تنوّع صورة المرآة الأمازونية المقاتلة – نصوص – معتصم السنوي

الحب والجمال في السيّر الشعبية   2-2

تنوّع صورة المرآة الأمازونية المقاتلة – نصوص – معتصم السنوي

 إلا أن هذه السعادة سرعان ما تضيع في غمرة محاولة القبيلة صد هجوم اليمنيين الذين يزحفون بزعامة حسان التبعي لأحتلال بلادهم ضمن حملتهم لأحتلال الجزيرة كلها .. وتؤدي الخيانة والحقد دورهما في المعركة فيخضع مرة ومعه رجاله للغازي ، وينهزم قيس ويقاتل معركة يائسة يؤسر بعدها ويعدم … وينصب الغازي حليفه المتواطئ معه ملكاً على القبيلة مكان أخيه المقتول ، ويستتب الأمر لمرة ، ويحقق ما كان يطمح إليه من مكان الصدارة والرياسة في القبيلة ،

 ويطرد الملك الجديد أبن أخيه ويبعده عن ابنته في محاولة تقتل علاقة الحب بينهما ، ويعيش الحبيبان مرحلة قلقة معذبة وحائرة ، فلم تعد العلاقة ، علاقة حب بين نظيرين بل بدت علاقة مكروهة بين أميرة ثابتة المكانة ، متميزة الوضع ، وبين شاب طريد لا يملك إلا سيفه وحبه وثأره المر لأبيه المقتول … ولا تقف الأحداث عند هذا القدر من التفريق بين الحبيبين ، بل تدخل دراما حبهما عنفوانها حين يسمع حسان التبعي الملك الغازي بجمال جليلة بنت مرة ، وحين يزين له خلصاؤه أن يتزوجها ليتمتع بجمالها وشبابها من ناحية وليربط مرة به برباط وثيق يجعل  وليه الملك العربي ، حريصاً بشكل أو بآخر على الولاء الدائم له ولملكه . وحين يطلب الملك حسان يد جليلة يرحب مرة ترحيباً حاراً ، فهو من ناحيته يجد في هذا الزواج بغيته في تعضيد علاقته بالغازي وتوطيد ولايته على العرب ، كما يجد فيه خلاصاً من علاقة جليلة بأبن عمها كليب ونهاية لهذا الحب الذي لا يرضاه ولا يقره… وحين يعلن أمر خطبة الملك التبعي لإبنة مرة تضاف طعنة جديدة إلى قلب محبها الطريد كليب بن ربيعة … تزداد أسباب عداوته الخانقة البائسة على حسان التبعي اليماني ملك حمير ، الذي قتل اباه وأستعمر وطنه ، وطرده من حظيرة القبيلة ، ثم ها هو يتزوج من حبيبته وأبنة عمه ورفيقة صباه ، ليتوج بهذا نصره عليه وعلى العرب جميعاً. ومن هنا تبدأ قصة الحب تأخذ طابعاً جديداً . فالأمر ليس أمر حب تحرمه أوضاع طارئة لا يقبلها الفتى ولا تقبلها الفتاة أيضاً . وأنما الحب هنا مواجهة بقطيعة أبدية تمتزج بضياع الوطن والكرامة والعرض جميعاً . وتتحول قصة الحب من علاقة فتى بحبيبته إلى حقيقة علاقته بكل معاني الجمال في حياته ، فتاته ، وطنه ، كرامته ، دم أبيه المهدور . كما يتحول أيضاً من علاقة فتاة بحبيبها إلى حقيقة علاقتها بكل معاني الجمال في حياتها حبها ، كرامتها ، وطنها ، معنى الأعتزاز بأنوثتها . ويتلقى الحبيبان بعيداً عن كل عيون الرقباء ، ولكنه ليس لقاء مناجاة وتطارح العشق والغرام ، بل هو لقاء التعاهد على خلاصها وخلاص القبيلة وخلاص الوطن . فأن قبل الشيخ مرة الذلة والأستسلام فأن الشابين لا يستطيعان أن يقبلا الخنوع البائس الذي تعيش فيه القبيلة أو يعيش فيه مرة … أن معنى الحب عندهما يرتبط بمعنى الشرف ، ولا حب لهما إلا إذا أستطاعا أن يستخلصا شرفهما وشرف القبيلة والوطن من عار الأستعمار وذل تحكم الحاكم الدخيل الذي يرى في زواجه من