تقبيل الأيادي

تقبيل الأيادي
حسن حنفي
ليست الثورة فقط تغيير النظام الشعب يريد إسقاط النظام . وليست أيضا إسقاط الرئيس أو إعدام السفاح الثورة تريد إسقاط الرئيس ، الثورة تريد إعدام السفاح . وليست كذلك تغيير المؤسسات الدستورية، مجلسي الشعب والشورى، اللجنة التأسيسية لوضع الدستور، الانتخابات الرئاسية، عودة الجيش إلى الثكنات، وإشغال الناس بالانتخابات وصراع الأحزاب على المناصب بدلا من تحقيق أهداف الثورة في أقل وقت ممكن. وليست أيضا تحقيق بعض أهداف الثورة دون غيرها، فمازال المجلس العسكري له وجهان وجه مع الثورة في الظاهر، ووجه مع النظام السابق في الباطن. بل الثورة عادات وممارسات جسدية وقولية. وهي ليست مجرد حركات بل هي رموز لها دلالات على العبودية والخضوع للسلطان، تعظيمه وتمجيده وتفخيمه لدرجة التأليه. الثورة سلوك يومي في كيفية التعامل مع الرئيس قبل إسقاطه وعدم انتظار دخوله بين القضبان للتشفي فيه والانتقام منه بعد أن قتل وعذب واعتقل معارضيه. الثورة إعادة تربية الناس على كيفية التعامل معه استقبالا وحديثا على قدم المساواة كلكم لآدم وآدم من تراب . الكل يموت ويُغسل ويكفن ويوارى التراب. ولا تمنع عظمة مقبرته والسياج حولها والحراس أمامها من تحلل الجسد والبعث والحساب والعقاب مثل باقي البشر.
وأول علامات العبودية للسلطان حركات الجسد. وهي ليست مجرد حركات خارجية بتغيير وضع أعضائه بل تدل على حالات نفسية من الخوف والارتعاش. وتدل هذه الحالات على وضع الذل الذي يشعر به المواطن أمام الرئيس. والذل يدل على العبودية من جانب والتأليه من جانب آخر. فالجسد الذي يقوم بوظائف المعاش في العمل باليد، هذه يد يحبها الله ورسوله ، فليس أفضل ممن أكل من عمل يده، والسعي بالقدم اسعى يا عبد وأنا أعينك ، والتصويب بالعينين في الرماية، والسماع بالأذنين في الموسيقى، والشم بالأنف في العطور، يؤدي وظائف أخرى لتعظيم الرئيس افتعالا ولخدمته حتى لو توقفت باقي الوظائف الطبيعية.
وأول حركات الجسد لتعظيم الرئيس الانحناء أمامه. وتختلف درجات الانحناء طبقا لشدة الخوف، ربع انحناء إذا كان الخوف نسبيا، ونصف انحناء إذا كان الخوف شديدا. والعيون لا تنظر إليه بل إلى الأسفل، نحو الأرض لأنه عيونه نفاذة تبعث على الإرهاب والخوف. وقد كان بعض الناس يغمى عليهم وهم في حضرة ديجول الرئيس الفرنسي لما له من حضور في الوعي الفرنسي. فهو قائد المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، ومنقذ فرنسا من عدوانها على الجزائر واحتلالها له، والتسليم باستقلالها بعد انتخابات حرة لشعب الجزائر. وكرر نفس الشيء مع السنغال بتخيير الاثنين بين أن يكون جزءا من فرنسا أو الاستقلال مع الانفصال أو الاستقلال مع التعاون. والانحناء يعادل الركوع في الصلاة، وقد يصل الانحناء إلى درجة السجود مثل السجود في الصلاة، ووضع الجبة على