تناقضات – نصوص – مزهر جبر الساعدي

قصة قصيرة

تناقضات – نصوص –   مزهر جبر الساعدي

بعد أن نامت أبنتي ،  وضعت الكرسي قرب النافذة المشرفة على الطريق ،  لأنظر الى الليل .  تركت شتاين ألبوم صور العائلة ،  على مقربة منه ،  دفتر يوميات زوجي ،  وضعتهما على المنضدة الصغيرة ،  قرب سريرها المحاذي لسريري . كانت قبل دقائق تقرأ في اليوميات . لم أعكر عليها هوسها في قراءت يوميات أبيها ،  لأنشغالي بأدخال تصويباتي على القصة القصيرة التي كتبتها قبل أيام . الأوراق التي أنتهيت من تعديل بعض جملها هي الآن في حضني ،  يتماوج عليها النور الساقط من المصباح المعلق على الجدار ،  أعلى النافذة .

أعدت قراءت  القصة لمرات ،  في الأخير اقتنعت بأنها أكتملت . ثم رقمت صفحاتها ووضعت الأوراق على رف النافذه أمامي ،  عدلت من وضعها ،  مخافة سقوطها الى الأرضيه تحتي ،  لأن نهايات الأوراق أصبحت خارج الرف ،  مساحته أصغر بقليل من مساحة الأوراق .  أسترخيت على الكرسي ،  أعب الهواء عبر النافذه المفتوحة الى صدري بشهقة كبيرة . عندها أخذني الليل أليه ،  لتجوب عيوني الطريق ،  أسفل مني . ثم أصبحت على الرغم مني بين قطبين لهما قوة ،  تشدني أليهما . الليل والصور التي رسمتها كلماتي ،  وما يأتيني في هذه اللحظة من الاثنين ،  أصوات ووقائع  من أزمان قريبة وبعيدة وأماكن مختلفة . أحاول أن أفك روحي من قيودهما ،  أركز على الطريق . ترشدني عيوني الى رجل يمشي وحيدا في الليل ،  على الطريق ، تحت النافذه . يغمرة النور الهاطل عليه من العمود  ،  أمام النافذة ،  أتابعة للحظات بعد ذلك يغيب عني في الظلمة ،  الى الزاوية البعيدة . أترك الطريق وألج الى داخلي . سحبتني أصوات قصتي وصور أخرى ،  أسمعتني ما يطوف في رأسي  من وقائع نابعة من مخي ،  في حقيقتها مكونات لوجود شبحي قادم من واقع ما كنت فيه وما صرت عليه ،  محبوس داخل رأسي ،  فضاء حركته الوحيدة ،  روحي وكلمات قصتي هذه . واحدة فقط تختلف عن الأخريات ،  هذه الواقعة تواءمن مع حادثه مؤلمة ،  حدثت في الواقع أثرت على وجودي هنا . أين ذهب الرجل الوحيد في هذا القطع الأخير من الليل ؟ يأتيني الجواب :ــ أنه موجود في مكان ما من الطريق ،  لكن الأكيد أنه في العراء ،  لا أحد يفتح الباب في هذا الوقت ،  ألومني على  كلماتي هذه ،  لا مكان له في أي وقت ،  وراء الأبواب .  أعادتني أذاني ومتحسسات جسدي الى الطريق ،  أهتز الكرسي تحتي ،  أنتشلني مني ،  مر رتل من الشاحنات العملاقه تحت عمود النور المواجه لشباك صالة شقتي ،  محمل بالدبابات ،  مسرع بأتجاه القاعده البحريه . أتفكر :ـ متى يصل ؟ ربما في الساعه الأولى للصبح ،  يبعد هذا الطريق عن بداية الطريق الساحلي أقل من نصف ساعه . من بداية الطريق الساحلي الى القاعده أكثر من ساعه بقليل ،  عليه يصل الرتل الى القاعده في وقت أقل من ساعتين .

هي ذات القاعده ،  في خريف عام 1973 ،  نزلنا على أرصفتها ،  حملتنا باخره أمريكيه . رغم تقادم السنوات ،  الصور لا تفارق ذهني أبدا ،  واحده تلغي الأخرى ،  أستمرت السنوات تتدافع داخل رأسي ،  التزاحم فيما بينها ،  أحيانا يربكني فيشوش رؤيتي ،  هذه الحاله لا تستمر طويل   أ ذ ينقذني عقلي ،  يتدخل  في الوقت المناسب ،  ليدلني على اليقين .. في هذا الليل ،  في هذه اللحظه ،  سمعت صوت دماغي من داخل رأسي ،  عندما ظهرت الصور الشبحيه أمامي بأصواتها القادمه من الزمن البعيد ،  لتعرفني بمعاني الكلمات ومدلولاتها ،  ولأني متوجعه وقلقه حاولت  أبعادها عني لأرتاح ،  لم أتمكن أذ عاد بقوه شعوري المخيف ،  عندما صعدت على السلالم الى الرصيف ،  مع كل خطوه شعرت بالضياع . رغم أزدحام الباخره بالناس من الرجال والنساء والأطفال ،