جليلة تتويجاً لكل المعاني التي حارب من أجلها ، والتي هزم بني مرة وبني ربيعة لتحقيقها . والخطة التي وضعها الحبيبان خطرة ، ولو فشلت فسيدفعان حياتهما ثمناً لها ، ومع هذا فهما ماضيان في تنفيذها فقد سهل لهما الحب كل شيء ومهد أمامهما كل طرق المخاطرة الصعبة التي أتفقا عليها . ويحدد يوم زفاف جليلة إلى حسان التبعي الملك المنتصر … ويسير موكب العرس تتقدمه الطبول ، ويتوسطه هودج العروس ، يقود زمام ناقته مهرجاً ومضحكها ، يمتطي حصاناً وهمياً على عصا خشبية يلعب عليها فيهتز على رأسه طرطور مضحك ، ويلعب بسيف خشبي يثير الضحك والسخرية . ومن وراء الأميرة العروس ، هوادج عدة تحمل هدايا أبيها ، وشوارها ، إلى زوجها الخطير المكانة السامي المنزلة.. وتدخل العروس إلى قاعة العرس حيث يلقاها الملك المعجب بجمالها . والفخور بتملكه لدرة أرض العرب والشام .  ولكن الأميرة وسط كل الرقص والغناء تضجر وتصر على أن يحضر مهرجها الخاص إلى الحفل ليسري عنها ، فهو وحده الذي يستطيع أن يجعلها تحس ببهجة العرس ، ورونق الحفل المقام … ويستجيب الملك الشيخ المدله لأمر الأميرة ، ويحضر لها المهرج الملئ الوجه بالأصباغ –  سريع النكتة ، حاضر البديهة ، يرقص بسيفه الخشبي ، ويتعلق في أستار القاعة ، ويقفز من مكان إلى مكان في خفة الفهد ، ورشاقة النمر وأتقان البهلوان .. والملك يضحك لضحك عروسه ، ويسعد لسعادتها ، والكأس يدور ، والخمر تراق فوق الموائد الحافلة بأطايب الطعام والفاكهة. وكلما أراد الملك الشيخ أن يصرف المهرج أصرت الأميرة على أن يقدم لوناً جديداً من ألوان عبثه وفكاهاته ، والشيخ يرضخ والخمر تأخذ بلبه ، وجمال عروسه يسبي عقله ، وهو يمني نفسه بليلة عرس حافلة . ولما أشتد أحساس جليلة بتزايد أثر الخمر على الشيخ المتصابي ، طلبت منه أن يخلي القاعة من بعض من بها ، وهو يستجيب لطلباتها التي تسوقها بدلالها الواعد الذي لا يسمح له برفض طلب تطلبه أو رجاء ترجوه . وفي النهاية تخلو القاعة إلا من الملك . والعروس والمهرج الذي أستبقته العروس ليغني لهما آخر أغنية قبل ذهابها إلى فراش العرس ، ويرقص المهرج ويغني أغنية الموت ، ويجرد سيف الملك نفسه ويلعب به ثم يطعن الغاصب السكران المنتشي طعنة الموت من يد كليب الفارس والحبيب … ويسرع إلى هوادج العروس حيث يخرج الأعوان والفرسان الذين ملأوا الجزء الأسفل من هذه الهوادج في خدعة تشبه خدعة حصان طروادة ، وينقض الجميع على الحرس الذين أثقلتهم الخمر وفرط الثقة بإنفسهم وبخنوع المهزومين …  ويستولي على القصر . ويحاصر قوات حسان التي فقدت قائدها فأنسحبت مهزومة …  ويعتلي كليب عرش أبيه وإلى جواره عروسه وأبنة عمه جليلة… ودور المهرج الذي لعبه كليب طول ليلة عرس جليلة ، وفي قلب قاعة عرش حسان التبعي ، دور ملئ بالمخاطر الهائلة ، ولكنها مخاطر محسوبة ومعروفة من قبل . كما أن دور جليلة العروس التي تريد المهرج الخاص بها إلى جوارها دائماً ملئ بالمجازفة الكاملة. فلو أنكشف دور كليب لفقدت حياتها مع حبيبها في وقت واحد.. ولكن هذه المخاطرة المزدوجة هي التي ترسم لقصة الحب هذه في سيرة الزير سالم وأبعادها العميقة ، ومعانيها المتعددة الرائعة …