الأرض. وهو ما يحدث أحيانا في اليابان من احترام المرأة للرجل، زوجا أو ضيفا، في المنزل أو في المعبد. وتظهر حركات الجسد أيضا في قيام الحاضرين له إذا أتى، وجلوسهم بعد أن يجلس، دون الاكتفاء بالتصفيق أو الهتاف. والشائع هو التقبيل من أهل الحظوة ودائرة الحكم. ويتفاوت التقبيل بين الوجنتين بلمس الشفتين أو في الهواء أو لذبابة الأنف بالرغم مما قد يوجد عليها أو حولها من مخلفات التنفس أو ما يصاب به الرئيس مثل باقي البشر بالبرد فيصيب رجال الحكم. وقد يكون التقبيل للأكتاف حتى لا ترتفع رأس المقبّل عن مستوى رأس الرئيس. ويكون التقبيل مرة واحدة وليس مرتين كما يفعل باقي البشر. يكفي المقبّل شرفا أن يقبل مرة واحدة وليس مرتين. وقد يكون التقبيل، إذا كان الملك فوق الحصان في عيد العرش، لحوافر الحصان مما يتطلب سجود زعماء القبائل. وإن كان زعيم الزعماء فإنه يقبل قدمي الملك المدلتين على جانبي الحصان مما يتطلب أيضا الركوع، وتقبيل قدم واحدة وليس القدمين. ويكفي ذلك شرفا. والتقبيل الشائع للأيادي التي يرفعها الملك بتثاقل مما يقتضي أيضا انحناء أهل الحكم. وفي هذه الحالة لا فرق بين الملك والملكة أو بين الرئيس وزوجه في تقبيل الأيادي سواء في حفلات الاستقبال الرسمية أو عند القدوم والاستقبال وهو في الطريق إلى كرسي العرش.
وقد يتحرك الجسد كله إلى علامة للتعظيم بالسير وراءه لحمايته من الخلف سواء كان على الأقدام إذا كان في البهو والمسافة قصيرة أو كان في العربة في موكب والمسافة طويلة. وقد يكون السير أمامه لتوسيع الطريق ولدواعي الأمن من الألغام المخفية التي تستهدفه. ويكون السير بجواره لحمايته من الاعتداء عليه من أحد جانبي الطريق. ولو كان بالإمكان السير من فوق لحمايته من القصف الجوي لحدث خاصة لو كان السماء ملبدا بالغيوم يصعب على أحد فيه الرؤية. وإذا كانت العربة يكون جري الحراس وراءها أو على حافتيها واقفين على درجي العربة، يمينا ويسارا. وفي حالة المطر أو القيظ الشديد يمسك الحارسان على حافتي العربة بالمظلات الكبيرة لحماية الرئيس كالغمامة التي ظللت الرسول وهو في رحلته إلى الشام. وتوضع حواجز على جوانب الطريق لمنع العامة من الاقتراب. وتسد بعض الطرق. ويُغير سير المرور، ويُعطل كلية أحيانا بالساعات حتى يمر الرئيس أو يصل مكان زيارته. والناس تسب وتلعن لتأخيرها عن مواعيد عملها. ومنهم المريض الذاهب إلى المستشفى، والطالب الذاهب إلى معهده. وتنظف الطرق التي يمر بها الرئيس ليلتها وكأن النظافة حكر عليه، والقمامة قد تعود عليها الشعب. ويُعاد دهان الأرصفة بالأسود والأبيض لتجميل حافتي الطريق. وهو ما فعله الثوار أثناء الثورة بعد انسحاب الشرطة ورجال الأمن والقيام بدورها. وبسرعة فائقة تصلح الأرصفة ويُعاد تركيب البلاط المخلوع على الرغم من أن المحافظة معروفة ببطئها في تنفيذ الخدمات أو إهمالها كلية.