وجدتني أتقدم  خطوات وراء زوجي ،  يحيط بنا الفراغ ،  أستمر أحساسي هذا لدقائق ،  أخذتني منه محادثه بالقرب مني لبحارين أمريكيين :- لقد قمنا بعمل أنساني ،  أنقذناهم من الموت .. لم أدر رأسي أليهما ،  لأن عقلي نقلني من لحظتي هذه الى شقتي في المجمع السكني الخاص بالضباط المهندسين في الجيش التشيلي ،  نقلت أذاني الى رأسي ،  دوي الطائرات في السماء ،  فوق المجمع الحكومي ،  حدقت عبر زجاج شباك شقتي المشرفه على الطريــق،  ما الذي يجــــــري ؟.. أخذت أنصت :-

من بعيد سمعت أصوات إطلاق الرصاص ،  إطلاق كثيف قادم من المجمع الحكومي،  يبعد أقل من مئتي متر . أنتبهت الى أن زوجي لم يعد كعادته في هذا الوقت .. فتحت المذياع :ـ…. نقدم الاخبار من صوت أمريكا …………………………………………………………  تم قتل سلفادور الليندي ..

ــ أمي ،  ألم تنامي ،  أوشك الليل على الأنتهاء .

ــ تأمل الليل  يريح أعصابي ،  بالأضافة الى أني مجازة في الغد

غطت أبنتي رأسها ،  عادت الى النوم .

تركتني مرة اخرى ،  في الليل ووحشة الطريق تحتي . لكن سرعان ما عادت تتنازعني الرؤى ،  مثل ما يحدث معي باستمرار في صراعي معها ،  أحاول أبعادها عني ، من غيرأن أفلح في جهدي . أذ أجبرتني على الأستماع أليها ،  بدء الطرق فجأة . على باب شقتي ،  لم اتوقع زائراً في هذا الوقت من الليل ،  أستمرت الطرقات ،  شتاين أيقظتها الطرقات ،  نهضت من فراشها ،  أصبحت قربي ،  أنتظرتني أن أتحرك وأفتح الباب ،  لم أتحرك ،  تواصل الطرق .

توجسي سمرني في مكاني ، ألمني ،  عصرني بقوه ،  كدت أسقط ،  ركزت أرادتي بقوه على جسدي ،  قفِ منتصبه . رغم هذا ،

سيطر على نفسي أضطراب شديد ،  لم أقوَ على التخلص منه ..

ثم أنتهبت الى توقف الطرق وأنفتاح الباب ،  وقف أمامي سيفيرو ،  شتاين أبنتي   خلفه ،  ثم رجعت الى الباب وأغلقته .

سحبت الكرسي من الزاوية وقلت له :ــ تفضل أجلس ،  جلس على الكرسي الأخر ،  على مقربه منه.

أقلقني في جلسته أمامي ،  أنا في الأصل معرش في أعماقي ،  الخوف والقلق .

ظل يفرك كفيه بلا توقف ،  يبتلع ريقه بين الحين والاخرى ،  أزداد هلعي من حركاته ،  لا يستقر ،  يتحرك على كرسيه ،  حركة قلقة ،  واضحه تماما .

أنتظرت منه أن يبوح بما يحمل من أخبار ،  بالتأكيد خاصة بزوجي لأنهما يأتون معا ،  الغريب أن يأتي سيفيرو وحده ،  لم يأت أوغسطين ،  زوجي معه ،  لم يقل أي شيء . هذا التردد ،  جعل قلبي يركض في جوف صدري ،  لأيقافه ،  أخذت أتعارك معه ،  هذا الصراع ،  غيبني عن لحظتي هذه ،  أخذني الى الجدار أمامي ،  حدقت فيه ،  أرعبتني المفاجأة  رأيت أوغسطين يتقدم بخطوات نحو النافذة ،  زاد رعبي ورهبتي عندما أخذ يتلوى ويمسك بطنه بكلتا يديه .

