تسخير الإقتباس والإستعارة إبداعياً‮ ‬- نصوص – حمدي‮ ‬العطار

الشاعر نبيل محمود في تفاحات إيروس

تسخير الإقتباس والإستعارة إبداعياً – نصوص – حمدي العطار

لا اعلم لماذا يذكرني الشاعر “نبيل محمود” بالشاعر الفلسطيني محمود درويش ! هل هناك تشابه بالاحاسيس ؟ تناغم بالافكار اليسارية؟ وعشقهم للجمال وقسوتهم على الطغاة والغزاة والخونة وأشباه الرجال؟ أيقاع كلماتهما القوية المعبرة أم ميلهم للمشاكسة  للوضع السائد ؟ انصافهم للمرأة وذوبانهم في حب تراب الوطن؟ كل هذه الخصال تتجسد في قصائد ونصوص الشاعر نبيل محمود عن كتابه الصادر سنة 2015 من دار ومكتبة الأمير بعنوان (تفاحات أيروس).

هواجس ومخاوف رقيقة

لا يخفي شاعرنا مخاوفه من قوى الاستبداد السياسي والاجتماعي والعاطفي ،ذلك الاستبداد الذي يغلف نفوذه بسلطة الدين برغم من غياب الايمان الحقيقي بالمبادئ التي تعد منطلقات تمثل العادلة والسلام والتعايش بين الناس ،هو يرمي في كتاباته الى ان يكون الجمال سائدا مهما كان مصدره ويطلق عليه بالجمال (المنثور) وهنا استعارة الى عادات شعبية تنثر الحلوى والنقود على رؤوس الناس في حالات من الفرح والسعادة تطلق عليها (طشاروهليه) هو يدعو ان يكون الجمال منتشرا في كل زاوية وزقاق وبيت ليشع (كغموض العطر الذي يفوح من حديقة) وأذا كانت للسياسة همومها وهواجسها فشاعرنا السياسي لا يرى الغنائم والمناصب التي يحلم بها سياسيو الصدفة بل هو يرى الحل في التمسك بالجمال ،ومن يعبر عن الجمال في الكون غير – المرأة-  النموذج ((المرأة التي تسير – حفيف ألوان وأجراس أعياد- تنثر حب السرور- وفي باحة الروح- يحط الحمام ويطير- ويتناثر ريش الحبور )) وحينما تتصاعد عاطفة الشاعر ويتعمق في التوصيف ينتقل من جمال الروح الى جمال التكوين الجسدي ((ذراعاها أرجوحة طفولة – والتفاتاتها نداءات مبهمة- انحناءات جسدها أفشاءات ملغزة- الخيال يفاقم المعنى بين الرؤية والرؤيا- تلك المرأة تشع هناك – وأصداؤها تضج هنايا من تشتعلين فتنة عند أنطفاء النهار- لا أجد ما يطفئني- حين يندلع العري في ثياب الليل)) -1- ص .7

رغبات مؤجلة لشيخوخة مبكرة

هاجس آخر تكشفه قصائد الشاعر هو مرور الزمن من دون تحقيق الاهداف او حتى الرغبات وهذا ما يجعله يستعين بذكريات الطفولة ومن منا لا يعاني من تناقص العمر وخيبات الزمن ،ومن هنا تكون رؤية الشاعر رمادية اللون (يغمرني الضباب الرمادي) وبين اللعب والثرثرة وأستنشاق العمر كأنه التبغ وهي أستعارة تذكرنا بقصيدة البغي للشاعر نزار قباني (ماذا بقي لي- غير هذا الكأس استهلكه- غير هذا التبغ يستهلكني) اما نبيل محمود فيجسد هذه الجزئية الانسانية ((كنت ألهو بألعابي الطينية- وفوق ملمسها الطري- أنقش منمنمات الطفولة- وأرسم طرقا ملونة وكائنات- تسكن الفنارات وتحلم بالبحر- دمى الطفولة تتفتت كالرمال- والأحلام تذوب في الدروب- وفيما الزمان يفضي الى التجاعيد- شيخ يثرثر ويمضغ تبغ عمره – في عتمة بيت متهالك)) -2- ص.11