وبالإضافة إلى الجسد هناك اللسان. وزيادة على حركات الأعضاء تضاف الألقاب صاحب الجلالة، صاحب الفخامة، صاحب العظمة، صاحب السيادة، صاحب العزة. وهي ألقاب لا تطلق إلا على الله في أسمائه الحسنى. فالجلالة والفخامة والعظمة والسيادة والعزة لله. وهناك السيد الرئيس، سيادتك، معاليك. في حين أن أول ما فعلته ثورة يوليو 1952 إلغاء الألقاب المدنية مثل باشا ، بك ، وهي ألقاب تركية في معظمها. ولم يبق إلا أفندي التي تقال للجميع.
وكذلك تكثر التعبيرات التي تستجيب له عند الطلب مثل في خدمتك ، أنا خدامك ، افندم ، طلباتك . وينخفض الصوت وقد تتلعثم الكلمات بالرغم من قلتها. وقد كان العربي قديما يدخل على كسرى على حصانه غارزا رمحه في بساطه الوفير يدعوه إلى الإسلام. فالإيمان بالله يعطي الشجاعة ويدفع إلى نصب القامة وعدم السجود إلا لله. كما يجب بألفاظ الموافقة مثل نعم ، حاضر ، تمام وكأنه لا اعتراض عليه، ما شاء فعل.
ولم يمنع ذلك التأليه للرئيس من الموت الطبيعي لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ كما حدث لرئيس الجمهورية الأولى. ولم يمنع ذلك من الاغتيال، من إطلاق النار عليه، من جنده، وفي أوج عظمته، في منصته، والجيش يمر أمامه وهو في خيلاء الزي العسكري المرصع بالنياشين كما قال فرعون لقومه أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ، وهو ما حدث لرئيس الجمهورية الثانية. ولم يمنع ذلك من ثورة الشعب عليه والخروج بالملايين في الميادين عليه، والتوجه إلى محاصرة القصر، وإجباره على التنازل ثم إدخاله قفص الاتهام كما حدث لرئيس الجمهورية الثالثة الذي مازال يحاكم باسم الشعب وقضائه. وكما يمكن أن يحدث لأي رئيس قادم يتكبر ويتأله ويعطي لنفسه من الألقاب ما لم يعطه الله لنفسه في أسمائه بعد أن تعلم الشعب التخلي عن ألقاب العبودية وتعلم أن الناس ولدوا أحرارا فلا يستعبدهم أحد.
لقد بدأ تقبيل الأيادي وإعطاء الألقاب وكل مظاهر التعظيم والتفخيم للرؤساء كعادة منشؤها الخوف وإذلال النفس بلا داع، حرصا على منصب أو مشاركة في الفساد. ثم تحولت العادة المتبعة إلى قانون، من يخرج عليه يفقد منصبه أو يحاكم بتهمة العيب في الذات الملكية أو الأميرية أو السلطانية. وهي جريمة لا تغتفر، وإن كان التجديف على الله يمكن أن يُغتفر. وقد حذر القرآن من ذلك. ألا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ . وطاعة الرؤساء نوع من العبادة والتأليه لهم. ولماذا لا ترن في أذننا دائما قولة عمر بن العاص لابن الأكرمين والذي ضرب مواطنا عاديا اعتمادا على حسبه ونسبه لماذا استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ ، وإن كان العهد بعيدا فلماذا لا ترن في أذننا دائما قولة عرابي أمام الخديوي توفيق إن الله خلقنا أحرارا. ولم يخلقنا عقارا. والله لا نورث بعد اليوم ؟ هذا يحتاج بعد الثورة إلى التحول من العادات القديمة إلى عادات جديدة، ومن عصى الأب في الأسرة، والمعلم في المدرسة، والتهديد بالقبض عليه في الجامعة أو بالاعتقال بعد التخرج إلى عادات أخرى يستمع فيها الأب إلى رأي الطفل، والمعلم إلى اعتراض التلميذ، والأستاذ إلى حجة الطالب، والرئيس إلى اعتراض المواطن. هذا هو درس الثورة.
/6/2012 Issue 4218 – Date 5 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4218 التاريخ 5»6»2012
AZP07