تحول علاقة الحب من سالبة لموجبة

وتتحول قصة الحب من علاقة هائمة بين رجل وأمرأة ، إلى علاقة موجبة يلعب فيها الرجل والمرأة دورين متكاملين مشتركين ، ويختلط فيهما السالب بالموجب ، فإذا هما سالبان وموجبان معاً ، وإذا المعنى الخلقي للحب هنا معنى جمالي متكامل … فيه الرجل والمرأة فإعلان معاً ، لا ينتظر أحدهما نصر الآخر ليشارك فيه ، وأنما هما معاً يفعلان النصر في حصاد ما غرسا معاً ، أن تعاسة وخطراً وأن حباً ونصراً.. هذا الجزء الإيجابي لعمل الفتاة في قصة الحب إضافة حقيقية لصورة الحب التي تتردد ونعرفها حول حب الموله المترف بفتاة لا مبالية تنتظر منه هو وحده أن يقطع كل الطريق إليها ، عبر كل الأشواك والتعاسات ، والمغامرات حتى يفوز بيد الحبيبة المنتظرة المترفعة ، التي لا دور لها إلا إنتظار نصر الحبيب ونجاحه في الحصول عليها كجائزة لمجازفاته ومخاطراته من اجلها… هنا شيء آخر ، أمرأة فاعلة إيجابية تقدم أمنها وحريتها ، بل وعمرها كله مشاركة منها في أكمال قصة الحب ونصر الحب ، وزهو الحب المظفر العظيم … جليلة في مشاركتها ” كليب ” في الخدعة التي قهرا بها عدوهما وعدو بلادهما ، ترسم معنى الحب الإيجابي في الأدب الشعبي العربي بعامة وفي السير الشعبية بخاصة (6)… نجد صورتها في فاطمة ذات الهمة في السيرة لمعروفة بأسمها ، المرأة الأمازونية المقاتلة من أجل الحب . ومعنى الحرية معاً… كما نجد صورتها في منية النفوس في سيرة سيف أبن ذي يزن ، المرأة المحبة التي تقاتل إلى جوار حبيبها وزوجها الملك سيف ، والتي يقاتل من أجلها الملك سيف الأنس والجان جميعاً .. ونجد صورتها كذلك في الأم المحبة الفارسة المقاتلة التي ترتدي زي الفرسان وتمتطي الخيل وتهاجم الرجال في شجاعة لتخليص أبنها من كل مأزق حرج يقع فيه ، ممثلة في فاطمة أم على الزيبق في السيرة الشعبية المعروفة بأسمه…

تنوع صورة المرأة في السير الشعبية العربية

ونحن نجد المرأة الأمازونية التي تقاتل وتحب كثيراً في السير التي تتحدث عن حياة الصحراء في الجزيرة العربية أو ما يتاخمها عند وادي الرافدين أو على ساحل الشام ، أو في الأجزاء التي تتناول هذه البيئات من السير الشعبية مثل سيرة الزير سالم وغيرها . وغالباً ما تبدأ قصة الحب في هذه الأجزاء بمعركة يخوضها البطل مع فارس يتحداه ، ويتبعه في القتال مساوياً له في الشجاعة والمهارة ، ثم حين يهزمه يكتشف أنها فتاة متنكرة في زي الفرسان … وهو حين ينتصر أيضاً على قلبها لتبدأ قصة حب صحراوية تكاد تصبح نمطية في هذه السيرة أو في أجزائها التي تدور في الصحراء على الخصوص . وفي أحيان كثيرة يصل أعتزاز الفارسة الأمازونية بمهارتها وقدرتها على القتال حداً يجعلها تضع من نفسها مجالاً للتحدي ، فمن يهزمها يستطيع أن يفوز بها زوجة ، وإلا مصيره القتل في ساحة النزال ، ويستهدي جمالها الفرسان الذين يعتزون بأنفسهم من ناحية ، ولا يرون في نزال فتاة أياً كانت مهارتها مسألة ذات بال من ناحية أخرى . ومن هنا يكثر صرعاها ، صرعى جمالها وصرعى  سيفها أيضاً إلى أن يتقدم بطل السيرة ، أو بطل هذا الجزء من السيرة كما نرى في الجزء الخاص بجندبه في سيرة ذات الهمة ، وفي جزء الصحصاح أيضاً ، ليهزمها ويفوز بها ، وبجمالها ومالها وسط قومها  … ولفتاة الأمازونية المحبة صورة أخرى تتكرر كثيراً ، فهي عند خروج حبيبها إلى مغارته تتسلل قبله وترتدي ثياب الحرب وتتقنع وتعترض طريقه بإعتبارها أحد الفرسان اللصوص ، وتدخل مع زوجها في مبارزة حامية كأنما تختبر مدى أستعداده للمغامرة التي سيقدم عليها . وهي تكشف قناعها في الوقت المناسب حتى لا ينقلب لعبها إلى جد فتجرح  زوجها أو تقع تحت حد سيفه … وفي الواقع تصبح هذه المبارزة كأنها جزء مكمل لكلمات العشق أو لحظات الغزل بينهما ، يحملان لها من الذكرى ما يجعلها حية خلال حكاية حبهما ، وحية خلال النسيج الفني للسيرة الشعبية نفسها .

