ثلاث قصص قصيرة

ثلاث قصص قصيرة

عبد جبر الشنان

غبار

شجيرة الدفلى الغافية من زمان على رقبة حجر قرميد الممر المرشوش توا، هذا الصباح يلاحقها اسى اللحاق بشقيقتها زهرة القرنفل ذات الوريقات المتهادية مثل شعر مراهقة… جفلى بانتعاشة خفيفة ومفاجئة من رشقة الماء المتطاير من الصنبور الملقى في باحة الدار المنهمكة بعويله.

– يقال ان العيد قادم من جهة النهر.

– اتلك الاشباح الهلامية البعيدة تنتظره؟

– انا لا انتظر احدا…. لكني امضيت حياتي انتظر مع المنتظرين واتسلى بوصول وشيك.

الرياح فاغرة افواهها مثل وحوش تنبش في الحدائق والشوارع باحثة عن نعوش، والسأم بروحه الشعثاء يقضم اياما وديعة ربما تكون بعيدة المنال، الفتيات النحيفات انسحبن برشاقة وذهبن للاستحمام بهشاشة اجسادهن يقضم الشحوب لذة انتظارهن…

اسى وندم يهيم على محياهن وهن يجلسن القرفصاء في مفترق يأس… بعيدة هي الاقاصي ووحيد هذا الصباح الاليم… يحث الخطى متوسلا حتفه.

– لم يأت العيد، بل لم يكن هناك عيد قادم ابدا.

– آه… الايام منطفئة وهي تقلم اظافرها بضجر… وتحلم بنزهة مرحة مع هذه الصباحات العوانس.

– اعتقد انه لم يعد امامنا متسع من الوقت للموت… مثلما لم يكن لدينا الوقت الكافي لنستمتع بالعيش وسط هؤلاء الحمقى وهم يلهون بمصائرنا.

– لكن قولي.. ربما كانت لنا خالة خلف المرتفع، هل تظنين انها تعرفنا بعد كل هذا الدهر او تتذكرنا ان كانت بعدها خالة؟

– لا اعتقد ان لنا خالة… كذلك انني غير متيقنة من ان هناك مرتفع… وانت فقط تجمعين المنسيين وجراحهم الملتصقة بالتعب والمحاصرة بين انفاسهم التي غاصت بالاختناق…

ماجدوى النسمات اذا؟

– آه.. اصغي هناك طارق على الباب، ها، انه يدق تبؤدة.

– دعيه يطرق… فانا منذ سنين لم اسمع صوتا جديدا يجول في هذه الدار سوانا… لكن قولي… هل لدينا باب يطرق !!

– هل انت مثلي لديك خوف مما مسني؟

– الحياة ياختاه حميمة لا تحتمل، دائما هناك مساوئ لعينة وخوف هجين في هذا البيت… نخشاه ونصحو معه كل صباح.

– لنمضي الى غرفتنا… فلا عيد هناك ولا هم يحزنون. جدائلك تلك المتقافزة على نحولك… ام ماذا؟ فانا منذ تلك الطفولة العتيقة لم ارى شيئا ينوح قرب شحوب رقبتك.

– اتسخرين مني !! تتلمسين باصابعها شيئا عظيما يشبه غصن منكسر سرعان ما يتفتت ويتناثر مثل غبار.

شحوب مخيف يتسكع خلف شجرة السرد… ونعاس عذب يلف النافذة الضجرة التي يتدلى خلفها شبحان غامضان مثل دميتين من مسرح عرائس تهتز مفاصلهما منذ قرون.

شهقة

بيدين رقيقتين كانت الانسة الصغيرة تسرح شعرها الاسود الفاحم وتتسلى بتموجه تحت مشطها العاجي..

كانت تتمرأى بمراهقة جذلة لترى ملامحها الناعمة ووجنتيها البضتين اللتين بدأتا تضمران قبل نضوجهما ويستعجلهما تعب لم تكن تتمناه… قرب شجرة الرمان المزهرة رأيتها تستحم… صبية يفيض من عينيها الخضراوين الق مثل نور الينابيع… صبية بيضاء نشوى تحلم بان تغمر ايامها الزنابق ويكلل المرح جدائلها بالقرنفل.

الصبية لا تكترث لصيحات الحب الفردوسي، الصبية بقوامها النحيل وجبينها المغطى بالحنين لا تكترث لحفيف اهداب الفجر.

– ايتها الجميلة ! ماهذه الكآبة في عينيك البلوريتين؟

– انها ذكرى حبيبي الذي ذبل في الساحة الصغيرة.

– ايتها الصبية لم تعد هناك ساحة… اظن انك نسيت منديلك.. آه… آه… ما اقسى هيامك !!

– كان لديها المزيد لتقوله في صباحات اكثر عذوبة..

– لكن الايام رشقتها بهموم شائكة… وجلست… من دون حراك.

معطف

تفتح المقبرة اجفانها في ذلك الغبش المتلفح بنثيث مطر اليف وغامض.

هنا تبدأ الحياة كما لا تبدأ في مكان اخر.

السماء تنحني كل صباح لتحدق بمودة بقبو الصغار المختبئين في ثنايا امس قصي، وتمسد على ضفائر تلك القبور القابعة مثل افواه تند منها على الدوام همهمات مختنقة كبقايا افول.

الذبول هنا يواصل تجواله بين الحفر ورميم عظام صغار تتموج على اجسادهم ظلمة تبتكر قسوتها كل يوم وتمعن بتجفيف غياب قاس.

طرقات المقابر هي الوحيدة التي بلا شبابيك، فلا احد من سكانها الموتى يرغب بالاطلال عليها فاكتفوا بالتنادم هامسين مع انفسهم عن مصائرهم في تلك الصباحات المتكررة التي تمر عجلى منسية من الجميع المأهولين بالحياة، ومساءاتهم تتدلى على ملامح ممرات اجسادهم كالمعاول. حروب متبرمة عمياء تستيقظ لتلد حروبا اكثر وضاعة لم يرث منها هذا الغائص في وحشيته سوى ساق خشبية وهذا المعطف الذي حال لونه وغدا مثل تراب حروب.

خطى كارثية تتوغل به داخل المقبرة، يحتضن صغيرته التي خطفها الموت الى عشه بمخالب متاهاته. كان يمني نفسه بان تغمرها الفراديس في حضن رجل نبيل… الا انها استسلمت للنوم اخيرا في غياهب موت لم يجف لعابه بعد.

– سيدي… سيدي ثمن الكفن ارجوك.

قالها بصوت مخنوق حفار القبور ذو الملامح الشمعية التي اوصدت ابواب تعابير محددة.

التفت الرجل المفجوع بصغيرته وخلع بهدوئه المعهود معطفه والقاه على وجه الدفان وعبر الى يأسه المريب وهو يهز قبضته تحت وجه سماء بغيضة.

مشاركة