ثنائية (الوطن والمهجر) والسلطان – طالب سعدون

نبض القلم

ثنائية (الوطن والمهجر) والسلطان – طالب سعدون

هناك عبارة كثيرا ما أتوقف أمامها إذا ما مرت أمام ناظري أوعلى مسامعي متأملا ، وتحضر في ذهني كذلك  عند مناقشة طبيعة العلاقة بين (الحاكم والمحكوم) ودليل عدله واستقامة حكمه ،  يتمثل في مستوى الاستجابة لارادة وحاجات الجماهير ، لان الحاكم والدولة عموما في النهاية ليس سوى وسيلة لسعادة الانسان على أرضه …

 فلا قيمة لارض بلا إنسان ..

فالارض ما خلقت الا لتكون مستقرا للبشر .. أي تكون وطنا للانسان ، لكن هذا الانسان  يختار ما يناسب حياته وأمنه وكرامته ، ومتى ما فقدها غادرها وبحث عن غيرها ..

والهجرات في البداية كانت  لهذا السبب .. كانت طلبا للماء والكلأ والامن.. ومن هنا  اصبحت كلمة المهجر مرادفة للوطن ..

والمواطن اليوم يشترط على الوطن أن يؤمن له الحياة الكريمة التي تشده الى العيش فيه  ، وبخلافه فان أرض الله واسعة ، وكلها وطن له ،  متى ما وفرت له الاستقرار والكرامة والعيش السعيد ..  وتلك من واجبات الدولة ومن يتصدى لموقع المسؤولية – أي الحاكم بمختلف درجاته ..   وهناك من يعتبر الهجرة  لتلك الاسباب ،  ليس رفضا للوضع  القائم فقط وانما  بمثابة ثورة سلمية  ، أوتمرد سلمي عليه كذلك  …

اعود الى  العبارة ومضمونها (لو كانت لي دعوة مستجابة عند الله لدعوت بها للسلطان) ..

وهنا أتساءل  ..

هل من دعا من السلف أوالخلف  بهذا الدعاء كان مبالغا أو (منافقا) أو يبتغي مالا أو جاها  أو وسيلة للتقرب ، أم يرى – وهو على يقين وحقيقة – أن  الدعاء لصلاح الحاكم وهدايته ونجاحه في عمله هو صلاح للبلاد والعباد وأمان لهما أيضا .. فاذا كان  الحاكم صالحا يستحق بالتأكيد أن يُدعى له ، ليس على المنابر فقط  وانما في الضمائر كذلك  ، ومن لا يستحق لا يكتفى بالدعاء عليه  بل بالخروج عليه أيضا وإسقاطه ..

وما قاله الرسول محمد (ص) (صلاح الامم في صلاح  علمائها وحكامها)  مصداق لذلك ، ويصلح أن يكون قاعدة لكل زمان ومكان ..

المواطن يعرف من يحكمه جيدا دون أن يحتاج الى من يعينه على ذلك بتسخير الاعلام وشراء الاقلام وانتاج الافلام .. ويعرف أن هناك فرقا كبيرا بين الحاكم الصالح ، المصلح ، العادل ، ونقيضه ، يمكن أن يستدل ببساطة على ذلك من خلال تأمل حياته هو شخصيا ، ومستوى بلاده  معا ، في تقدمها أو تخلفها ، ومدى التصاقه بالارض التي ولد عليها وترعرع فيها ..

وتبدو  صورة  العلاقة بين الحاكم والمحكوم  واضحة ليس لابن البلاد فقط  بل للزائر  الغريب أيضا ،  يمكن أن تعرفها  من خلال  مستوى وطبيعة البناء على الارض ومظاهر وعلاقات واخلاق وسلوك يتجسد في الشارع وطبيعة التعامل .. يبدأ من شرطي المرور والنظام وإنسيابية المرور والنظافة في الشارع ، صعودا الى أعلى الى قمة الهرم في الدولة  ..

الشارع  إستبيان حقيقي  يومي مستمر، يعطي صورة دقيقة عن الحكومة والحاكم وعلاقتهما بالشعب ، وعندها لا يحتاج  الحاكم الى إعلام ومنابر للدعاء له ، أو اقلام تكتب ضده …

الحاكم  الصالح نعمة من نعم الله على الوطن ، وبعكسه يكون نقمة عليه ..  نعمة وثروة كبيرة لا يشعر بها الا من فقدها .. فلا قيمة  للثروة المادية إن وقعت في  أيد غير أمينة ، فاسدة  ، لا تحافظ عليها ، أو ربما تسرقها والعياذ بالله..