تغلبت على رعب نفسي وسألته :ــ ما الذي يؤلمك ،  يبدو أنك تناولت طعام الغداء خارج البيت فأضر بأمعائك ،  لم يجبني ،  تركني في الباب الذي وصلته بعد لحظه رؤيتي له ،  عبر الممر الكائن الى يمين باب الشقة ،  بأتجاه سلم العمارة . تبعته ،  لم أ لحق به أذ سبقني في النزول من السلالم الى الطريق.عندما وصلت الى باب العمارة ،  كان قد أبتعد عني كثيرا” ، في الزاويه البعيدة من الطريق .  ركظت في الطريق وراءه،  لأرجعه الى دفء الشقة واعرف منه ما الذي يوجعه ،  ما نوع الطعام الذي تناوله ،  وافهم منه سبب هروبه مني .لم أنتظر تفسيرات عقلي ،  أذ أخذت أقدامي ،  تزداد ظرباتها على وجه الشارع بسرعة ، كالمجنونة أخذت أدور في الطريق ،  أبحث عنه ،  لم أعثر عليه ،   صحت :ــ أين انت ؟. أرجعني أليهم ،  صوت بكاء عالي ،  أبنتي ،  شتاين تبكي بحرقة ،  الدموع تنسكب في فمها مع النشيج .

عاود الحديث ،  بصوت ضعيف ملؤه الحزن والألم قال :ــ مات بعد أيام … ثم أنقطع عني صوته ،  قطعته شتاين ،  عندما قالت :-

ــأمي أنهضي من الكرسي ،   يبدو أنك لم تنامي ،  أدخلي الحمام وأغتسلي لتتجدد طاقتك ،  ريثما أحظر طعام الفطور .

ثم أعطتني ظهرها ودخلت المطبخ .

أطرقت برأسي الى الأسفل ،  أوراق قصتي مبعثرة على الارضية ،  تحت الكرسي .

جمعتها بدون تنظيم .

طالعتني الصفحه رقم ثلاثة  ،  جذبتني أليها ،  رغبه في نفسي ،  أجبرتني على أعادة قراءتها . قرأت :ــ

عدنا من مقبرة الولاية  بعد أنتهاء  مراسيم دفن أوغسطين ، زوجي،  معي أبنتي ،  لم يفارقني سيفيرو وأبنه ببيانو . دخلنا الأريعة الى الشقة ،  جلسنا في الصالة ،  أمسكت السنتنا رهبة الموت والدفن .

طالعتني الوجوه ، مكفهرة ،  لا حياة فيها ،  شاحبه ،  كأنها مصنوعة من الشمع : ٍسألت نفسي :ـ لماذا يحدث كل هذا ،  ولماذا لا تأخذ الحياة مسارات أخرى ،  أكثر بهجة ، أين الخطأ ،  في الحياة أم فينا ،  أم في الأخرين . في هذه اللحظة سمعت شتاين تقول بطريقه الرأي والسؤال معا :ـ

ــ في حالة والدي كما أخبرتني ،  تعرض لتسمم غذائي ،  أعرف أن ذلك ممكن علاجه ،  بغسل المعدة،  اتسأل :ــ ألم يقوموا بذلك ،  أصدقني القول .

ــ الأمر حدث بغته ،  في ساعة متأخرة من الليل ،  أخبرت والدتك ،  لم تكوني معنا عندما حدثتها ،  كنت تواصلين البكاء في المطبخ بلا توقف . مع ذلك ،  اعد ما قلت مع أن الأمر لو ترك لي لما أخبرتك ،  حتى لا يؤلمك الأمر مرة أخرى ،  لأنك تألمت كثيرا خلال الأيام السابقه:ــ

ــ أوغسطين والدك ،  صاحبي ،  تعرفين عمق علاقتي بة ،  عاد بعد منتصف الليل ،  كنت نائماً في الفراش،  لم أشعر به عند عودته .

في الصحراء ،  على بعد امتار من المخيم .من عشاء مع براون وأخرون ، كنت على معرفة به ،  دعاني براون رئيس المهندسين للمشاركه فيه ،  رفضت بسبب تعبي أثناء النهار ،  لأن الشركة طلبت أنجاز الأنبوب الناقل للنفط العراقي الى ميناء ينبع على البحر الأحمر بزمن قياسي  ،  رغم أن المسافه طويله جدا .

المهم أعود الى أيضاح ما تريدين مني :ــ أيقظني أوغسطين من نومي ،  رأيته يتلوى أمامي ويمسك بطنه بكلتا يديه ،  ألمني وضعه ،  أخذته الى طبابة الشركة ،  حاولوا ،  لم يتمكنوا من أنقاذه ، مات أمامي ، تلك اللحــظة لا يمكن أن أنساها أبدا .

طبيب الشركه قال :ــ من سوء حظه ،  لم يشعر بتوعك في الساعات التي تلت تناول الطعام ،  لذلك تمت خلالها عملية الامتصاص . ثم فاجئتني شتاين واقفة على رأسي وهي تقول :ــ

ــ أمي ،  ألم تغتسلي ،  الفطور جاهز ،  أسرعي رجاء” .

أعدت ترتيب الأوراق حسب الأرقام ووضعتها في الحافظه .

أغتسلت بسرعه ،  ثم جلست مع أبنتي حول مائده الأفطار ،  أكلت بلا شهية ،  بلعت الطعام لأرضاء أبنتي .