عقيل منقوش في غده المتأخر
تنسّك شاعر- نصوص – وسن علي الزبيدي
إلحاقا بسلسلة القراءات لشعر الغربة العراقي والتي ضمت قراءة في نصوص أبداعية لعدد من شعراء وشاعرات العراق في أرض الغربة والذين أبعدوا قسراً واضطرارا عن الأهل والأحبة واقتلعوا من رحم الأرض – العراق لكنهم ظلوا أجسادا بلا روح يعانون الغربة وويلاتها من أحساس بالفرقة وألم التحسر على وطنٍ ظل ينزف الجراح بلا هوادة له عن تجرع مرارة الظلم والطغيان . هؤلاء الشعراء المبدعون سكنت الغربة أجسادهم وقلوبهم وأرواحهم تحدق في عراقهم لم يفارق أرواحهم بلاد النهرين وشمسها الدافئة . وضمن هذه السلسلة لقراءة الشعر العراقي في المنفى ومثلما تعودنا أن نسلط الضوء على شاعر مغترب نضع اليوم شاعر تحت الضوء وعبر قراءة في ما جادت به قريحته الشعرية نقرأ هنا ووفاءً لتجربة شعرية أبداعية فذة ومتميزة ننادي بها غدٍ متأخر عن فضاء مبدعه الذي يتأمله بكل جراحه المتوجعة غربة وفراقاً . لعل هذا الغد المتأخر يأتي بأشراقه على حياة ملؤها التأس والحزن و اللوعة على (أهل في بلاد النهرين) وهذه العبارة التي أهدى بها الشاعر المغترب (عقيل منقوش) ديوانه الى أهله في العراق .وعبارته ذات الدلالات المتعددة ببوحها في تكثيف رائع قدم لديوانه الذي بعنوان ( غدٌ يتأخر قليلاً) بهذه العبارة ((الشعر: هو قول الناسخ المُنجَّم السماوي الساحر والمُخلص المطهر الطبيب وهو الترتيل والنوّاح …من كتاب “توصيف الشعر في حضارة بلاد النهرين 6000 ق . م” )) لنقرأ تجربة شعرية تشكل ظاهرة إبداعية متميزة لشاعر عراقي يترك بصمة في الشعر العراقي المعاصر وأظهر للعالم أبداع قراءة الشعر العراقي في المنافي البعيدة . فهو يستحق البحث والتقييم ونحن نسعى في هذه السطور الى التوقف عند قصائد ونصوص تجربة (عقيل منقوش) الأبداعية والتباين الواضح في كتابة الأشكال والمعاني الشعرية مثل النص المركز بوصفه نصا وضاءً حاضرا في عدد من نصوص الديوان كما في قصائد( أبدية محاولة رقم 2 ألى جاكلين روفائيل …) أو نص طويل مثل (قتلى الحاضر أقرب وأبعد من الحياة المنفى كما أراه ويراني غزاة عربة الشخص ) وتُقُفنا قراءة هذه النصوص عند سحر الكلمات وجمالية اللغة في ديوان الشاعر وما أفضت أليه هذه اللغة الشاعرة من محاولات أبداعية يغلفها الخيال الشعري وجدية الكتابة للنص المفتوح الذي يصهر تقنيات الكتابة الابداعية في بودقته وإمكانات شعرية تظهر أمتلاك الشاعر لأدواته وفطنته في توظيف المخيلة الشعرية للتعبير عن المعنى والفكرة المتولدة في الذات الشاعرة . في هذا الديوان الذي يطالعنا مذ عنوانه (غدٌ يتأخر قليلاً ) بمفارقة تمثل بنية نصية لها قراءتها التي تحيل الى فتح أبواب التلقي والدخول الى فضاء القصائد عبر تجربة شعرية منسابة في سيل عاطفي فطري تتناول الحياة واقعاً معيشاً والموت فضاءً مهمشاً والأمل غداً متأملاً عن طريق بوح للذات الشاعرة تستند الى خبرة أستقاها من قراءاته المتعددة وثقافته المتنوعة في المرجع والمورد الذي نهل منه مصادر صورته الشعرية وبما في النصوص من بوحٍ موسيقي وسردية ذكية ومنولوجات داخلية مستبعداُ التهويل والصراخ الصائت ولائذاً بالهمس والتفجع والصراخ بصمتٍ يحرق الروح والجسد . يقول:
أيّتها الأرواح البالية ِ المتَعبة / في البيت العتيق