يقول افلاطون ..  الحاكم كالنهر العظيم تستمد منه الانهار الصغيرة فان كان عذبا عذبت وإن كان مالحا ملحت ..

 هكذا تنعكس حال الحاكم  ومستوى شخصيته وإدارته على حكومته سلبا أو ايجابا بدءا من أصغر موظف في أقصى قرية صعودا الى أعلى المناصب وتنظم الحياة والاوضاع العامة وشؤون  الناس في  البلاد  ، كما هي اشارة المرور تعرف دورها في تنظيم الشارع وضبط حركته واذا ما تعطلت تحصل الفوضى والفلتان  والاختناقات  والاصدامات والمشاحنات والخلافات بين سواق السيارات وتسود الانانية والقوة الفردية ، وتصبح هي سيدة  الشارع ، وليس قانون المرور والشرطي الذي يتولى تطبيقه..

وفي الأزمات والآفات والكوارث الطبيعية والحروب يظهر دور الحاكم  الصالح جليا ، فيكون عامل إطمئنان نفسي عندما يكون قدوة في القدرة  والتحمل والتضحية ونكران الذات والاخلاص والسهر على توفير حاجة الناس ، وبالذات الطبقات الفقيرة والمسحوقة ..

وفي الازمات  تظهر قيمة  القيادة في العمل والاعداد المسبق  لأسوأ الظروف  والاحتمالات ، ودور التخطيط  في تراكم  الخبرة والثروة  الوطنية بما فيها البشرية ،  وليس في زيادة الثروة الشخصية ..

فلا يجوز تحت كل الاعتبارات أن ينافس الحاكم شعبه فتكون له حصة الاسد في الثروة والموازنات  والامتيازات مثلا ،  ويصبح  هم الشعب  ومطلبه كيف يسترجعها منه  ،  فلا يجوز تحت كل الاعتبارات أن يتحول المنصب الى فرصة لبناء الذات ، وليس لبناء الوطن..

وفي كل الاحول .. الازمات مختبر حقيقي لمعرفة طبيعة الحكم والحاكم ومدى صدقه وقوة مبادئه والتصاقه بالشعب وإيمانه في ممارسة دوره بما يرضي الله والجماهير والضمير  ..

وفي زمن كورونا مثلا .. ظهرت صورة الحكام والحكومات على حقيقتها ..فقد وجدنا حكاما يتسابقون في التعافي منه ، أو تقليل اثره السلبي في  مساعدة المواطنين وفتح خزائن الدولة  وما ادخرته  وشيدته من صروح لسد حاجاتهم وزيادة الانتاج وولوج ميادين جديدة في الاقتصاد ، بينما نجد دولا اخرى في حيرة وتلجأ الى التقشف والاقتراض ومد اليد الى جيب المواطن بالضرائب او حرمانه من حاجات اساسية ، أو ترك الامر للجمعيات الخيرية  لتساعد الناس المحتاجين  بقدر ما تستطيع ، لان السلطة بددت الثروة في غير مجالها  الحقيقي  في البناء والاعمار ، ولم تتحسب لهذا الظرف ..

وعندها تعرف مَن  مِن الحكام يستحق الدعاء له ومن  تدعو وتخرج عليه او تصب اللعنات عليه ..

وتعرف أن الوطن ليس أرضا فقط بل انسان أيضا .. وهو من يعطي للارض  قيمتها بالاستقرار عليها متى ما احتضنته بحب  وحنان وعاملته باحترام يشعره بقيمته وانسانيته …

{ { { {

نموذج قرآني ..

هناك مثالان من القرآن  الكريم يمكن الاستدلال بهما على  العلاقة بين  (الحاكم والمحكوم) .. ومن يؤثر في الأخر ، أو يصنعه ..

الاول …

فرعون الذي (فرعن) لانه لم يجد من يرده  أو يردعه ..

والثاني …

الرسول الكريم  محمد (ص) عندما خاطبه سبحانه وتعالى  (وانك لعلى خلق عظيم) فكان انموذجا للبشرية في القيادة وقدوة لها في الخلق .. فكان الرسول (ص) شخصية نموذجية يتأسى بها بكل معنى الكلمة ..

وما أحرانا اليوم الى التمثل بها ..

{ { { {

كلام مفيد :

قال الشاعر إيليا ابو ماضي :

قل للذي أحصى السنين مفاخرا

يا صاح ليس السر في السنوات

لكنه في المرء كيف يعيشها

في يقظة ام في عظيم سبات

مشاركة