع ان تكون على هذا الشكل فيما لو انتصرت الديمقراطية على الدكتاتورية التي طالت اكثر مما يجب ثم اسقطت اخيرا بفعل تدخل الولايات المتحدة وبريطانيا.ورغم هذا التحول الدرامي العنيف في الحياة العامة الا ان المثقف ما زال يحس بوطأة وحدته وعدم جدية دوره وتاثيره في المجتمع.من هنا بدا المثقف في تامل انفصال الثقافة عن السياسة،وعلاقته بالسلطة،والى أي حد يسهم صاحب الكلمة في تغيير المناخ السائد بعد ان طغت مصطلحات السياسة على لغة الخطاب اليومي والاعلامي.وانزوت لغة المثقف في كتاب يصدر ومقال في جريدة قلما تثير اهتمام احد الا في نطاق محدود.

قد يظن مثقف اليوم انه وحده الذي يعيش هذا الجفاء السياسي الثقافي وسيطرة السياسة على كل مناحي الحياة الى درجة يشعر معها أي مثقف انه بلا تاثير يذكر.من قبل احس رمز مشروعنا الثقافي ابو الطيب بما يشعر به مثقف هذه اللحظة الراهنة.فقد ادرك حجم الهوة بين كلماته كشاعر وبين الواقع كواقع.ولاحظ قوة السلطة الى جانب ضعف قوة الكلمة او النص.وقد اشار المتنبي الى مجد السيف حين قال:حتى رجعت واقلامي قوائل لي…المجد للسيف ليس المجد للقلم.

اذن الفكرة هنا هي الفكرة التي يشير اليها مثقف يريد من السلطة ان تمنحه مكانا في منظومة الحكم التي تقصي غالبا المثقف بل وتضطهده وتحاربه فيضطر للهجرة او الصمت.

وقد صرح المتنبي لكافور في احدى قصائده برغبته في ان يجعله كافور حاكما على ضيعة او ولاية فقال في احد ابياته الشهيرة:

اذا لم تنط بي ضيعة او ولاية

فجودك يكسوني وشغلك يسلب

وهذا تصريح غريب للغاية واندفاع لا اجده مبررا على الاطلاق ان يطلب شاعر من امير ان يمنحه مقاطعة يقوم بحكمها.ربما لا يطمح أي مثقف عراقي بمثل ما طمح اليه المتنبي لكن المثقف في الغالب يعتقد بوهم المتنبي حين ظن في يوم ما ان للكلمات مجالا لا يقل عن قوة السلطة.وان الكلمة تفعل وتؤثر وتغير.وفيما بعد اكتشف كل من المتنبي ومن المثقف اليوم كذبة هذه النظرة السطحية لقضية الثقافة وعلاقتها بالسلطة.

زواج الثقافة من السلطة

اعتقد ان موقف المتنبي من نفسه كمثقف كان اكتشافا مؤلما وقاسيا بكل ما في الكلمتين من معنى.فقد اراد ان يحقق حلما قلما تحقق على هذه الارض وهو ان يصعد  شاعر من طرازه ليكون حاكما على ولاية.اراد المتنبي ان يعقد قران السلطة والثقافة ممثلة بشخصه.وقبله حاول افلاطون ان ينفث السحر في هذه الفكرة لكنها ظلت فكرة على الورق.فليس من السهل ان يكون الرئيس فيلسوفا كما تمنى افلاطون.كما ليس من المقبول ان يكون المتنبي جالسا على كرسي السلطة وفي السلطة رجل عبد صار حاكما فيما يشبه ضربة حظ.

ان السياسي يريد ان يمتلك ثقافة رفيعة وان يكون متكلما بارعا يثير الانتباه لكنه لا يبدي اسفه لفقدانه هذه المزية.وعلى عكسه يظل المثقف في ازمة لانه يرى ان حركة الواقع تسير في اتجاهات لا علاقة لها بالثقافة من قريب او بعيد.فالسلطة تفرض منطقها وسحرها ونموذجها.ومن يقرا قصيدة المتنبي في كافور”انما التهنات للاكفاء”ص478 سيلمس ذلك السحر السلطوي الذي كان المتنبي تواقا اليه.فكل شيء في مصر تحت اصابع كافور السوداء..كل شيء.ولعل قراءة متانية تدلنا على ان المتنبي يحسد كافور وينتقصه في ذات الوقت.وفي نهاية القصيدة يقول المتنبي لكافور هذا البيت الجريء:

وفؤادي من الملوك وان كان لساني يرى من الشعراء.

من الممكن تسمية هذا البيت بجملة الرجاء المكشوف الواضح،وكأن هناك مقايضة يريد المتنبي ان يعقدها بينه وبين سيده المؤقت كافور.فالتهنات للاكفاء كما جاء في مطلع القصيدة.والاكفاء هم النظراء وهنا يرى المتنبي نفسه نظيرا لكافور وان كان شاعرا لا حاكما.ان البيت الاخير من القصيدة بكل صراحته لم يكن ليمر مرورا عابرا حين ينشد في حضرة كافور حاكم مصر الاوحد.انا لا اشك في ان كافور تمتم بالبيت الاخير مع نفسه ساخرا من طموح هذا المثقف الصلف.ويبدو ان باب السلطة كان مزدحما بسبب طبيعة العصر وطبيعة الثقافة بكثير من الطامعين بالجائزة والطامعين بالولاية.وقد كان المتنبي اكبر الطامحين على الاطلاق اذ لم يقل احد ما قاله لكافور وبهذه الطريقة المباشرة.

لغة المثقف مندحرة

يعتقد المثقف انه بلا ملامح ولا دور ولا قضية.وحين يكتب يشعر بانه يكتب دون ان يهتم احد بما كتب.وفي الواقع لم يفرض المثقف لغته في الشارع حتى هذه اللحظة،وهذه مسالة مهمة.وفي المقابل فقد غص المجتمع بلغة السياسة وانتشرت مصطلحات لم تكن مزروعة في حديقتنا الاجتماعية.وبدا المثقف يحس بضغط كلمات السياسيين في الوقت الذي يهيم فيه هو بعالم من كلمات لا تثير رجل الشارع ابدا.هذه محنة الثقافة الحقيقية.اللغة التي لا تصل الى الناس رغم كل وسائل الاتصال الميسرة التي بين ايدينا.لقد تسللت مفردات السياسة الى نوافذ العقل الاربعة فاختلط ما دخل من شباك الجنوب بما دخل الى شبابيك الجهات الثلاثة الاخرى والمحصلة قاموس سياسي ضخم كررناه وكتبنا عنه ثم شعرنا بغربة كبيرة عن ذلك القاموس الضخم.ولو ان مثقفا استطاع ان ينثر كلماته في فضاء عالمنا لقلنا ان محاولة ما ثقبت جدار السياسة السميك والعالي.وهنا سيحس انه موجود في مكانه.اذن لن يفرح أي مثقف ما دام السياسي يفرض لغته في الشارع ويدعو الى اقامة مؤتمر للمصالحة الوطنية ثم يدعو اليه كثير من المثقفين ليشاركوا فيه وليتحملوا دورهم ومسؤوليتهم في نشر ثقافة المصالحة.لكن دعوة المثقفين هذه لا تعني ان المثقف استعاد وضعه لان المثقف هو من يجب ان يقول كلمته ومن يجب ان يبذر لغته في ارض استثمرتها السياسة بكل فدادينها وبقي صاحب الكلمة غريبا في مكانه كما كان جده المتنبي غريبا كصالح في ثمود على حد تعبيره.