تصميم النص من الداخل – نصوص – علوان السلمان

رثاء الطين لآمنة عبد العزيز

تصميم النص من الداخل – نصوص – علوان السلمان

الرؤية المكثفة سياقيا وتركيبيا..الصور المكتظة بمضمونها الانساني والفاظها المتوهجة..كلها عناصر تشكل جماليات النص الشعري الذي يستنطق الواقع بمعطياته وتناقضاته المتصارعة  وبتجاوزه بطريقة ايحائية متكئة على لغة الفاظها بعيدة عن التقعر والغموض..وصور شعرية تدغدغ المشاعر وتحرك الذاكرة..فضلا عن النبرة الموسيقية المنبعثة من ثنايا الالفاظ (داخليا وخارجيا)..كون النص الشعري يمثل(عملية الحياة والحركة العضوية باكملها والتي تسير في الكون) على حد تعبير هربرت ريد..

    و(رثاء الطين) المجموعة الشعرية التي نسجت عوالمها النصية انامل الشاعرة امنة عبدالعزيز واسهمت دار الثقافة الكردية في نشرها وانتشارها/2015..كونها تشكل نسقا بنائيا وشكلا من اشكال الحداثة الشعرية التي تحاول مجاراة العصر بمتغيراته ومتطلباته بلغة تتسم بالايجاز والتكثيف الايحائي مع تركيز على انتقاء الالفاظ القادرة على التوصيل والتواصل..باعتماد هندسة نصية وتصميم من الداخل فكريا وفنيا بوحدة عضوية تحتضن فضاء النص المتحقق برؤى الشاعرة الكونية..واحساسها العميق المعبر عن تجربة حياتية..ابتداء من العنوان الدلالة السيميائية المتشكلة من فونيمين دالين على شعرية وامضة تشير الى حمولة نفسية تعبر عن صراع الذات والموضوع..برمزية الطين الخلق الاول والمنتهية برثائه الذي يكشف عنه النصان الموازيان(المقدمة والاهداء)(حين ينادي الله في ملكوته للقيام من رقاد التراب ساكون اول من يعلن انك حبيبي بلا خطيئة..)ص7..

 مذ كنا صغارا كاسنان النهر

رافقتنا افواه الحرب

كان النهر قريبا من الحب

على بعد تنهيدة من طين

على بعد رقصة غجرية

على بعد اصابع..

ها هي  الطرقات

تتبغدد بالضحايا

والسماء مرايا

تمشط وجوه الارواح

حبلى خطوات الموت

تجهض كل حين صمتنا    /ص11

  فالشاعرة تقدم نصا رؤيويا مكتظا بعمق الاحساس وصدق التجربة مع تجاوز المالوف والانطلاق في فضاء الوجود والطبيعة..فترتب الاشياء وتنسقها كما تريد لتشكل بناء ها المعماري الذي يتبين اثره من خلال التوازي الناتج من تفاعل مكونات اللغة والدلالة والايقاع الداخلي والخارجي من جهة وخاصية التكثيف الجملي باعتماد السطر الواحد قد يطول وقد يقصر والرمز السمة الاسلوبية التي تسهم في الارتقاء والسمو بشعرية النص وتعميق دلالاته من جهة اخرى..فضلا عن اعتماد درامية حركية تجمع ما بين الواقعي والتخيلي..

 لم يزل خيط الوجه ينسحب بصمت

ففي وجه النهر خيوط عابثة

الليل ينسل منه خيط الانين

ارجوحة آه تضج بالعطر

في زاوية الثمانين

تعبث ذاكرة الجداول

نساء بالوان المدن

تلك تخبيء لهفتها بوجهه

اخرى تمتطي اجنحة السماء  /ص83

   فالنص يمتلك قدرة تعبيرية وافق متسع الرؤى بتخطيه المبنى والمعنى في التعبير عن اللحظة الشعورية الخالقة لحقلها الدلالي المنحصر في ترجمة احاسيس الشاعرة وانفعالاتها باعتماد المقطعية الشعرية التي تشكل وحدة متداخلة الفعل الشعري والاستدلالي والانفعالي الشعوري..باعتبار المقطع عضو في كيان متعدد الاجزاء المترابطة بالفكرة والاطار الفني..النامي داخل بنية بوحدة موضوعية تكشف عن وعي شعري وعمق معنى..وقدرة على خلق الانزياحات..فضلا عن توظيف الطاقات الحسية والفكرية ونسجها  بايجاز جملي تسهم في تحريك الذاكرة ونبشها كي تستنطق الصور المعبرة عن لحظة انفعالية تسجل الحدث الذي يحدد موقفا..كونها تعني ادراكا حسيا وعاطفيا لمحمولات مشكلات العصر والوجود..اضافة الى اعتمادها على مقومات واساليب تعبيرية كآلية السرد والحوار بشقيه(الذاتي والموضوعي)..

قال: فوق شبابيك وجهي

لعل كل تلك الغيمات تغازل همسي

قلت:وجهك..وجهي..غيمات ممطرة فوق وجه الارض   /ص195

  والتكرار الظاهرة الاسلوبية التي تعكس جانبا من الموقف النفسي والانفعالي الذي تفرضه طبيعة السياق الشعري بصفته احد الادوات الجمالية التي تشكل السياق التوكيدي..فضلا عن انه كون دلالي يشير الى قصدية في البوح لابراز الحيز الوجداني..وهناك التنقيط(النص الصامت) المعبر عن تقنية زمنية ووسيلة تعبيرية ترمز للمحذوف من التعابير التي تستدعي المتلقي ليكون فاعلا ومتفاعلا مع النص الشعري باستيعاب محتواه ودفقه الفكري والوجداني من اجل المشاركة في بنائه والكشف عن المسكوت عنه..اضافة الى تقنية الاستفهام الباحث عن جواب بغية زيادة فاعلية اللغة وتحقيق التواصل والتوصيل بين اطراف المعادلة الابداعية(المنتج /المستهلك)..

رغما عنه ابحث عن مدخل لحزني

حاولت ان افرح..اغني..

ارطب نفسي بشيء منه

في باحة الحزن رددت

(هذا آنه وهذاك انت)

فاغراني صو تي على البكاء

ابتسمت..فبكيت..

الى حد ما اشبهك

بالامس لاحقت روحك

من شرفة لشرفة

من دمعة لضوء

الى حد ما اشبهك  /ص56

  فالشاعرة تشتغل في بنائها النصي على العمق التصويري من خلال التمازج بين الحسي والذهني بتشكيل بصري يتحرك وحركة الذات وتحولاتها الشعورية فتقدم نصا (محملا بقدر من الحساسية) على حد تعبير هربرت ريد..يعبر عن ذاتها الانساني والذات الجمعي الاخر فتعكس القيمة الحقة للروح الانسانية بتركيزها على جمالية السياق ليكون خطابها محققا لوظيفته الانفعالية باستخدام الطاقات الحسية والعقلية والعاطفية عبر سبك شعري يفجر اللغة باستثمار خصائصها بوصفها مادة بنائية لصور ايحائية تتكيء على المجاز والاستعارة للتعبير عن لحظة التوهج..

   وبذلك قدمت الشاعرة في رثائها للطين نصوصا تكشف عن رؤية شعرية تعبر عن الحياة بمتناقضاتها الحاملة لهمومها وهواجسها التي ارتبطت بتلمسها الواقع الانساني وربطها الجدلي بين الشكل الحداثوي والمضمون الفكري..