خاتمة ورؤية إجمالية

الواقع أن تنوع صورة المرأة في السير الشعبية العربية هو الذي يعطي التنوع لصورة الحب المقدمة في أحداث هذه السير … كما أن دخول المهارة القصصية في هذه الأعمال يتيح لهذه الصور حياة وحركة تنفرد بها هذه السير الثرية بصورها الفنية القصصية والجمالية على السواء… والواقع أن أمتزاج قصص الحب أمتزاجاً موضوعياً بالقصص الرئيسية في السير الشعبية يجعل من الحب لا مجرد عاطفة بين رجل وأمرأة ، وأنما يجعل منها دافعاً محركاً لطموحات الرجل والمرأة على السواء … كما يجعل منها دافعاً محركاً لأحداث السيرة الشعبية ذاتها … فهي في الغالب الأعم النواة التي تنمو حولها باقي الأحداث التي تتضح كلما تقدمنا في السيرة ككرة الثلج التي تكبر كلما تدحرجت فوق الجليد . ولكنها تحمل في الواقع طبقات جديدة من نفس المادة التي صنعتها ككرة أول الأمر . فمهما تقدمنا في أحداث السيرة فأن حكاية الحب الأصلية تطغى على الأحداث وتؤثر فيها ، وتجعل من التنوع فيها تكراراً للنواة الأولى أو إضافة مبنية على النمو الطبيعي للعمل الفني التابع منها .  وتملأ هذه الحكاية والحكايات الأخرى المشابهة مغامرات السير الشعبية بطابع إنساني متكامل يمتزج فيه حب الهدف الأسمى أو معنى الخير والجمال ، يحب المرأة ، أو معنى التكامل الإنساني بين المرأة والرجل ليصبح الحب بهذا خيطاً أساسياً يمسك بكل الأحداث ويوجد من خلال الأحداث ويمثل الرابط الحقيقي وراء الدوافع الكامنة والمحركة للأحداث .. والكثيرون ممن لم يقرأوا السير الشعبية حتى نهايتها لا يكتشفون كيف يوظف فنان السير الشعبية المبدع دافع الحب توظيفاً روائياً وملحمياً يعطي السيرة الشعبية خصوصيتها الفنية المنفردة كفن روائي عربي حمل الرؤية العربية لأحداث التأريخ وحمل في نفس الوقت الرؤية العربية الشعبية لفلسفة الحياة والوجود ولمعنى الحب والخير والجمال…

الهوامش والإحالة

1.         د. صادق جلال العظم : في الحب والحب العذري : منشورات نزار قباني / بيروت –  1985 ص51-52 .

2.         د. غالي شكري : في تراثنا الشعبي –  مجلة الطليعة الثقافية المصرية –  العدد (65) سنة 1975 .

3.         أنظر كتاب ” قلب جزيرة العرب ” للأستاذ فؤاد حمزة : المطبعة السلفية بمصر 195. ص254 .

4.         أيليا حاوي : فن الفخر وتطوره في الأدب العربي –  منشورات دار الشرق الجديد –  بيروت 196. ص 1.4 .

5.         بعث الفلسفة الأخلاقية –  تأليف –  برنارد وليامز –  ترجمة كامل نوري –  بيروت 1992 –  ص8. .

6.         تكنولوجيا السلوك الإنساني : تأليف ب . ف سكينر –  ترجمة د. عبد الكريم أحمد –  القاهرة 199. ص25 .