الصندوق الاسود للشاعر

كل أنسان له أسرار واغلب الاسرار تمثل أخطاء وعيوباً يحاول أن يخفيها عن الاخرين لأننا في الشرق لا نقدر الاضطرار ولا نسعى الى التسامح والتغاضي عن الاخطاء بل نجعلها أساسا للتقييم والتعامل مع الاخرين حتى أننا نقطع طريق العودة (التوبة) ،لشاعرنا اسرار وصندوق اسود يكشف عنه بحذر ! ففي زيارته السرية لأعماق التاريخ يخرج لنا من القبو بنظرية تنصف (الحريم) وتدين (ذكورية الرجال) ((كان طعم الماء عذبا- تفوح منه نكهة العري البري- لأمرأة تغسل جسدها- من ثرثرة الرجال – والثوب الأحمر مهمل- على شجيرة الى يمين اللوحة)) -3- ص.13

وحينما يريد ان يخرج بحصيلة للمرأة عبر مسيرتها التاريخية مع الملوك والسلاطين والمحاربين والعشاق وحتى مع الصعاليك فلا تجد عنده ألا هذه المعرفة ((عرفت أنه تاريخ النــــــساء (الآخر)- عجبت كيف تبتسم النساء- وفي أعماقهن كل هذا النزيف؟!- خرجت مسرعا من ذلك القبو- ابتعدت وأنا أتامل بأسى- سيدة غائمة العينين- تذوي في جمالها الغامض- ما أجوف الرجال!)) – 4-ص.15

معادلة الحاكم والقطيع

مما لاشك فيه ان الشاعر في كل عصر يملك موقفا ،وغالبا ما يكون موقفه معرضا للسلطة ومختلفا عن الاخرين، لذلك يرى الشاعر بأن الذنب يمكن ان يتحمله الشعب اذا كان الحاكم غير جدير بالسلطة وبهذا فهو يدين الولاء غير الواعي ويقسو على الشعب الذي يسلم رقبته لمن لا يستحق ويعتقد بأننا نرتدي ثوب القناعة المزيفة ((تقنع بقناع الجميع – وأحجب سحنتك الفردية – فهذه حكمة القطيع- وحده الراعي يعرف دروبها وشعابها – وحقول العشب ومواقيت السقسي- فبحزمة عشب وبجرعة ماء- يصنع الراعي من المراعي اعظم وطن- ومن القطيع اطيب شعب- منذورا لأعياد الذبح)) -5- ص   29 هنا الاستعارة واضحة من الماغوط حينما يمثل الذئب الخاضع داخل القفص بالمواطن والقفص بالوطن!

اليأس والحزن مخرجات الحروب

لا يرى نبيل محمود في الحرب الا الموت والدمار للشــــعوب المغلوبة على امرها ،والقدر قد جعلها تحت رحمة تجار الحروب والحكام الظالمين ،فليس هناك غير الحزن واليأس وسقـــــــوط الدمعة “كان مرأب المدينة يغص بالجنود السمر..- وعربة بائع (حساء العدس) – تذكر برائحة الخنادق والثكنات- وسخونة الرصاص الأعمى- بائعة الشاي المتلفـــــــــعة بالسواد- ووجهها يذوب كالسكر الأبيض .. ليلة سقوط الدمعة” -6- ص 30 هنا استعانة الشاعر بمقطع لأغنية عراقية لها علاقة بالحزن وغدر الزمان والحنين الى الاهل والاحبة “أغنية شعبية تنوح في آخر الليل (اللي يون بالليل لزما اعله اسباب –لو دهر موجر بيه لو ذاكر أحباب) ” -7-ص30  وماذا بعد الحزن واليأس من أنتهاء الحرب غير انتظار الموت المؤجل والسخرية من القدر وأدنة الحكام المغامرين “يطهو الحكام شعوبهم-في قدر الأوطان- فالتاريخ جائع شره- لا يحيا ألا بالتهام حساء الشعوب.. قال الجندي المرح- لرفيق السلاح المتجهم:- هيا بنا .. فالخبر السعيد – اننا لن نمكث طويلا- في هذا العالم الحزين!”-8- ص.31