هكذا أنت صامتة ً طوال الوقت / هكذا ألوانك تتساقط في العتمة ِ
لا شيء يَسري في طياتك غير / هواءِ الحجرات تَعرفُ ساكنيها
وتعرفُ ما بعد الجمرةِ الرماد / في الرواقِ تُنصتين للضجيج
نتلمس هنا الأحتفاء ببداية المنفى في فضاء مخيم رفحاء وهو المخيم الذي سكنه الشاعر في بداية التغرب قبل بدأ رحلة الغربة وسكن المنافي النائية عن أرض الوطن نراه هنا مشبعاً بملامح روحية عميقة و لذات ملتهبة بإبداع كان معادلا موضوعياً لواقع عايشه الشاعر ونفس تحيا منزوعة الأحلام والمسرات يسود سماءها الصمت والعتمة مكتنزة التساؤلات والانكسارات والخيبات هائمة حائرة قبلة وجهها أرض مغطاة بدم الابرياء وتسلط الطغاة وهي تندب ابناءها الذين تناثرت اجسادهم أما قتلى طريحو التراب أو شتات سلب الروح وأبقى على الجسد يقول في قصيدة( عربة الشخص) :
بمثل هذا التيه / الإيماءةُ / يستوحشها الرصيف
لا تعطي غير ملامح / إله مهجور يبتكر اللحظة
متلمساً وقع الشخص / بمثل هذا الليل / يحتشد المنفي بسواه
فالذات الشاعرة تتقلب على لهب التيه والبعد عبر حركية الافعال المستقبلية لرؤية زمنية لذاك الغد المتأخر فترسم صورة شعرية لفضاء مغرق بسلبية المنفى . مفردات منتقاة بتلقائية العرض ومحملة بلغة رقيقة في سرد بكائي وانتحاب صامت ( لا تعطي غير ملامح / إله مهجور يبتكر اللحظة) ويقول في نص آخر:
شخصٌ يُسائل ظله
من أين لك كل هذا الخوف / الموغل في الأشياء ؟
دوران شخص ٍ يرتد بمثله / هكذا الأسئلة تبدِّد ذاتها
مثلما حيز يتشقق في الظلام / مثلما أرواح لا نراها
يوحي للمتلقي بأننا أمام دائرة الظلام والخوف يربك القارئ ويشتت فكرة تلقي التيمة للنص في (دوران شخص يرتد بمثله) ساعيا الى إبهار القارئ في استثمار مرجعيته الصورية التي تميل الى الفانتازيا في مأخذها التقني (مثلما أرواح لا نراها) ويقول في قصيدة( أفكار صامتة) :
تلك الأفكار
التي تحسبُها فراشاتٍ / ترفرفُ في رأسك
سرعان ما تهبطُ بهدوءٍ / لتلامس حديقة نفسك
حينما تأذن لها أن تكون / زائراً يحاورك / بصمته الباذخ
ساعة يتعطلُ كل شيء / وتتوقف الرغبة ُ / في الظلام
نسمع في النص الصوت الهادئ المتأمل الحالم الذي يخفق رقة في تعابيره وهو ما يميز نصوص عقيل منقوش نقرأ فيه نوع التهجد والصلاة والتنسك الشعري (ترفرف في رأسك / سرعان ما تهبط بهدوء / لتلامس حديقة نفسك) فلا ضرورة هنا للشرح لأن الصمت أمام بعض الأفكار التي يقدمها الشاعر تزيد من جمالية النص لاسيما القارئ المثقف المتصف بوعي فلسفي وإنساني وشمولية ثقافية قادرة على ربط خيوط عديدة من الخيال الشعري بواقع الحياة .
يقول: سماءٌ انطوت في الأرض / أرضٌ انطوت بأصلها
وما بينها ضاع يقيني / طرائد مرّت عبر يقيني
جيوشٌ مرّت عبر وجهي / عبثاً كان يظهر القمر هناك
إن إغلاق الدائرة الصورية يأتي مع بداية الانطواء مع الأرض والذي كان له تأثير واضح على الذات الشاعرة وعلى بداية أختفاء حدة الصراع التي نراها واضحة في تكرار منظر الانطواء والغور في رحم الأرض مما يشي بوجود حالة من التوحد بالأرض الذي يفتح التوحد مع الذات ( وما بينها ضاع يقيني / طرائد مرت عبر يقيني) . وهنا المتلقي يشعر بنوع من المصالحة بين الشاعر وذاته على الرغم من ضياع اليقينيات بالاشياء المحيطة به.