فقدان الوطن

يعاني شاعرنا من الاغتراب كثيرا ،فهو يبحث عن الالوان في الاشياء ويجعل الباحث اعمى  يجهل مغزى اللون الابيض كما في قصيدة (البلورة السوداء) “لم يكن يبصر غير السواد- كان الأعمى – يتلمس أعماق روحه- ويبحث ،عن الألوان والظلال- لرسم الحكايات” ويتصاعد عند شاعرنا هاجس البحث ليتحول الى البحث المضني عن وطن تقطعت اوصاله وليس من السهل العثور عليه متماسكا بعد الان ،ففي قصيدة (بحث) يرى الشاعر ان الانفجارات التي تحدث في بغداد لا تقتل البشر وتدمر البناء فحسب بل هي تمحو الوطن !” كانت الهزة هائلة..- ركضنا نحو بداية الزقاق- وعند الشارع الرئيس- رأينا الأشلاء متناثرة- والمكان متفحما-والفضاء دخان..-وجدت حفرة واسعة من العدم- لكنني لم اجد الوطن”.

            رغبات مكبوته

لا يخجل الشاعر في الكشف عما يعتري الانسان من رغبات مكبوته تجاه الحاجات الانسانية والعاطفية وجينما يحل الحرمان محل الاشباع ليس لدى الشاعر الا الخيال “واترقب الليل الشهي-القمر العاري يسبح بجسده الأبيض البض- وبشبقه اللامع يضاجع حلكة أمواج البحر.- في وحشتي القاتمة- في البيت العتيق- أعانق ومضة العري الطري- وأراقب مريا الأشواق المتكسرة- فوق سطح الماء=وهي تمضي بالرغبات المتحسرة- وتتلاشى في الافق البعيد..”9 ص .40

هل انتهى زمن الثورات

تساؤل يطرحه الشاعر على تقاسيم وجه مكسيم غوركي الروائي الشيوعي السوفيتي صاحب رائعة (الام) ومن منا نحن لا نعرف من هو مكسيم غوركي كانت روايته نضعها تحت المخدة لنحلق في فضاءات معاناة الفقراء في روسيا القيصرية ومنها كانت شرارة الثورة !علينا ان نطيل النظر في عيون ماركس ولينين وغوركي وحمزاتوف هؤلاء يمكن قراءة ليس التاريخ فحسب بل حتى مستقبل البشرية !

 وهذا ما فعله “نبيل محمود” عيناك ضيقهما الألم والضوء الشحيح- ولم تخدعا بأيما عيد- وجهك أخاديد وتجاعيد- كأمواج روح متوجعة …. بين صافرات لمصانع وهتافات المسحوقين- هل تبددت التعاسة- من أحشاء العالم الشقية-والأحياء المنسية؟- وهل زوق المرئي المنمق—بشاعة اللامرئي الممزق؟- وجهك يقول : أن في أعماق هذا العالم- المزيد من الخيبات والثورات..!10ص42 ويغذي الشاعر معاناته في التعبير عن الام الموهبين الذين لا يستطعون الحصول على وجبة غذاء ساخنة لأن ابداعاتهم ونتاجاتهم الفنية والادبية ليس لها ثمن في هذا “السوق الرخيص “ما رأيك بهذه اللوحة؟- هل تشتريها؟- أبتسمت رغم أن رائحة الشواء- كانت تعتصر أحشائي-لا مال لدي.. معي قصيدة.. – هل تقايضني بها؟قهقه وودعني بكلماته البذيئة-لا بأس ،أزدرد أنت قصيدتك..- وأضاجع أنا لوحتي.. – فهذه ليست الليلة الأولى- التي ننام فيها بلا وجبة عشاء_ أو ضمة حواء.. ” 11 ص44 . كتاب” تفاحات ايروس” بصفحاته    116 وبقصائده38   ونصوصه الخمسه يعد من المطبوعات التي ليس من السهل استيعاب كل ما جاء به نقديا لما يحويه من مفاهيم فلسفية عميقة وصور شعرية غريبة تم تناول بعضها في هذه المساهمة النقدية.

الهوامش

1-  قصيدة ضفاف  2- ايها الرمادي   3و 4- زيارة سرية 5 – القناع6 و7و- 8 ليلة سقوط  الدمعة – 9   الصخرة الرمادية 10- وجه مكسيم غوركي 11- قصيدة لوحة وقصيدة.