وما زلنا في داخل تجربة أبداعية نبحر في فضائها العذب وهي تقدم تجربة الغربة لشاعر صاغ نصوصه على أرضية مبلطة بوجع المنفى وحزنه وجدرانها مغطاة بجمال تشكيلي وفهم واعٍ للظاهرة الشعرية . يخاطب بها العقل الباطن والأحاسيس والأمنيات وصولاً الى الأدراك الواعي للإنسان الذي يربط بين الكلمة والصورة الشعرية . وفي قصيدة( صدى الشرق – صدى الغرب) يقول عقيل منقوش:
لكنها شمسٌ واحدةٌ / في المرآة يراها أحدهم
أنثى على الأرض تدور / يُبصرها ليستدرجها
فتنكسرُ كزجاجةِ عطرٍ / برائحتها يمتلأ المكان
في المرآة يراها أحدهم / حزمة ضوء ٍ
تنمحي آثارها كلما / بَعُدَ الزمان
جهةٌ تعلو على الأخرى / جهة تنأى عن الأخرى
جهتان منفصلتان / جهتان متقابلتان
نتلمس هنا جمالية المفردة الشعرية وعمق الرؤية في أعطاء تفسير للواقعة السردية وصداها الذي يمتد شرقاً وغرباً للوصول الى الجوهر والشكل الفلسفي .
أي جوهر الوجود وكما يرى أصحاب التحليل النفسي فإن الشخصية المحاورة في البوح الشعري تمر بمرحلة ما يسمى المرحلة الفمية والتي تمتاز بأنها مرحلة يمر بها الطفل بما يخفف من توتره بتمركزه حول الفم بالابتلاع أي كما في الرضاع والشعراء بحسب مقولة أصحاب مدرسة التحليل النفسي2) ) أشخاص توقفوا في نموهم عند حدود هذه المرحلة وتتسم آثارها لديهم بشحنة أنفعالية هائلة مثل الطفل الذي يتوهم أن أمه حرمته وأمتنعت عن الأعطاء أو بسبب قساوة الفطام مما يولد شعوراً هائلاً بخيبة الأمل ويبتدأ عنده مظاهر التوحد بين الأنا والواقع فتوهم أن الواقع جزء منه وهنا أيضا يوحد بين الأنا والأم فتوهم أنه يستطيع أن يعطي وبهذا فلا حاجة له بالأم .
وهذا ليس سوى آلية دفاعية يخفي بها رغبته اللاشعورية . والشاعر ينطبق عليه بالضبط كل هذا . فيتوهم نفسه أنه يبدع الكلمات الجميلة فهي بديل عن (لبن الأم) ورحم الأرض التي أقتلع منها وأعظم انتصار يفرح له هو أن ينتصر على الأسلوب أي إنه يتمكن من العطاء فإن ذلك إبعاد للأم – الوطن التي سببت له الخيبة العميقة في أغوار نفسه .
وأشد أشجانه عندما يجف مداد إبداعه وبه يخرس صوت الذات الشاعرة والتي تمثل صوت الأنسانية الثائرة على واقعها المرير. إن المتأمل للنصوص الشعرية في ديوان عقيل منقوش يجعل المتلقي ينطلق من يقين تثبت أن الذات الشاعرة على وعي كتابي لم يأت أعتباطاً وأنما جاء من وعي خاص بالتشكيل الشعري ودوره في توليد شعرية ناضجة ومؤثرة في متلقيها تمنح من عبق قراءتها قدر هائل من الابحار في معانيها وتفكك صورها لتعيد بناءها نصوص جديدة لصيرورتها نافذة يُدرك أرتباطها بعالمين داخلي وخارجي في آن.
1- ديوان (غدٌ يتأخر قليلاً ) – شعر – الغاوون للشاعر المغترب عقيل منقوش والذي صدر عن دار الغاوون للنشر والتوزيع / لبنان – بيروت – الطبعة الاولى 2013 وعقيل منقوش خريج الجامعة المستنصرية /آداب اللغة العربية عام 1990 وغادر العراق ويعيش في أستراليا منذ العام 1994 .
2- ينظر: لمزيد من الاطلاع الفن البعد الثالث لفهم الإنسان أ.د حسام الألوسي بغداد 2008 سلسلة كتب ثقافية – بيت الحكمة العراقي .



















